منهج العلوم الرياضية
رأينا في الفصل السابق أن العلوم الرياضية الأساسية (الهندسة والميكانيكا والحساب) قد عملت تدريجيًّا خلال تأريخها على تحديد موضوعها بدقة. فأصبح تركيبها يتَّسِم بانضباط يتزايد دون انقطاع، وهي تُعد اليوم بحق، بناء محكمًا إلى حدٍّ بعيد، ومما له أهميته، حتى من وجهة نظر الفيلسوف، أن نفحص سبب هذا الإحكام، وأن نتبين بوضوح دقة تسلسل التفكير الرياضي.
وفي نهاية الفصل ندرس الهندسات غير الإقليدية، وامتدادات فكرة العدد.
أولًا: المبادئ
(١) فكرة المبدأ. ميَّز إقليدس في المبادئ بين البديهيَّات والمصادرات والتعريفات
إذ قُلنا إن الاستدلال الرياضي يتكوَّن من استنباطات دقيقة، وإنه هو الاستدلال الاستنباطي على الحقيقة، ففي قولنا هذا تكرار لصفةٍ أوضح من أن تستحِقَّ مزيدًا من التأكيد، حتى بالنسبة إلى أبسط أنواع التعليم. فصحة النظرية الرياضية تتوقَّف على صحة الفروض، على أن تكون قواعد الاستنباط قد طُبقت، بطبيعة الحال، تطبيقًا صحيحًا. ولكي تصدُق هذه الفروض يجب أن يكون قد سبق البرهنة عليها، وهكذا دواليك. غير أننا لا نستطيع أن نتابع هذه الحركة الراجعة إلى ما لا نهاية، متعقبين سلسلة البراهين في الاتجاه العكسي. فليس ثمة استدلال دون معطيات أولية. ونقطة البداية هنا قضايا ليست نتائج لأي برهان، وتُسمى هذه القضايا الأولية بالمبادئ — وهي تستخدم أساسًا لبراهين النظريات الرياضية — ويميز إقليدس، في هذه المبادئ بين البديهيات والمصادرات والتعريفات. فلنتساءل إذن إن كانت كل هذه القضايا الأولية لها قيمة واحدة من حيث البداهة.
(٢) البديهيات (Axiomes)
كثيرًا ما نرى البديهية تُعرَّف بأنها قضية بلغت في ذاتها حدًّا من البداهة يجعلنا نعجز عن الاهتداء إلى قضايا أشدَّ بداهةً منها ليبرهَن بها عليها. ولقد اشترط «باسكال» للبديهيات أن تفي بهذه القاعدة «يجب ألا نتطلَّب من البديهيات سوى أمورٍ واضحة بذاتها كل الوضوح.» وأضاف، تبعًا لذلك، أنه «ليس علينا أن نحاول البرهنة على الأمور التي تبلغ بذاتها حدًّا من الوضوح يستحيل معه على المرء أن يجد ما هو أوضح منها ليبرهن به عليها.»
وإليك أمثلة لهذه القضايا: المقداران المساويان لمقدار ثالث متساويان. الكل أكبر من الجزء.
فنحن نجد في هذه القضايا مبادئ واضحة وضوحًا مطلقًا، وتصلح لكل الاستدلالات والتجارب.
(٣) الصادرات: Postulats
غير أن هناك قضايا أخرى لا يبرهن عليها، وتُتخذ بدورها أسسًا للرياضة، وذلك إلى جانب البديهيات التي تتصف بالوضوح التام، وتلك الأسس الأخرى تُسمى بالمصادرات، ومن أمثلتها مصادرة إقليدس المشهورة: لا يمكن أن يُمَدَّ من نقطة خارج مستقيم إلا خط واحد وواحد فقط، مواز لهذا المستقيم، ولقد حدث كثيرًا خلال التاريخ أن حاول بعضهم «البرهنة» على هذه القضية، أعني أن يجعل منها نظريةً تُستنبط من نظريات أخرى أو من بديهيات واضحة بذاتها ولكن لم ينجح أحد من الإتيان بمثل هذا البرهان.
(٤) النظرة الحديثة إلى فكرة «البديهية»
ولكن يجب علينا الآن أن نلحَّ في بيان مسألة فلسفية خاصة جدًّا تقوم الرياضة على أساسها. فقد رأينا من قبلُ أن بين البديهية والمصادرة اختلافًا كبيرًا في «الطبيعة». ولكن عندما يشرع الرياضي في استخدام هذه المبادئ في البرهنة على مختلف النظريات، متبعًا قواعد الاستنباط، فإنه لا يُشير إلى هذا التمييز بين طبيعتي المصادرات والبديهيات. فالمصادرة، وإن كانت تُفرض على ذهننا بوضوح مطلق، فإنها تؤدي دور «نقطة البداية المطلقة» بمثل اليقين الذي تؤدِّيه به البديهية. ويبلغ الأمر في ذلك حدًّا يجعل من الممكن البدء، في نظريات معينة، بمصادرات تصدم الحدس الساذج لأول وهلةٍ. وسوف نورد في هذا الفصل مثلًا لمصادرة كهذه، تصدم الحدس. ولكن، متى سلَّمنا بالمصادرة يجب اتخاذها أساسًا مؤكدًا: أي أننا نستخدِمها تمامًا كما لو كانت قضية بديهية في ذاتها. وبالاختصار، فالبديهيات والمصادرات تؤدي نفس الدور بعينه، وعلى أساس هذا الدور تبني نظريةً للبديهيات والمصادرات.
ولقد أطلنا الحديث عن هذا التغير الذي طرأ على معنى كلمة البديهية لأنه يلقي ضوءًا على صفة مميزة للتفكير الرياضي الحديث، فقد استبدلت بالأبحاث الدائرة حول طبيعة الفكرة، أبحاث حول «وظيفة» أو دور هذه الفكرة، وذلك تغيير هام في وجهة النظر يمكننا أن نجد له في فلسفة الرياضيات أمثلةً أخرى متعددة.
