علوم الحياة
علم الفسيولوجيا (وظائف الأعضاء) هو دراسة الوظائف التي تتألف منها الحياة، وهو يقتصر في بحثه للمادة الحيَّة على النظر إليها من حيث ما فيها من حتميَّة، وعلى تفسير الوظائف عن طريق البيئية الداخلية. وهكذا فإن منهجه هو في أساسه منهج العلوم الطبيعية والكيميائية، أي أنه منهج ثلاثي يشتمل على ملاحظة الظواهر، والكشف عن الفرض، والتحقق من صحته. ولكن يبدو أن الأحياء تتمثل فيها غائية توجِّه الأجزاء نحو المجموع الكلي للكائن العضوي، وهذا التوجيه هو موضوع دراسة أبحاث حديثة.
وقد نشأ علم الحياة عن مذهب التطور، الذي يرجع إلى «لامارك» و«دارون». ومذهب التطور في أساسه تفسير للأشكال الحية عن طريق البيئة الخارجية، والسلالات السابقة، أعني أنه تفسير لها عن طريق ظروفها وعِللها، لا عن طريق مرتبتها في التصنيف؛ ومن هنا كانت هذه الأشكال قابلةً لأنواع من «التحول»، ولكن تفسير «لامارك» لهذه التحولات بوساطة صفات مكتسبة عن طريق تكيف الأعضاء أو الوظائف تحت تأثير البيئة، ونقل هذا الاكتساب بالوراثة، وكذلك تفسير دارون لها عن طريق تغيرات موروثة تحدد الانتقاء الطبيعي، نقول إن هذه التفسيرات لم تعُد مقبولة لدى باحثي علم الحياة المعاصرين.
علم وظائف الأعضاء
(١) الفسيولوجيا هي دراسة الوظائف التي تتألف منها الحياة
- (١)
علم التشريح: وهو علمٌ قديم جدًّا، ينحصر في وصف «الأعضاء» التي يتكوَّن منها الكائن العضوي، ويقتضي مجموعة من العمليات لاقتطاع الأعضاء (أي تشريحها) ثم إعدادها تمهيدًا لحفظها، أو ملاحظتها دون مشقةٍ.
- (٢) الفسيولوجيا: وعلى العكس من ذلك، فإن العلم المُسمَّى بهذا الاسم حديث إلى حدٍّ ما، ورغم أن الكلمة التي تدلُّ عليه ترجع إلى القرن السادس عشر، فإنه لم يُصبح علمًا محددًا إلا في القرن التاسع عشر، بفضل جهود كلود برنار، وهو ينحصر في دراسة «الوظائف» أي القوانين التي تؤدي الكائنات الحية وظائفها تبعًا لها، والمنهج المميز له هو «التشريح الحي vivisection» أي ملاحظة طريقة عمل الأعضاء «الحية» التي يجري عليها التجارب بوساطة عمليات مختلفة ذات طبيعةٍ جراحية: كالبتر التجريبي، أو عمليات الفصد التي تهدف إلى فحص السوائل التي يُفرزها العضو أثناء أدائه لوظيفته … إلخ. ولقد أصبح علم وظائف الأعضاء أهمَّ العلوم التي تفرَّعت عن الطب القديم وأكثرها نفعًا.
(٢) الفسيولوجيا ليس لها أن تفسر الحياة
وهنا يعرض سؤال أولي، فهل تستطيع علوم الحياة أن تفسر لنا كنه الحياة؟ لا شكَّ في أن المرء يميل إلى الثقة بقدرة هذه العلوم ثقةً لا حد لها، ولكن للمرء أن يخشى من أن الحياة بطبيعتها لا تخضع خضوعًا مطلقًا لمناهج العلم.
فما الكائن الحي إذن؟
(أ) الحياة والفردية
(ب) الحياة والطبيعة، والميل
(ﺟ) الحياة والتمثيل والتعويض
(د) غرائز البقاء والتكاثر
(٥) ويبدو هذا الميل بصفة أكثر وضوحًا، في الغرائز التي هي نُظمٌ تلقائية من الأفعال، تهدف بوضوح إمَّا إلى حفظ الكائن الحي (كالدفاع عن الذات، أو الحركة، أو البحث عن الغذاء أو التقاطه) وإمَّا إلى تكاثره (كالحمل، وإخراج الكائن الجديد وتغذيته وحمايته … إلخ.)