ولكن إذا لم يكن يتعيَّن تحقق شرط الوضوح الأولى في البديهيات، بمعناها الواسع، وإذا كانت تكتسب وضوحها من أمر يقرره الرياضي الذي يتخذ إحدى القضايا نقطة بدءٍ له، فمعنى ذلك أن من الممكن تنويع النظريات الرياضية، بأن نختار مبادئ أساسية مختلفة، وسوف نضرب لهذا التعدد مثلًا عندما ندرس، خلال هذا الفصل، تكوين الهندسات غير الإقليدية، ولكن علينا الآن أن نبين أن هذه الاختيارات المبدئية لا تقوم على أساس الفوضى أو التعسُّف، وأن مجموعة بديهيات نظرية رياضية تخضع لشروطٍ دقيقة كل الدقة، وكل هذه المجموعة من البديهيات تُسمَّى «نسق البديهيات».
(٥) صفات «نسق البديهيات»
ما صفات نسق البديهيات السليم؟
-
(١)
ألَّا تكون أية بديهية مناقضة للأخرى، أي يجب أن تكون على وفاق مع البديهيات الأخرى.
-
(٢)
أن تكون البديهيات كلها مُستقلَّةً بعضها عن بعض.
-
(٣)
وهناك صفات تخضع لها نظريات مُعينة، ولكنها لا تتمثَّل في كل النظريات الرياضية مثل صفة التشيع Saturation (وسوف نشرح معنى هذا اللفظ بعد قليل).
- (١)
يبدو أن الشرط الأول في غير حاجة إلى دليل. فنحن لا نتصور أن يبدأ الرياضي نظريته من قضيتين متناقضتين، ولكن قد يتفق أن يكون التناقض بين القضيتين مستترًا، وعندئذٍ يجب الكشف عنه، وإقامة البرهان عليه. والحق في إثبات عدم تناقض نسق البديهيات قد يكون أحيانًا مهمةً عسيرة. غير أن الرياضي يستعين على ذلك بمعيار، فقد ثبت أن نسق البديهيات إذا كان يحتوي على بديهيتَين متنافيتَين، فمن الممكن إثبات نظرية وضدها. فقبول مجرد تناقض «واحد» يُمكِّننا من البرهنة على كل شيء، ولننتبِه جيدًا إلى أننا نجعل لهذه الصفة معيارًا نظريًّا لا صِلة له بأي انطباع نفسي مباشر.
- (٢)
أما شرط الاستقلال، فقد يُفهم على أنه مجرد حرص على التميُّز الخالص والأناقة، ذلك لأن من البديهي أن المرء لا يفيد شيئًا إذا كرر، بصورة تتفاوت غموضًا، إحدى البديهيات التي ينبغي أن تصاغ بأكبر قدرٍ ممكن من الوضوح. ولكن وضع بديهيتَين تعتمد إحداهما على الأخرى، في مرتبة واحدة، فيه مخالفة لماهية نسق البديهيات ذاته. فإذا افترضنا أن نسقًا من البديهيات يتألف من أ، ب، ﺟ، د فإننا نقول إن البديهية «د» تكون مُستقلةً عن البديهيات أ، ب، ﺟ إذا لم يكن من الممكن استنتاجها منها. وعلى العكس من ذلك، تكون البديهية «د» متوقفةً على الباقيات إذا كان من الممكن إثباتها عن طريق البديهيات الأخرى، ولكن «د» تُصبح عندئذٍ نظرية، لا بديهية.
ويستخدِم الرياضيون معيارًا للاستقلال يفيدنا بحثه أشدَّ الفائدة في فهْم فكرة نسق البديهيات؛ وإليك هذا المعيار:
فلنفرض أن نسقًا من البديهيات يشكل على أربعة بديهيات: أ، ب، ﺟ، د فلكي نوقن أن البديهية «د» مثلًا مستقلة عن الأخريات، نفحص قائمة جديدة من البديهيات تشتمل على البديهيات أ، ب، ﺟ وعلى بديهية مناقضة للبديهة «د» تناقضًا تامًا ولنسمِّها (لا – د) فلو كانت «د» متوقفة على البديهيات أ، ب، ﺟ لكان معنى ذلك أننا نستطيع البرهنة على «د» عن طريق أ، ب، ﺟ غير أننا جعلنا (لا – د) بديهيةً بدورها، وبهذا نكون قد كوَّنا نظريةً متناقضة. فإذا كانت النظرية المؤلفة من البديهيات أ، ب، ﺟ، لا – د خالية من التناقض، فمعنى ذلك أن البديهية «د» مستقلة بالفعل عن الأخريات، وبالطريقة ذاتها يبرهَن على كل بديهية أخرى. وهكذا نجد أن معيار الاستقلال بدوره أبعد عن أن يكون مجرد شرط يوضع فحسب؛ بل هو يحتاج في تطبيقه إلى قدر غير قليل من البراعة، ويستطيع الرياضي أن يبحث عن «أنموذج» أعني عن نظرية خاصة سبق اختيارها، تحقَّق فيها كل البديهيات فيما عدا تلك التي يراد إثبات استقلالها.
- (٣) وأخيرًا فالتحليل العقلي للنظريات الرياضية المحكمة البناء قد حاول الإتيان من البديهيات الكاملة، وهذه الصفة تعبر عنها بوضوح كلمة «التشبُّع saturation»، فنسق البديهيات يكون مُتشبعًا إذا لم يكن من الممكن أن تضاف إلى بديهياته بديهيةٌ تُكمله (مستقلة عن الأخريات) دون أن تؤدي إلى تناقض النظرية. غير أن هذه الصفة مُلزمة من أجل تركيب نسق البديهيات تركيبًا سليمًا (إذ يلاحظ أن هناك نظريات عديدة لا تنطوي على هذه الصفة)، والحق أن إيضاح مدى ما تنطوي عليه هذه المشكلة من تعقيد، يحتاج إلى تفاصيل فنية مطولة، ولكن لا شك في أن ما قلناه يكفي في بيان أن التفكير في نسق البديهيات هو في الحق شعور واضح بما يتصف به التفكير الرياضي من دقة بالغة.