(ﻫ) الحياة والغائية
وما دام الأمر كذلك، فإننا نُدرك السبب في أن بعض الفلاسفة اعتقد أن التفسير المألوف في العلوم الطبيعية الكيميائية لا ينطبق على الكائنات الحية، لأن هذا التفسير يقتضي أن يكون موضوعه داخلًا في نطاق الحتمية العامة، دون استثناءٍ أو امتياز، وألا يكون مُتصفًا أو منفردًا بشيءٍ خاص به، وأن تكون طبيعته خارجةً عنه تمامًا. أو على الأصح، ألا تكون له «طبيعة» ولا «ماهية»، إذ يفسر كل ما يطرأ عليه تفسيرًا كاملًا بالبيئة المحيطة به والقوانين التي يخضع لها، وهذه القوانين ليست كامنةً فيه؛ بل إن هذا هو الشرط الذي يسمح بتطبيق الرياضة على المادة، إذ لا تكون للمادة قوانين رياضية ولا علم طبيعة رياضي، إلا إذا فسَّرنا كل ما يطرأ على المادة بعلاقاتٍ متناسبة رياضيًّا مع ما هو خارج عنها. ويترتب على ذلك أن التفسير العلمي ينتقل من الأجزاء إلى الأجزاء ومن الأجزاء إلى الكل، ولكنه لا ينتقل أبدًا من الكل إلى الأجزاء؛ بل إن العلم لا يعرف كلًّا وفردًا بالمعنى الصحيح، وهذا هو ما يُسمَّى بالتفسير عن طريق الأسباب.
فإذا كانت الغائية «حقيقيةً»، فإنها تزودنا بالتفسير «الصحيح» أي إن أداء الوظائف في الكائنات العضوية يرجع إلى «الطبيعة» و«الماهية» و«الفكرة الموجهة» لا إلى تركيب الكائن العضوي، أي طريقة تنظيم «أجزائه» أي إنه إذا كانت هناك وظيفة تُسمَّى بالهضم، فذلك راجع، في نظر التفسير العلمي، إلى أن الكائن العضوي يشتمل على معدة، وعلى عصارة هضمية، أما في التفسير الغائي، فإن المعدة والعصارة الهضمية توجدان من أجل الهضم، أي لكي تتمَّ عملية الهضم، فالوظيفة «تخلق» العضو، والحياة «تخلق» الكائن الحي.
(٣) الفسيولوجيا تتَّجِه إلى الاستغناء عن التفسير الغائي
- (١)
(ميتا فيزيقا الغائية): كيف يمكن تصوُّر هذا الخَلق؟ هل لنا أن نتحدث عن عناية إلهية؟ أم نقتصر على افتراض «طبيعة خيِّرة» أي طبيعة تسهر على رعاية مصالح الكائنات الحية.
- (٢)
(مشكلة القيم) إن الغاية أسمى من الظواهر التي يجب عليها تفسيرها، وهي أرفع في قيمتها منها؛ فالحيوان أعظم قيمةً من أعضائه، وهكذا يؤدي التفسير الغائي إلى إقحام اعتبارات «القيمة» وهي اعتبارات لا شأن للعلم بها.
- (٣)
(اتفاق الغايات) كيف نوفق بين كل التفسيرات الغائية؟ أيتسنَّى لنا التوفيق بين ما هو في صالح كائن عضوي وما هو في صالح كائن آخر؟ وهل خُلق العشب «من أجل» آكلة العشب؟ أم أن آكلة العشب خُلقت «من أجل» آكلة اللحوم؟ ولمَن، أو لِمَ، خُلقت آكلة اللحوم؟
تلك سلسلة من المشكلات التي يُفضي إليها التفسير الغائي بالمعنى الذي حدَّدناه من قبل، أو إن شئت فسمِّهِ التفسير القائم على التشبيه بالإنسان anthropomorphique، وهي مشكلات لا قِبَل للعلم بها. ولذا أمكن أن تُوجَّهَ إلى هذه الغائية في علم الحياة الاعتراضات التالية:٧ كلُّ تقدُّم في العلم إنما هو تقدُّمٌ في التفسير عن طريق العلل، فمثلًا كان الرأي متفقًا من قبلُ على أن العلم يفسر الظواهر المتعلقة بأداء الأعضاء التامَّة التكوين لوظائفها (catagenèse)، ولكنه يخفق في تفسير تركيب هذه الأعضاء وخلقها ونموها (Anagenèse) ولكن تبيَّن أن خلق الأعضاء (وكان يُسمَّى من قبل ontogenèse أي خلق الفرد) يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهرمونات التي تُفرزها الغدد الصماء، كالغدة الدرقية مثلًا، التي تُفرزها الأجسام الدرقية، وهكذا يتَّضِح لنا أننا بسبيل الوصول إلى نظرية «سببية» علمية خاصة بظواهر تكوين الأعضاء. - (٤)
على أن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فالتفسير الغائي لا يمكن الانتفاع به من الناحية العملية، ففي التطبيق الطبي، لا يُهمنا أن نعلم إذا كان الهضم «غايةً» للمعدة، والواقع أن المعدة تهضم «لأنها» تفرز العصارة الهضمية، وأن المرء يُصاب بعسر هضمٍ عندما تنقص في العصارة الهضمية مادةٌ معينة يمكن أن يحلَّ محلَّها دواءٌ معين، ولقد قال بيكن — ساخرًا: «إن السعي وراء العِلل الغائية إنما هو سعيٌ عقيم لا يَلِدُ شيئًا، مثله مثل العذراء التي تهَبُ نفسها لله.»
ولهذه الأسباب اتجهت علوم الحياة إلى الاقتصار على الأسباب وإلى إغفال الغايات، ولكن هل هذا الإغفال ممكن؟
أجل، لأن التفسير الغائي يفترض التفسير بالسبب، أمَّا العكس فغير صحيح. فالغاية تفترض الوسائل، والوسيلة تؤدي دور السبب بالنسبة إلى الغاية، التي هي دائمًا نتيجة ومعلول. ومن هنا أمكن القول إن الغائية وإن تكن شيئًا يزيد على السببية، فإنها سببية مثل كل شيء، وهي في حاجة إلى السببية؛ فالغائية إذن لا تكتفي بنفسها، وإذا كانت العين قد خُلقت «لكي» تبصر فذلك لأن تركيبها يؤدي إلى الإبصار بوصفه «نتيجة».
لهذا السبب كان في استطاعة علوم الحياة أن تستبعد الغايات تمامًا، وأن تحذو حذو الطبيعة والكيمياء، في الاقتصار على التفسير بالعلل.
(أ) الغائية والكلية
(٤) منهج الفسيولوجيا: الحتمية ونظرية البيئة الداخلية
(أ) المنهج الطبيعي الكيميائي في الفسيولوجيا
- (١)
أن حتمية ظواهر الحياة صارمة تمامًا كحتمية علم الطبيعة والكيمياء.
- (٢)
وهي من نفس الطبيعة، أعني أن المرء لا يصادف في الكائنات العضوية سوى ظواهر طبيعية وكيميائية. فالمادة الحية، كما قيل، «ذات تنظيم عضوي»، أعني أن لها تركيبها الخاص، وهذا التركيب عظيم التعقيد، ولكن عناصره هي نفس العناصر التي تكوِّن المادة الجامدة؛ فالكربون والآزوت والهيدروجين تلعب فيها الدور الرئيسي. و«الكيمياء العضوية» إنَّما هي امتداد للكيمياء المعدنية أي لكيمياء الأجسام الجامدة، وليس هناك عنصر كيميائي تختصُّ به الأجسام الحية، والتفاعلات الكيميائية التي تلاحظ أو تنتج في معمل الكيميائية، تنتج كذلك في الكائنات العضوية، وكل ما في الأمر أنها عندما تحدث في الكائن العضوي تخضع لشروط أكثر تعقيدًا من ذلك، وإن كانت واحدةً في حقيقتها. فمن وجهة نظر العلم الطبيعي يُعد الكائن الحي «آلة»، كما قال ديكارت من قبلُ عن الكائن العضوي الحيواني، وعن الكائن العضوي البشري أيضًا، بالقدْر الذي تتشابَهُ فيه وظائفه مع وظائف الكائن العضوي الحيواني.
وعلى هذا النحو تكوَّن علم طبيعة كيميائي للحياة امتدَّت كشوفُه امتدادًا هائلًا وتلاحقت بسرعة كبيرة.
(٥) أمثلة للبحوث الفسيولوجية تبين المراحل الثلاثة للمنهج
لكي نوضح خصائص المنهج في الفسيولوجيا، سنقتبس من كلودبرنار الأمثلة الآتية:
الأرانب من أكلة اللحوم: إن المثال الأول معروفٌ مشهور وهو مثال تلك البحوث التي أثبت بها «كلودبرنار» أن الكائن العضوي للحيوانات آكلة العشب، إذا ما تعرَّض للصيام مدة طويلة، يتغذى من جسمه هو، ويسلك مسلك الحيوانات آكلة اللحوم.
-
(١)
فقد أتى «كلودبرنار» لتجاربه بأرانب من السوق، وعندما تبوَّلت هذه الأرانب على منضدة المعمل، لاحظ مندهشًا أن بولها حمضي صاف، كما هي الحال في أكلة اللحوم، وليس قلويًّا عكرًا، كما هي الحال في أكلة العشب عادةً.
-
(٢)
خطر بذهنه أن هذه الحيوانات ربما كانت محرومةً من الطعام منذ مدة طويلة، وأن جسمها الذي يتغذى مما فيه من مواد داخلية احتياطية، هو في حقيقته من أكلة اللحوم.
-
(٣)
كانت التجارب التي حقق بها فكرته عظيمة التنوُّع والطرافة، فقد أخضع الأرانب لنظام غذائي عادي، ثم منع عنها الأكل من جديد، فكان بولها يصبح مرةً مماثلًا لبول أكلة العشب، ومرةً لبول أكلة اللحوم، وأجرى تجارب مماثلة على غيرها من أكلة العشب كالحصان مثلًا، وأمكنه الوصول بالتجربة إلى «أرنب آكل للحوم» يتغذى بلحم بقر مسلوق بارد.١٢
-
(١)
سمَّم كلودبرنار كلبًا بوساطة أكسيد الكربون، ولما شرَّحه وجد أن دم الحيوان قد أصبح كله قانيًا كدم الشرايين.