(٦) المفاهيم الأولى
ولكن نفس الملاحظة التي أبديناها بشأن القضايا الأساسية تنطبق أيضًا على المفاهيم الأساسية؛ فالمفاهيم التي تُختار على أنها مفاهيم أولى وأساسية، ليست «بطبيعتها» غير قابلة للتعريف، وإنما هي تقرر، كما لو كانت غير قابلة للتعريف. (ومن الجائز جدًّا أن أحد المفاهيم الذي يقرر كمفهوم أول في نظرية معينة، وبالتالي لا يُعرَف، يصبح في نظرية أخرى مفهومًا مستمدًّا من غيره، ويعرَّف تبعًا لذلك).
وفيما يلي مثال لهذا التحول، في مستوى الهندسة الأولية، وهو مثال يستطيع المرء إدراكه بالحدس؛ فمن الشائع أن يُتَّخذ مفهوم النقطة مفهومًا أول، وعندئذٍ يُعرَّف مفهوم الخط المستقيم بأنه يتحدَّد عن طريق نقطتَين، أي أنه توصيل نقطتين. ومن وجهة النظر هذه تكون النقطة مفهومًا أول، والمستقيم مفهومًا مُستمدًّا منها.
ولكن في خلال القرن التاسع عشر، نُظر إلى الأمور نظرةً عكسية، فأصبح المستقيم هو الذي يُنظر إليه بوصفه مفهومًا من وجهة النظر الجديدة هذه، وأصبحت النقطة «تعرَّف» بأنها تقاطُع مستقيمَين.
(٧) التعريفات
وكما أننا نستطيع تصنيف القضايا الرياضية إلى فئتين: قضايا يبرهَن عليها كالنظريات، وقضايا أوليَّة يسلَّم بها دون برهان، كالبديهيات، كذلك يمكن تصنيف المفاهيم إلى مفاهيم معرفة، ومفاهيم أولى يسلَّم بها دون تعريف. وهنا قد يخطر اعتراض بالذهن. فكيف حدث أن أدخلنا التعريف ضمن المبادئ، مع أن التعريف كما رأينا لا يبدو نقطة بداية؟ إن علة هذا الغموض ترجع إلى أن المرء ينظر إلى فكرة المبدأ من خلال نظرة إجمالية أكثر مما ينبغي. فالقضية يمكن أن تؤدي دور المبدأ، أعني يمكن أن تؤدي دور قضية يسلَّم بها دون برهان، وتمكن من البرهنة على غيرها من القضايا، دون أن تكون، رغم ذلك، هي الأولى زمنيًّا. ففي العلوم الرياضية ذات التركيب المعقد، لا يستطيع المرء أن يُقنن بصفةٍ نهائية كل المستلزمات الضرورية لبناء نظرية. فتعريف مفهومٍ ما هو نقطة نهاية على نحوٍ ما، ما دام سيستخدِم أحيانًا مفاهيم متعددة «سبق» تعريفها، ولكنه يستخدِم مبدأ من أجل التوسع «التالي» في النظرية. فتعريف الشكل البيضاوي مثلًا هو نقطة بداية بالنسبة إلى كل برهنة على نظريات الشكل البيضاوي.
(٨) النزعة الشكلية Formalisme
بيَّنَّا من قبلُ أن الرياضي يجد نفسه مستغرقًا في القيام بعملية تجريد أساسية، وسنرى أن هذا الجهد الذي يقوم فيه الرياضي بعملية التجريد هذه، يصل إلى أقصى حدوده في عرض «هلبرت» لهندسة إقليدس.
وبعد هذه التسميات الشكلية الخالصة، يُبيِّن «هلبرت» البديهيات التي تحدد علاقة هذه الكيانات. ولنذكر منها اثنتَين على سبيل المثال. فلِكي نقول إن النقطتين تحدان مستقيمًا، نكتب الآتي:
وإذن فها نحن أولاء تجاه نوعٍ من الشكلية المفرطة. فإذا تذكرنا أن مجموعة البديهات تتألف من افتراضات ليس من الضروري أن تكون متفقةً مع بداهات مطلقة، أو مع تجارب العالَم المحسوس، وإذا لاحظنا أن «هلبرت» قد أدخل الكيانات الرياضية تحت صفة «الاصطلاح»، فهمنا عبارة «برتراند رسل» التي يلجأ إليها الكثيرون في المناقشات الفلسفية، دون أن يدركوا أحيانًا أهميتها على وجه الدقة: «إن الرياضيات علم لا يعلم المرء فيه أبدًا عمَّ يتكلم (إشارة إلى الشكلية المحضة) ولا يعلم إذا كان ما يتكلم عنه صحيحًا.» (إشارة إلى الاصطلاحات المبدئية، التي يعلن المرء فيها صلاحية بعض القضايا والمفاهيم، دون إشارة إلى بداهة عقلية أو إلى خبرة تجريبية).
والواقع أن هذه الشكلية، التي تغض الطرف عن الطبيعة الحسية المحددة للموضوعات الرياضية، لا يمكن أن تنمو إلا في جوٍّ من المعاني الدقيقة المجردة، ومن الطبيعي أن تعجز عن وصف النشأة التاريخية للعلم الرياضي. وهي لا تظهر إلا في تفكير نظري في العلم بعد تكوينه، غير أن المرء لو أغفل الجهد الضخم الذي بذله الرياضيون المعاصرون من أجل بناء علمهم وتنميته بأكبر قدرٍ من الدقة، لكان في ذلك تجاهُل لصفةٍ من أبرز صفات الرياضة المعاصرة.
هذا، وسنعود مرةً أخرى، في هذا الفصل ذاته، إلى العلاقات بين الدقة والحدس، وسنحاول، بعد الدراسة الطويلة التي قُمنا بها للمبادئ الأساسية في النظريات الرياضية، أن نُحدد خصائص الاستدلال الرياضي من خلال مجموعة من عملياته تتَّسِم بأكبر قدرٍ من البساطة.