-
(٢)
وبدا له، لأول وهلة، أن كل الدم، حتى دم الأوردة، قد أصبح «شريانيًّا» أي يشتمل على شحنةٍ من الأكسجين حال تأثير المادة السامة دون تركها في الأنسجة، واستبدال الحامض الكربوني بها.
-
(٣)
على أن التحقيق أثبت بطلان الفكرة، إذ لو كانت صحيحةً لوجب أن ينتج ماء عند إضافة هيدروجين إلى الدم، ولكن هذا لم يحدث، ولم يحدث تفاعل بين الدم والهيدروجين.
-
(٤)
ولكن كلودبرنار كان قد احتاط باستخدام عينات من الدم مأخوذة من الأوردة والشرايين معًا، أما أن دم الأوردة لا يحتوي على الأكسجين، فذلك أمرٌ لا غرابة فيه، ولكنه أيضًا لا يحتوي على حمضٍ كربوني، ثم إن لونه كلون دم الشرايين، وهنا يقول كلودبرنار «لقد استنفدتُ عندئذٍ كل ما في ذهني من تخمينات.» ولكنه استقرَّ أخيرًا على الاستدلال التالي: إذا لم يكن هناك أكسجين فذلك يرجع إلى أن أكسيد الكربون قد حلَّ محله، بحيث أصبح الدم عندئذٍ عاجزًا عن تثبيت الأكسجين، أما مظهره الشرياني فيرجع بلا شكٍّ إلى أن أكسيد الكربون قد ثبت على الكريات الحمراء.
-
(٥)
وتمت مرحلة التجريب في الزجاج in vitro، أي في وعاء من الزجاج، أو بعبارة أخرى خارج الكائن العضوي، وفي بيئة من الجماد، فأخذ كلودبارنار دمًا شريانيًّا سليمًا وسمَّمه في أنبوبة اختبار، وأمكنه أن يتتبع كيميائيًّا حلول أكسيد الكربون بالتدريج محل الأكسجين.
-
(١)
فالظاهرة هي أن السم الذي يفرزه جلد الضفدعة السامة يقتل الضفدعة العادية بأن يُوقف قلبها، ولكن لا يبدو أنه يُسبب ضررًا للضفدعة السامة، هذا على الرغم من أن أنسجة القلب واحدة في النوعَين.
-
(٢)
فهناك إذن فارقٌ لم نلاحِظه للوهلة الأولى، ويحاول كلودبرنار العثور على هذا الفارق فلا يهتدي إليه.
-
(٣)
فلابد إذن أن التجربة لم تُجرَ بالقدْر الكافي، أي أنها لم تستغرق «الوقت» الضروري، أو لم تطبق على «الكمية» اللازمة.
-
(٤)
والواقع أن «الكمية» هي التي كانت ناقصةً فيكفي أن تُضاعِف الجرعة حتى تقتل الضفدعة مثلما قتلت الضفدعة المعتادة.
وفي هذا المثل «يبدو» أن علةً واحدة في ظاهرها تُنتج المعلول دون ضرورة محتومة.
- (١)
فعندما حقن كلودبرنار كلبًا منع عنه الطعام بالأثير في أمعائه، وجد أن القنوات حاملة العصارة الهضمية قد ابيضت، كما لو كان الحيوان قد هضم مواد غذائية دسمة، وتلك هي الظاهرة التي لا نجد لها علة، وهي «ظاهرة ممتنعة وغير معقولة».
- (٢)
وعلينا أن نهتدي إلى تعليلٍ لها، وعندما فحص كلودبرنار الأدوات التي استخدمها في تجربته فحصًا دقيقًا، تبين له أن الأثير قد أُدخِل بوساطة حقنة بها دهان عالق أذابه الأثير وأدخله معه، وعلى ذلك فقد امتصَّ الحيوان دهنًا بالفعل.
- (٣)
فإذا ما أدخلنا الأثير بأنبوبة لا أثر بها للدهن، فإن قنوات العصارة لا تبيض، وهذا ما تحقق منه بالفعل.
(٦) أهمية الفكرة في منهج الفسيولوجيا
من كل هذه الأمثلة، ننتهي إلى أن العملية التجريبية متشابهة في العلوم البيولوجية وفي الطبيعة الرياضية، على أن هذا التشابُهَ يقف عند حدٍّ مُعين هو عدم إمكان إضفاء صورة الدالة الرياضية أو على الأقل عدم إمكان إضفائها دائمًا على «الفكرة» التجريبية التي تُبتدع في المرحلة الثانية من مراحل البحث. وقد بُذِل مجهود كبير للوصول إلى هذه الغاية؛ بل إن في علم الحياة جزءًا كاملًا يتشكل بالصورة الرياضية. أو أن الفكرة تتشكل على الأقل بالصورة الطبيعية الكيميائية، ففكرة الدورة الدموية عند «هارفي» ميكانيكية، وفكرة الحرارة الحيوانية عند «لافوازييه» كيميائية، وكان كلودبرنار يُجري تجاربه، في أغلب الأحيان، بطريقةٍ صناعية، أعني في البيئة الجامدة كما يفعل الكيميائي.
البيولوجيا (علم الحياة)
(٧) التاريخ الطبيعي هو الصورة الأولى للبيولوجيا
والهدف المنشود للبحث في التاريخ الطبيعي هو تفسير الفروق بين الأحياء، لا قانونها المشترك، الذي هو الحياة. فدراسة التنفس بوجهٍ عام تنتمي إلى مجال الفسيولوجيا. حقًّا إن المرء لا ينظر إلى الأمر من وجهة النظر التجريبية هذه أبدًا، وإنما يدرس التنفُّس في «الإنسان» مثلًا، ولكن هذا راجع إلى أننا نختار الإنسان بوصفه أكثر الحيوانات تعقيدًا، ولأنه — كما ينبغي لنا أن نعترف — أكثرها أهمية بالنسبة إلينا، ولكن المرء على استعداد للتعميم دائمًا. فالتفرقة بين الحيوانات، أو التمييز مثلًا بين التنفُّس عن طريق الرئتَين والتنفس عن طريق الخياشيم، معناه التطرُّق إلى مجال التاريخ الطبيعي.
ومن المفهوم أن التاريخ الطبيعي قد بدأ بإعداد مجموعات، وقد قام أرسطو نفسه بمثل هذا العمل، مثال ذلك أن نعدَّ مجموعات للنباتات الحية أو المجفَّفة (كالحدائق النباتية أو حدائق المزروعات والأعشاب) إلخ، أو حيوانات حية (كبيوت الحيوانات المستأنسة أو أقفاص الطيور) أو حيوانات محفوظة في حالة «طبيعية» بطرقٍ متباينة (كالحيوانات الكبيرة المحنطة، والحشرات المحفوظة في صناديق، والحيات والقواقع المحفوظة في الكحول) أو مجموعات من الرسوم أو الوثائق.
وإذن فقد بدأ التاريخ الطبيعي في هذه المرحلة كما لو كان تصنيفًا للأحياء أقرب ما يكون إلى الطبيعة. فتفسير كائن حي هو ربطه بنوعه، ثم إدراج هذا النوع تحت جنسٍ أعم، حتى الفروع الرئيسية لمملكة الأحياء. ومعنى ذلك بعبارة أخرى أن التاريخ الطبيعي يفرض على مجموعة الأحياء نسقًا من «الأفكار»، وينحصر التفسير في ربط كل كائنٍ حي بفكرة في هذا النسق، وذلك بعينِهِ هو ما أسماه كونت «بالتفسير الميتافيزيقي» إذ إن قوام هذا التفسير الأخير هو أن نُحدد سبب وجود ظاهرةٍ ما بأنه فكرةٌ ما، أو بأنه كيانٌ عقلي (تجريد مُشخَّص) على حدِّ تعبيره.
(٨) مذهب التطور هو تطبيق للمنهج الوضعي على البيولوجيا
- (١)
عن طريق تقدمه الخاص، فقد تبيَّن للعلماء أن المجموعات تظهر بينها مجموعات متوسطة يزداد عددها بالتدريج، وتُوحي بفكرة الاتصال وبالتالي بفكرة القرابة قطعًا.
- (٢) وعن طريق نمو علم الحيوانات المنقرضة paléontologie والمقصود بهذا الاسم دراسة الأشكال الحية للحفريات، المعاصرة للعصور الجيولوجية السحيقة في القِدَم والتي ظلَّت باقيةً بصور مختلفة.فمنذ القرن السادس عشر نجد «برنار باليسي Bernard Palissy» مهتمًّا بالحفريات، وفي القرن السابع عشر، نرى ليبنتز، الذي كان يهتمُّ بكل شيء، لا سيما بما يوضح تنوع الكون واتصاله، قد لفت الأنظار إلى الحفريات.١٩ ولا شك أن تصنيف الحفريات يقوِّي هذه الفكرة التي نُكوِّنها لأنفسنا نتيجةً لتقدم تصنيف الأحياء الحالية، وأعني بها فكرة وجود قرابةٍ واتصال بين الأنواع الحية.
- (٣) وقد ابتدع مربُّو الحيوان والبستانيون والزُّراع، وحسَّنوا منذ ألوف السنين، وسائل عملية تؤدي إلى خلق نماذج فرعية، وربما أنواع٢٠ كالقمح، ونباتات الزينة، والحيوانات المستأنسة والأنواع المتأقلمة. وهذه كلها أشكال حصل عليها الإنسان وخلقَها.
فإذا ما وضعنا هذا كله في حسباننا، ألفَينا التاريخ الطبيعي يتَّخذ طابعًا مغايرًا؛ فهو يبدو في صورة «تاريخية» بالمعنى الصحيح، أي أنه يروي قصة «تاريخ» ويرسم «جغرافية» الأنواع الحية، بدلًا من أن يكتفي بوضع قائمة لها وفقًا لنسَقٍ من الحقائق الأزلية، وبعبارة أخرى، فهو يُعيد تأليف «شجرة نسب» الأنواع، مع ربطها بالبيئة الجغرافية (كالمناخ والمسكن والظروف) وإذن فهو يصور الأنواع من حيث خضوعها للزمان وللعلية والمكان، لا وفقًا لمعانٍ أزلية.