ثانيًا: الاستدلال الرياضي
(٩) خصوبة الاستدلال الرياضي ودقته
ففي مُستهل هذا القرن، قال «بوانكاريه» في كتابه «العلم والفرض» (ص٤) «ما طبيعة الاستدلال الرياضي؟ أهو حقًّا استنباطي كما يُعتَقد عادة؟ إن المقارنة العميقة تُبين لنا أن الأمر بخلاف ذلك، وأنه يشارك بقدرٍ معين في طبيعة الاستدلال الاستقرائي، وهذا هو السبب في أنه مُنتج. ومع ذلك، فإنه لا يفقد شيئًا من طابع الدقة المطلقة.»
فكيف نُفسر جمع الاستدلال الرياضي بين صفة الخصوبة، وصفة الدقة في آنٍ واحد؟
(١٠) الاستدلال الترديدي.٩ فكرة التعميم
حيث أ عدد حقيقي أكبر من −١ ومختلف عن الصفر، وحيث إن أي عدد صحيح أكبر من ١.
-
(أ)
نبرهن على أنه إذا كان عدم التساوي الذي تُعبر عنه هذه المسألة صحيحًا بالنسبة إلى قيمةٍ معينة (ن)، ولتكن ك، كان أيضًا صحيحًا بالنسبة إلى القيمة ك + ١ (ولنقل على وجه الدقة إننا لا نعلم إذا كان يصح بالنسبة إلى قيمة ك هذه).
-
(ب)
نبرهن على أن عدم التساوي يصح بالنسبة إلى ن = ٢.
ومن هذين البرهانَين يمكننا أن نستدلَّ على أن عدم التساوي صحيح لكل قيَمِ ن ابتداء من ٢. والواقع أننا قد أثبتنا في البرهان (ب) أن الصيغة تصح إذا كانت ن =٢. على أننا أثبتنا في (أ)، بصفة عامة، أنه إذا كان عدم التساوي صحيحًا بالنسبة إلى قيمة معينة ﻟ ن هي ك، فإنه يصح أيضًا بالنسبة إلى ك + ١.
ولما كانت الصيغة (١) صحيحة عندما تكون ن = م، فإنها تكون أيضًا صحيحةً عندما تكون ن = ٣. ولما كانت صحيحةً عندما تكون ن = ٣ فإنها تكون صحيحةً عندما تكون ن = ٤. وفي وسعنا أن نكرر هذا الاستدلال ذاته إلى ما لا نهاية، ما دام البرهان (أ) قد أثبت أن الصيغة إذا صحَّت بالنسبة إلى أية قيمة ﻟ ن، فإنها تصح بالنسبة إلى القيمة التالية. وبدون البرهان (أ) كان يمكننا أن نحقق الصيغة (١) عندما تكون ن = ٢، ن = ٣، ن = ٤، على التوالي … ولكننا لا نستطيع عندئذٍ أن نؤكد أنها تصح على ذلك العدد اللامتناهي من قِيم ن، ابتداء من ٢، فعن طريق البرهانَين أ، ب معًا، يمكننا أن نؤكد صحة عدد لا نهاية له من الصيغ.
وهكذا يمكننا أن نفهم السبب الذي قال من أجله بوانكاريه: إن «الاستدلال الرياضي يشارك بقدرٍ معين في طبيعة الاستدلال الاستقرائي.» فالاستقراء الترديدي يسمح لنا أن نؤكد صحة صيغةٍ في عددٍ لا نهاية له من الحالات، بينما كان يمكننا عن طريق براهين مماثلة للبرهان (ب) أن نؤكد الصيغة (أ) في عدد «متناهٍ» من الحالات فحسب، ولكن علينا أن نفهم كل فكرة في تفاصيلها الدقيقة، لهذا أشرنا بوجهٍ خاصٍّ إلى كلمة «بقدْر معين». فبعد عدة صفحات، يُعبِّر بوانكاريه عن رأيه بوضوح تام يمكِّن من توقِّي كل خلط، فيقول: «لا يستطيع المرء أن يتجاهل أن في الاستدلال الترديدي تشابهًا ملحوظًا مع عمليات الاستقراء المعتادة، ومع ذلك، فلا زال بينهما اختلاف جوهري. فالاستقراء حين يُطبَّق على العلوم الطبيعية يكون على الدوام غير مؤكد، لأنه يرتكز على الإيمان بنظامٍ عامٍّ للكون … أما الاستقراء الرياضي، أعني البرهان «الترديدي» فإنه يفرض ذاته بضرورة محتومة …» وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يُقرب الاستدلال الترديدي من الاستدلال الاستقرائي كما يتمثَّل في العلوم الطبيعية لأنهما «يسيران في نفس الاتجاه، أعني ينتقلان من الخاص إلى العام.» ولكنه إذ يقربهما على هذا النحو يؤكد أيضًا بوضوح أنهما «يرتكزان على أسس مختلفة.»
فما الاعتراضات التي وجهها عالِم المنطق «جوبلو» إلى بوانكاريه؟ إنه يقول له: لقد وصفت «الاستدلال الترديدي» بأنه الاستدلال الرياضي على الحقيقة. غير أنه استدلال خاص إلى أبعدِ حدٍّ، ولا يمكن أن ينطبق إلا على مجالات مُعينة في الرياضة، وهي المجالات التي يتبدَّى فيها تعاقب الأعداد الصحيحة.
ولكن الشيء الذي أراد بوانكاريه أن يبيِّنه، ليس هو القول بأن «الاستدلال الترديدي» هو أكثر الاستدلالات استعمالًا؛ بل هو الاستدلال النموذجي للتفكير الرياضي؛ فهو استدلال صالح كل الصلاحية للكشف عن الخصائص التي يتميز بها الاستدلال الرياضي؛ إذ إن الاستدلال الرياضي هو، في الواقع، «أداةٌ تمكِّن من الانتقال من المتناهي إلى اللامتناهي» بدقة كاملة «وهذه الأداة نافعة دائمًا، لأنها متى أتاحت لنا اجتياز ما نشاء من الخطوات بقفزةٍ واحدة، فإنها توفر علينا القيام بالتحقيقات المطولة، المملة، التي تسير على وتيرةٍ واحدة، والتي سرعان ما يُصبح من المستحيل تنفيذها عمليًّا. غير أنها تصبح لازمةً عندما يكون هدف المرء هو الوصول إلى النظرية العامة، التي نقترب على الدوام من تحقيقها تحليليًّا، دون أن نتمكن من الوصول إليها.» والواقع أن عملية التحقيق تصبح مستحيلةً في مجال اللامتناهي. فقد نستطيع التحقُّق من أن الصيغة (أ) صحيحة في عددٍ متناهٍ من الحالات، ولكن البرهان الدقيق للاستدلال الترديدي يُمكِّننا من تأكيد صِحتها بالنسبة إلى القِيَم اللامتناهية التي يمكن أن تُعزى إلى ن. وإذن فقد أراد بوانكاريه أن يثبت أن الرياضيات لا يمكن أن ترجع إلى سلسلةٍ من الأقيسة، وأنها تقوم على التعميم في أساسها، وأنها تسمح لنا بأن نؤكد، بكل دقة، صحةَ صفةٍ معينة في عدد غير متناهٍ من الحالات. «هذا إلى أنه من الضروري أن يكون في وسع المرء إثبات خواص الجنس دون أن يضطر إلى إثباتها بالنسبة إلى كلٍّ من الأنواع على التوالي.» (العلم والفرض ص٢٧)، فبالاستدلال الترديدي، تكتسب قضايانا صفة العموم فورًا.
ولكن هل يجب القول، كما قال بوانكاريه بتعجُّل، بأن الاستدلال الرياضي ليس استنباطًا على الإطلاق؟ كلَّا بالتأكيد. ذلك لأن «بوانكاريه» قد سوَّى بين الاستدلال الاستنباطي والعملية القياسية التي تنتقل من العام إلى الخاص، وكان في ذلك متبعًا منطق عصره. ولكن الحقيقة أن الاستدلال الاستنباطي يلجأ إلى عمليات فكرية معقدة، تختلف كل الاختلاف عن القياس، كما أثبت ذلك المنطق المعاصر. وحسبنا أن نذكر تلك الحقيقة البسيطة، وهي أن في وسع الرياضي أن يستبدل، في الصيغة الرياضية وبشروط معينة، مجموعةً من الرموز بمجموعة أخرى من الرموز؛ نقول حسبنا أن نذكر هذا، لنكون قد فهمنا مدى تقدُّم البرهان، وفضلًا عن ذلك فالمنطق يُدخل عمليات التعميم، إن لم يكن في مراحله الأولى. ففي نموِّه التالي على الأقل.
فأهمية القياس قد أصبحت ضئيلة في العمليات الاستنباطية التي يقوم بها المنطق المعاصر.
(١١) فكرة التركيب
غير أن هذه الاستعانة بالنشاط التركيبي للعقل تظلُّ تفسيرًا على جانبٍ غير قليلٍ من الغموض، وليس هناك مَن يُنكر نشاط العقل الرياضي وإبداعه، ولكن الواقع أنَّ من العسير وصف الاستدلال الرياضي بصفةٍ واحدة، وكل محاولة لفهْم عملية الاستدلال الرياضي عن طريق تفسيرٍ واحد فريد، تظلُّ محاولة غير دقيقة، وإنما الواجب تحليل البراهين الرياضية المتعددة، والرجوع إلى أكثر الأمثلة تنوعًا. ومن الضروري، بوجهٍ خاص، ألا يقف المرء عند حدِّ الأمثلة الأولية؛ بل الواجب أن يدرُس الاستدلالات التي تكونُ تعريفاتُ موضوعاتها الرياضية نتيجةَ إعدادٍ وئيد، ونتيجةً للتأليف بين أكثر اتجاهات الفكر تباينًا. وعندما نفحص دور الحدس والصياغة الشكلية، سنُصبح أقدَرَ على إدراك طابع التعميم والتركيب الذي يتميز به نشاط التفكير الرياضي.
ثالثًا: الفكر الحدسي والفكر المقالي
(١٢) الحدس الرياضي والحدس الحسي
(١٣) التفكير الحدسي والتفكير المقالي (Discursive)
لكن هل سنهتدي في الحدس الرياضي إلى تلك الصفات التي اعتاد المفكرون أن يصفوا بها الحدس بمعناه الفلسفي؟
إن الحدس يمكن أن يوصف في هذه الحالة بأنه اتصال مباشر، فوري، عيني، بموضوعه، وهذا الاتصال المباشر يُحقق في الوقت ذاته أوثق فهْمٍ لهذا الموضوع؛ إذ يصل إليه في جوهره ووجوده الفردي. وبهذا يكون الحدس مضادًّا لكل تفكير مقالي، أو «سلسلة من الحجج» أو خطوات للبرهان، أو تنظيم شكلي، أو تطبيقٍ دقيق لمنهجٍ ما.
غير أن هذه المقارنة بين الهندسة والحساب لا تُمكِّننا من تقدير دور الحدس في الرياضة حق تقديره. والواقع أننا نهتدي إلى التمييز بين الحدس والانضباط الدقيق حتى في الجبر ذاته. فعالِم الجبر يهتدي أحيانًا بالحدس السريع إلى منهج للحل، ويشعر بالنتيجة مقدمًا، ويكون مجهودُه في البرهان موجهًا بوضوح في هذه الحالة، وهو لا يأخذ على عاتقه مهمة اختبار دقة برهانه إلا في المرحلة الثانية من بحثه.
وفي هذا الاختبار الدقيق يبدو أن الرياضي يدعو كل الآخرين إلى التحقق من فكرته الخاصة، فلا يعود الحدس الرياضي الذي يتحقق منه على هذا النحو، فكرًا فرديًّا بالمعنى الصحيح؛ أي لا تتمثل فيه صفة طالما طالب بها أنصار الفكر الحدسي في الفلسفة. وقد تبدو هذه الملاحظة مرتبطةً بعلاقة فرعية وظاهرية، للتفكير الرياضي. ولكن إذا كان الحدس الفردي في حاجةٍ إلى التحقُّق من صدقه حتى يمكن قبوله؛ ففي هذا ما يكفي لبيان طبيعته الحقيقية. فالحدس الرياضي لا بد من أن يُتداول، ومن الضروري أن يقبله مجموع الرياضيين قبولًا تامًّا، ومن الواجب أن يُحكم عليه من خلال نقط اتصاله وارتكازه على النظريات الرياضية القائمة بالفعل.