والنتيجة التي تُستخلص من هذه الفكرة الجديدة هي أن الأنواع الحية، لما كانت معلولات ونتائج للبيئة وللسوابق في آنٍ واحد، فمن الضروري أن تتغير كلما اقتضى ذلك تأثير السوابق والبيئة. وإذن يجب ألا نتصوَّرها بعد الآن كما لو كانت ثابتةً؛ بل يجب النظر إليها على أنها قابلة للتحول. هذه النتيجة للنظرية هي أكثر عناصرها الباقية شيوعًا وأبلغها دلالةً على النظرية، ومنها استُمدَّ الاسم المعروف لهذه النظرية: مذهب التطور.
(٩) لامارك وأتباعه المحدثون
بدأ مذهب التطور في أول الأمر في صورة النظرية، أو بتعبيرٍ أدق، في صورة مجموعة من النظريات أهمها تلك التي تقدَّم بها «لامارك ودارون».
(أ) ضمور الأعضاء أو نموها
-
(١)
بمعنى الغائية: بل بمعنى «العناية الإلهية»، إذ إن الكائنات الحية قد أصبحت قادرةً على الانتفاع من البيئة بفضل الطبيعة أو الله، ولكن لامارك، الذي كان من فلاسفة دائرة المعارف، لا يقبل هذا التفسير.
-
(٢)
والمعنى الثاني هو معنى «العلية». فالطبيعة قد أثَّرت في الكائنات الحية لكي تجعلها متلائمةً معها، أو على الأصح، سلكت الكائنات الحية مسلكًا يكفُل لها الانتفاع بالبيئة (بأن تعوم بدلًا من أن تَسير مثلًا) ونتج عن ذلك أن نمَتْ أو ضمرت لدَيها أعضاء مُعينة، بتأثير التعود، أو بتأثير عدم التدريب.
وراثة الصفات المكتسبة: ولكي يكمل التفسير، يجب التسليم بأن كل زيادةٍ أو ضمور في الأعضاء تُنقَل بالوراثة (وهذا ما يُسمَّى بوراثة الصفات المكتسبة).
تلك هي آراء لامارك الأساسية: اتصال الكائنات العضوية في السلسلة، والتكيف بالبيئة باستخدام الأعضاء أو عدم استخدامها، ووراثة الصفات المكتسبة.
(١٠) مذهب دارون
وعند دارون أن سبب التحول هو الآتي: فكلما وُلد كائن حي، حدث «فارق عرضي» وفي «التنافس الحيوي» الذي تدخل فيه بالطبع الكائنات التي تنتمي إلى نوعٍ واحد تعيش أفراده معًا، فيضطرون إلى التغذِّي من نفس الإقليم، ومن نفس الأغذية، وبمقادير غير كافية؛ في هذا التنافس قد يكون ذلك الفارق العرضي أمرًا ضارًّا أو نافعًا. فإذا كان ضارًّا، أدى ذلك إلى القضاء على الكائن الذي يحلُّ فيه، وإن كان نافعًا، استمر الكائن في البقاء، وتكاثر، ونقل الاستعداد للتنوع على هذا النحو، وهو الاستعداد الذي كان فطريًّا لدَيه. فالفارق العرضي الموروث، والانتقاء الطبيعي (بقاء الأصلح، والقضاء على الآخرين بتأثير التنافُس الحيوي). هذه هي الأفكار الرئيسية في مذهب دارون.
(أ) الصعوبات التي تواجهها نظرية التطور عند لامارك وعند دارون
بقي علينا أن نعرف أيهما كان على حقٍّ: لامارك أم دارون.
إخفاق نظرية لامارك: توقفت نظرية لامارك في التطور فورًا عند عقبة كأْداء؛ فالتغيرات التي تُكتسَب خلال حياة الكائن لا تُنقل بالوراثة، أي أن «المكتسب لا يورَّث» كما يقول التعبير الشائع، ولقد أجريت في هذا الصدد تجارب متعددة، ولكن لم يثبت من واحدة منها إمكان انتقال تغير مثلًا، أو عادة مكتسبة. فالاستعدادات والميول والتكيفات الموروثة هي وحدَها التي تنقل.
- (١) فلدَيها القدرة على إنتاج الكائن العضوي بأكمله. وهي وحدها، التي تتميز بهذه القدرة، أما بقيَّة خلايا الجسم، المسماة بالخلايا السوماتية (الجسمية Somatiques) فلا تُنتج على الأكثر إلا جزءًا من نفس النسيج الذي تنتمي إليه (كما في حالة اندمال الجروح، والترقيع الحيواني).