وإذا كان من ضروب الحدس ما هو أساس لظهور بعض المشاكل الرياضية، وإذا كان منها ما يوحي بحلولٍ لمشاكل معينة، فلا يمكن من ذلك تصور تفكيرٍ حدسي يستغني عن الصياغة الشكلية الدقيقة. والحق أن بين النظرات الحدسية والمناهج الدقيقة تأثيرًا متبادلًا. فالتفكير القائم على الحدس في حاجة إلى أن يؤكد ذاته، وإلى أن يشيد بناءه عن طريق التفكير المقالي، وهذا التفكير الأخير في حاجة إلى استعادة صلته بالتأكيدات الحدسية، فإذا اقتصرنا، كما فعل أحد الفلاسفة، على القول بأن «التفكير الشكلي يستمدُّ حياته من التفكير الحدسي.» لما عبَّرنا بهذا إلا عن نصف الحقيقة. فمن الواجب أن يضاف إلى ذلك، أن التفكير الحدسي يظل في الوقت ذاته مرتبطًا بالتفكير الشكلي المقالي الذي يُضفي عليه اليقين والدقة.
(١٤) حدس البديهيات
فلنرجع لحظةً إلى هذا التفكير الذي يعتمد على البديهيات، والذي سبق أن أشرنا إليه؛ أن مهمة البديهيات لا تنحصر في مجرد تقنين الفروض والقواعد في نظرية رياضية خاصة؛ بل إن نسق البديهيات لا يقتصر في الواقع على عرض البديهيات والمعاني الأولية الخاصة بنظريةٍ ما، وعلى دراسة مدى اتساق هذه البديهيات فيما بينها، واستقلال كل منها عن الأخرى، وإنما يسعى إلى فهْم «السبب العميق» للاستدلالات المتسلسلة، والكشف عن هيكل الاستدلال، بغضِّ النظر عن «طبيعة» الموضوعات التي تتدخَّل في النظريات الرياضية. وهو يجمع النظريات لا لأنها تُعالج موضوعاتٍ رياضية لها طبيعةٌ واحدة، وإنما لأنها تكشف عن بناءات واحدة.
إذن نرى الآن إلى أي حدٍّ تكون التفرقة بين التفكير المقالي والتفكير القائم على الحدس في الرياضيات تفرقةً مصطنعة، فحتى في المجال الذي يبدو فيه أن الحدس قد استُبعد، نراه يعود إلى الظهور بصورةٍ قد تكون غير مألوفة، ولكنها قوية إلى حدٍّ بعيد، وهكذا فبناء أكثر الأساليب الفنية الرياضية تجريدًا يقتضي الالتجاء إلى أكثر ضروب الحدس خصوبةً وعمقًا.
(١٥) الحدس والنزعة الحدسية
غير أن مذهب بروفر يظلُّ مذهبًا خاصًّا جدًّا، وهو على هامش الرياضيات الكلاسيكية تمامًا.
رابعًا: الهندسات اللاإقليدية
(١٦) المصادر الخامسة لإقليدس. هندسة لوباتشفسكي
ولا شك أن اعتراضًا يخطر بالذهن ها هنا: فمن الجائز أن لوباتشفسكي لم يسِر في التركيب الذي شيَّده إلى الحد الذي يجعله يصادف التناقض الذي كان كفيلًا بهدم نظرياته، وكان في الوقت ذاته كفيلًا بأن يأتي أخيرًا ببرهانٍ على مصادرة إقليدس بطريق «الخلف».
-
(١)
لأنها هي الأبسط …
-
(٢)
ولأنها تتفق إلى حدٍّ غير قليل مع خصائص الأجسام الطبيعية، وهي الأجسام التي تقترب منها أعضاء جسمنا، وعيننا، والتي نصنع منها ما لدَينا من أدوات للقياس.»١٨
ولقد كان لهذه الإشارة إلى اليُسر دورٌ كبير في بداية هذا القرن، فرأى البرجماتيون فيها تأييدًا لمبدئهم الفلسفي القائل إن الحقيقة تتَّصِف بأنها قيمة للمنفعة، ولليسر.
والحقُّ أنه مهما كان لهندسة إقليدس من قيمةٍ عملية تكاد تكون شاملة، فمن الممكن فعلًا أن تظهر حالات تُصبح فيها الهندسة اللاإقليدية أكثر مناسبةً لأحد البحوث الخاصة. فعندما بدأت النظرية النسبية العامة لأينشتين تُطبَّق، تبين أن من الممكن التعبير عنها عن طريق هندسة أخرى لا إقليدية (هي هندسة ريمان) بطريقةٍ أكثر يسرًا منها في هندسة إقليدس. وعلى هذا فالإشارة إلى اليسر لا يمكن أن تمدَّنا بمعيار للقيمة «العقلية» «والتجريبية» المطلقة لهندسةٍ من الهندسات.
(١٧) هندسة «ريمان»
(١٨) هل تتعارض مصادرة لوباتشفسكي مع الحدس؟
في هذه الإشارة إلى هندسة السطح الكروي نرى دعامةً «لأنموذج» هندسة لا إقليدية في نظر الحدس. على أن معارضة الحدس الشائع قد تكون أعظم في بعض الأحيان، فكثيرًا ما يُسيء المرء تصوُّر التعارُض مع تجربةٍ شائعة، ومع حدسٍ معتاد.
ومع ذلك فيبدو من الممكن تبرير المصادرات الجديدة على أساس الحدس، وسنُقدِّم فيما يلي تخطيطًا سريعًا لهذا العمل الذي يقوم به الحدس بالنسبة إلى مصادرة لوباتشفسكي القائلة إن من الممكن أن يُمَدَّ من نقطةٍ خارج مستقيمٍ مستقيمان موازيان لهذا المستقيم.
فكيف يُحاول المعلم، في مرحلةٍ تعليمية مبكرة، أن يُقدِّم فكرة الموازي؟ نفرض نقطة م خارج المستقيم س ص، ونمدُّ منها قاطعًا قابَلَ س ص في أ، ونتصوَّرُ أننا نُغير موضع هذا القاطع في نقطة أ، أَ، أً … وهي نُقَط تتباعد إلى اليسار بالتدريج، ثم نقول إنه في النهاية، عندما تبعُد النقطة أ، إلى ما لا نهاية، يُصبح القاطع موازيًا للمستقيم س ص.
وغنيٌّ عن البيان أننا لو كنا قد تناولنا القاطع م ب، ومجموعة من النقط بَ، بً متباعدة نحو اليمين، لأصبح لدَينا خطٌّ موازٍ في النهاية عندما تبعد النقطة ب إلى ما لا نهاية في جهة اليمين.
وإليك الآن ما اختاره إقليدس وما اختاره لوباتشفسكي، ففي رأي إقليدس أن الموازي المكوَّن من نهاية القواطع على اليمين والموازي المكون من نهاية القواطع على اليسار، هو موازٍ واحد. أما لوباتشفسكي، فيرى أن هذين المستقيمَين النهائيَّين هما موازيان يظلَّان متميزَين في النهاية، كما تميز مجموع القواطع اليُمنى من مجموع القواطع اليسرى.
وبالاختصار فإن إقليدس يفترِض فرضًا زائدًا على لوباتشفسكي، وفي نهاية الأمر يتَّضح أن حدس لوباتشفسكي كان هو الأكثر حرصًا، وهو الذي يُضيف إلى الحدس الأصلي أقلَّ إضافةٍ ممكنة. وهكذا، فمتى أقلعنا عن الخلط بين الحدس وبين إحدى العادات، ومتى تركنا للعقل حريته التامة في الحدس، فلن نستطيع القول إن مصادرة لوباتشفسكي أقل اتفاقًا مع طبيعتنا من مصادرة إقليدس.
(١٩) تعدد الهندسات
وهناك دوافعُ أخرى متعددةٌ للإكثار من الهندسات، ولكن قد يُسيء المرء فهْم الازدهار الحالي في المذاهب الهندسية، إذا أغفل ما يتصف به التفكير الهندسي من وحدة وثيقة.
فلنبدأ بالهندسة الأولية، وهي تنظيم نوعَين من الأفكار: أفكار يدخل فيها معنى المسافة، وأخرى يدخل فيها معنى الخط المستقيم. فإذا استبعدْنا أحد هذَين المعنيَين أو الآخر عن طريق التجريد، استطعنا الوصول إلى نظرتَين أكثر عموميةً.
(٢٠) فكرة المجموعة
من بين الأُسس التي يقوم عليها تصنيف النظريات، نجد أن لاعتباراتِ «المجموعات» الرياضية أهميةً خاصة. فلنوضح بإيجاز فكرة المجموعة هذه.
- (١) أُولاها أنه ترابُطي associative: فإذا تأمَّلْتُ ثلاث عناصر أ، ب، ﺟ، ففي وسعي أولًا أن أُؤلِّفَ بين أ، ب، ثم أؤلف بين نتيجة هذا التأليف الأول وبين ﺟ، ولكنني أستطيع أيضًا التأليف بين أ وبين نتيجة تأليف ب، ﺟ؛ وفي الحالتين أحصل على نتيجة نهائية واحدة.
- (٢)
يُوجَد في المجموعة عنصرٌ محايد (ويُسمى أيضًا عنصر وحدة)، وتأليف عنصر محايد مع أي عنصر في المجموعة يؤدي إلى تكوين هذا العنصر.
- (٣)
لكلِّ عنصر في المجموعة عنصر مناظر له (ويُسمَّى أيضًا مقابلًا له)؛ والتأليف بين العنصر ونظيره يؤدي إلى العنصر المحايد. فلنضرب لذلك مثلًا: هو نقلات أحد المسطحات، فإذا ألَّفنا بين نقلتَين أ ب، ب ﺟ (أعني إذا أجرينا النقلتَين بالتعاقُب) أصبحت لدَينا نقلة هي أ ﺟ (التي تؤدي بالنقطة أ إلى النقطة ﺟ).
-
(١)
فإذا أجرينا ثلاث نقلات أ، ب، ﺟ بحيث تصل أ إلى د فإنه يستوي عندنا أن نبدأ من أ إلى ﺟ ثم إلى د، أو من أ إلى ب ثم إلى د.
-
(٢)
النقلة المحايدة هي التي يمكن تسميتُها بالنقلة المنعدمة، التي تترك كل الأشكال ساكنةً على ما هي عليه.
-
(٣)
كل نقلة تناظرها نقلة مُتماثلة معها: فلو تأمَّلنا أ ب، لوجدنا النقلة المناظرة هي ب أ، والتأليف بين هاتَين النقلتين المتناظرتَين يؤدي بنا إلى النقطة أ، التي كنا قد بدأنا منها، فنتيجة هذا التأليف هي النقلة المحايدة كما عرفناها من قبلُ.
وإذن فتنقلات المسطَّح تكوِّن مجموعة.
ولتلاحظ — على هامش هذا الموضوع — أننا قد عرفنا خلال العرض نظامًا للبديهيات بطريقةٍ مجردة تمامًا؛ وهو نظام البديهيات الخاص بالمجموعات، والذي ضربنا له مثلًا ملموسًا، هو مجموعة نقلات المسطح.