- (٢) وهي تتميز ثانيًا بأنها تحمل خصائص الوراثة، فمن أين أتت هذه الميزة «للبذرة»؟ أهي ترجع إلى نوع من التفويض من قِبل الكائن العضوي بأكمله؟ وهل هذا التفويض — إذا صح — يتجسم في دقائق تسمى بالبراعم gemmules، تتوزع على الجسم بأكمله، وتتجمَّع في البذرة؟ إن أحدًا لم يلاحظ من قبلُ مثل هذا التجمع، كما أن «البراعم» الجسمية هذه كيانات لا وجود لها إلا في الذهن، والأصح من ذلك أن نفترض أن خلايا التوالد لا تأتي من جسم الفرد؛ بل من بذرة السلالة نفسها. فعند كل ميلاد، يكون هناك جزء من «البذور» الخاصة يحتوي على الخلية الأم، ولا يُستخدَم في تركيب الكائن العضوي الجديد، وإنما يُحفظ احتياطيًّا دون أن يطرأ عليه تعديل، ليكون «البذرة الجديدة». وتستمر خلايا التوالد في الأجيال المتعاقبة، وتكون من مادة واحدة، ومن تركيب جسيمي واحد، وإذن فعلينا، تبعًا لهذه النظرية الطموح، أن نتصور تعاقب الأجيال في صورة بلازما التي تظلُّ مستمرة في الوجود دائمًا، والتي تنضمُّ إليها، عند نموها، الخصائص الجسمية للفرد في كل جيل. وإذن فالوراثة تنتقل من الجنس إلى الأفراد المتعاقِبين، لا من فردٍ إلى فرد، ولا شك في أن هناك ردود أفعال تحدث من جانب الفرد على «البذور»؛ فهناك مثلًا أمراض جرثومية مُعينة، أو أنواع من التسمُّم المكتسب قابلة للانتقال، ولكن عددها ضئيل. ثم إن ما يورث في هذه الحالة، كما قال برجسون، ليس هو «الصفة» وإنما «الانحراف» الذي يتجسَّم في صورة ميكروب أو مادة سامة أصابت الجسم، وبالتالي تُصاب البذرة بالعدوى عن طريق الاتصال المباشر.٢٨
فالواجب إذن أن نفسِّر التحول بأنه قدرة تصف بها البذرة الجماعية، وتلك نقطة مُقررة في هذا الموضوع، بحيث أصبح مذهب دارون في شكله الحديث هو الذي يمثل مذهب التطور في صورته الحالية.
(ب) الصعاب التي تواجه مذهب دارون
من المهم ألا ننسى أن مذهب التطور يتعين عليه، لكي يظل سائرًا في الطريق الذي اختطه دارون، أن ينظر إلى هذه القدرة على التغير على أنها تسلك أي اتجاهٍ كان، بحيث إن الانتقاء الطبيعي هو وحده الذي يوجهها في الوجهة الملائمة، ولكن ما عسى أن تكون نسبة احتمال التغيُّر الملائم عندئذٍ؟ إنها بلا شك نسبة ضئيلة جدًّا، لا سيما أن هذا التطور لن تكون له فائدة إلا إذا كان مشتملًا على عددٍ معين؛ بل على عددٍ كبير من التغيرات التي تتَّجِه كلها نحو هدفٍ واحد، فمثلًا: ما قيمة اكتساب بلَّورية العين بغير شبكية، أو شبكية بغير بلَّورية؛ بل ما فائدة وجود عين بدون الأفعال المنعكسة التي تعين على استخدامها؟ لقد شعر دارون نفسه بهذه الصعوبة، ولهذا اعترف بأن التغيرات كانت لا بد ضعيفة في البداية، حتى لا يكون ضررها أكبر من نفعها. ومع ذلك، فلنا أن نتساءل عما يتبقَّى لها من قيمة إذا كانت ضعيفة، وكيف يتسنى للانتفاء أن يثبتها.
(ﺟ) الطفرات
وهكذا يواجه مذهب التطور عند دارون أو لامارك عقباتٍ لا سبيل إلى الغلبة عليها. فهو يصطدم، عند لامارك بالتجربة، وعند دارون بعدم الاحتمال. فهل يعني هذا إخفاق مذهب التطور ذاته؟
(١١) ما تبقَّى من مذهب التطور: المنهج التطوري
إن المنهج التطوري اليوم هو المنهج المتبع في علمٍ حلَّ محل التاريخ ويُسمى بالبيولوجيا (وهو لفظ صاغه لامارك في ١٨٠٢م).
- (١) تفسير أصل الأنواع الحية عن طريق السلالة التي تنتمي إليها، والبيئة التي تنشأ فيها، لا عن طريق مرتبتها في التصنيف. وليس معنى ذلك أن التصنيف يختفي؛ بل يظل باقيًا، ويكون موضوعًا لذلك القسم من البيولوجيا المسمى «تصنيف الأنواع la Systématique». ولكن التصنيف قد قلت أهميته كثيرًا، ولم يعُد له من قيمة سوى تثبيت المصطلح اللفظي، والتمهيد لإدماج الأنواع في شجرة النسب، وهذا الإدماج هو بالاختصار الهدف النهائي للبيولوجيا.