خامسًا: امتدادات مفهوم العدد
(٢١) تعاقب الأعداد الصحيحة لا ينتهي
أوضحنا في الفصل السابق كيف نشأت فكرة العدد، فرأينا أن العدَّ كان ينحصر في إيجاد تناظر بين مجموعتَين (بحيث يرتبط شيء من إحدى المجموعتين بشيء من المجموعة الأخرى). فإذا أمكن إيجاد مثل هذا التناظر حتى تستنفد كل الأشياء في المجموعتَين في وقتٍ واحد، أمكن القول إن عدد الأشياء في المجموعتين واحدٌ.
ولكن لا يمكن معرفة العدِّ معرفة صحيحة، إلا إذا استطاع المرء الوصول إلى التناظر بين الأشياء وأسماء الأعداد، ثم إلى المعنى المجرد للعدد، وسرعان ما تتكون في الذهن فكرة السلسلة غير المحددة من الأعداد الصحيحة، ويفهم المرء كيف يستعمل النظام الرقمي دون أن يقف عند حدٍّ، عندما يُدرك أن عملية الوصول إلى الرقم التالي لعدد معين بإضافة واحد، يمكن أن تستمر على ما هي عليه، إلى ما لا نهاية. لهذا يمكن القول إن السلسلة غير المتناهية للأعداد الصحيحة الموجبة تتبدَّى لدينا في حدس بسيط.
(٢٢) الأعداد السالبة والأعداد الكسرية
(٢٣) الأعداد الجذرية rationnels والأعداد الصماء irrationnels
(٢٤) الأعداد العالية
(٢٥) الأعداد الخيالية
(٢٦) فكرة اللامتناهي–فكرة القوة
فعلى أي نحوٍ تبدو فكرة قوة مجموعة لا متناهية؟ يُقال عن المجموعتين أن لهما نفس القوة إذا أمكن وضع تناظُر بينهما عنصرًا عنصرًا (أي تناظر فردي بين كل زوج).
فكما أن العدد قد استمدَّ معناه من أن فئتَين متناهيتَين تتفقان في العدد، فكذلك تستمدُّ القوة معناها من أن مجموعتَين لا متناهيتَين لهما نفس القوة.
ونقول بعبارة أخرى إن معنى العدد لا يصلح لدراسة مجال اللامتناهي؛ بل ينبغي أن نستعين في هذه الدراسة بفكرة القوة، وهي فكرة تُوسِّع معنى العدد، وتستخدِم مع ذلك فكرة التناظر واحدًا واحدًا، التي نجدها في أساس بناء الحساب ذاته.
١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٠ | ٠ | ٠ | |
٣ | ١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٠ | ٠ | ٠ |
٥ | ١ | ٢ | ٣ | ٤ | ٥ | ٠ | ٠ | ٠ |
ولقد كان لاستبدال فكرة القوة بفكرة العدد قيمة تنظيمية كبرى في بحث مشاكل اللامتناهي العددي، وعلينا أن ننتبه جيدًا إلى هذه القيمة. والحق أن الفكرة هنا ليست عسيرةً؛ بل إن كل فيلسوف يريدُ أن يظلَّ على صلةٍ بالمشاكل الحديثة يستطيع أن يفهمها دون عناءٍ كبير.
أما مجموع الأعداد الحقيقية (وبالتالي مجموع نقط المستقيم) فيجب أن نبحث له عن قوة أخرى. فهذا المجموع ليست له قوة المعدود، بل قوة الكمِّ المتصل التي سوف نفحصها الآن.
على أن فكرة القوة هذه، التي ثبت أن لا غناء عنها في دراسة المجموعات اللامتناهية، قد تُحير الحدس. ولنضرب لذلك مثلًا، فنتصور جزءًا من خطٍّ مستقيم أ ب، ونُقسِّمه إلى ثلاثة أجزاء متساوية، ثم نمحو الجزء الأوسط ثم نُعيد عملية التفريغ في الجزأينِ، ثم في الأجزاء الأربعة الباقية، وهكذا دواليك. قد تظنُّ أن عمليات البتر هذه، التي تتوالى إلى ما لا نهاية، تؤدي إلى تناقُص عدد نقط أ ب بسرعة كبيرة، ولكن لنقل مرةً أخرى إن فكرة العدد لا تصلح للتعبير عن عناصر المجموعات اللامتناهية، ويثبت الرياضيون أنه على الرغم من هذا التناقض غير المحدود، يتبقى من المجموع الأول أ ب نقط تكفي لكي يكون المجموع الباقي مساويًا على الدوام لقوة المتصل.
والحق أننا إذا أردنا توضيح أهمية فكرة القوة هذه من الأبحاث الدائرة حول ظواهر اللامتناهي، فربما وجب أن نأتي بأمثلة أخرى متعددة.
ولكن الأمثلة التي أوضحناها تكفي في بيان العمل الضخم لضروب الحدس، التي تظل تُصحَّح على الدوام عن طريق إنتاج العقل لأفكار جديدة أخرى، وهي أفكار أصلح من الصور الأولى التي كُوِّنت في حدس متسرع.
«لنفرض» أن (١ + ١) ك < ١ + ك١ صحيحة، وفي وسعنا أن نضرب الطرفين غير المتساويين هنا، دون تغيير معناهما في العدد ١ + أ، فما دامت أكبر من −١، فإن ١ + أ موجب دائمًا وعندئذ نجد أن (١ + أ) (١ + أ) ك < (١ + أ) (١ + ك أ).
أي (١ + أ) ك + ١ < ١ + (ك + ١) أ + ك أ٢.
ولما كانت ك أ٢ موجبة دائمًا (ما دام ك موجبًا، أ مختلفة عن الصفر).
فبالأحرى يكون (١ + أ) ك + ١ < ١ + (ك + ١) أ.
وبهذا نكون قد برهنا على أنه إذا كان عدم تساوي الطرفين في (١) صحيحًا حيث ن = ك فإنه أيضًا صحيح حيث ن = ك + ١
فلنحقق الآن عدم تساوي الطرفين في (١) حيث ن = ٢، أي حيث يصح القول إن (١ + أ)٢ > ١ + ٢أ (١ + أ)٢ = ١ + ٢أ + أ٢، ١ + ٢أ + أ٢< ١ + ٢أ.
∴ (١ + أ)٢ < ١ + ٢أ.