- (٢)
توجيه الأبحاث على نحوٍ يؤدي إلى تكوين تاريخ وجغرافية للحياة:
(أ) فهناك سلسلة من الأبحاث تهدف إلى إعادة تصور التسلسل التاريخي بين الأشكال، وإلى تحديد صبغة قوانين التعاقب بقدْر ما يكون ذلك ممكنًا (علم الأحياء المنقرضة Paléobiologie).
(أ) الوثبة الحيوية l’élan vital
-
(٣)
والأساس الأخير للمنهج التطوري هو إدخال المنهج التجريبي الإيجابي في البيولوجيا. فقد كان علماء التاريخ الطبيعي السابقون يقِفون عند حدِّ الجمع والتصنيف، أما علماء الحياة في أيامنا هذه فهُم أصحاب تجارب قبل كل شيء.
(١٢) البيولوجيا الحالية تشتمل أساسًا على علم الأجنة والوراثة
- (١) دراسة تطور الجنين، وهو موضوع علم الأجنة Embryologie وهذه الدراسة قديمة جدًّا، ولكنها تجدَّدت بوساطة مذهب التطور أولًا حوالي ١٨٦٥م، ثم تجدَّدت مرةً أخرى في ١٩٠٠م بعد أن أُدخِل عليها المنهج التجريبي الإيجابي، وهو المنهج الذي يهدف إلى تعديل تطور الجنين عن طريق التدخل القائم على التجربة (طرق الشطر Segmentation والترقيع والتلقيح التجريبي).ولقد أحرزت طرق الترقيع البيولوجي في هذه السنوات الأخيرة تقدمًا هائلًا، ويقول جان روستان Jean Rostand٣٤ بأن من الضروري التمييز بين أنواع مختلفة من الترقيع؛ فقد يُدمج العضو الذي يستخدم في الترقيع في نفس الكائن العضوي الذي أتى منه الترقيع الذاتي autograffe) أو في كائن عضو آخر ينتمي إلى نفس النوع (الترقيع المتجانس homogreffe) أو من كائنٍ عضوي من نوعٍ مختلف (الترقيع المتغاير hétérogreffe). فمثلًا يمكن ترقيع قلب ضفدعة بقلب ضفدعةٍ أخرى (ترقيع متجانس) أو عين سحلية بسحلية من نوع آخر (ترقيع متغاير).
ويمضي جان روستان (ص٢١) قائلًا: «إن الترقيع الذاتي هو وحدَه الذي يسمح لنا بتوقيع نتائج إيجابية في حالة الإنسان.» ويُستخدَم الترقيع الذاتي بوجهٍ خاص في جراحة التجميل، وذلك بنقل قطعة من جلد الذراع مثلًا إلى الجبهة أو الوجنة. كذلك استُخدِمت طريقة الترقيع لأنسجةٍ ميتة. وعندئذٍ يكون الجسم الغريب الذي استُخدِم في الترقيع — كما يقول جان روستان (ص٢٦) — «دعامة، ومقومًا، فتدعمه وتحييه وتعمره عناصر أصلية في الكائن.» وعلى هذا النحو أمكن ترقيع القرنيات الشفافة وإعادة قوة الإبصار إلى بعض العميان.
كذلك ترتبط الأبحاث المتعلقة بالترقيع البيولوجي بمشكلةٍ أخرى جذبت اهتمامَ كثيرٍ من الباحثين منذ نصف قرن، وهي مشكلة «زرع الأنسجة» culture des tissus وقد أعاد جوتريه Gautheret إلى الأذهان في محاضرةٍ ألقاها عام ١٩٥٠م في موضوع زرع الأنسجة، الكشوف الأولى (ص٦)، فقال: «في عام ١٩٠٧م كان عالم الفسيولوجيا الأمريكي هاريسون قد وضع قطعة من النخاع الشوكي للضفدعة في قطرة من السائل اللمفاوي المتخثر، فوجد أنها قد أُحيطت بنوعٍ من الألياف أتت من زيادة نموِّ الخلايا العصبية التي بُترت بعد العزل، ولم يكن في ذلك زرع للأنسجة بالمعنى الصحيح، ولكن تلك التجربة الرائعة قد فتحت طريقًا يُبشِّر بنتائج عظيمة الأهمية، وبعد بضع سنوات، استطاع بروز Burrous وكاريل Carrel الإبقاء على قدرة الخلايا على الانقسام والتكاثر في أجزاء من الأنسجة الحيوانية فترة من الزمن، وأخيرًا، تمكَّن كاريل في ١٩١٢م، بفضل تحسين الأوساط الغذائية، من زرع الخلايا الحيوانية دون قيدٍ أو شرط، وكان لهذا النجاح دوي كبير، إذ إن إثبات كاريل لقدرةِ خلايا الحيوانات المركبة على أن تحيا حياةً مستقلة، قد دعم الأفكار العامة لمؤسِّسي نظرية الخلايا.» - (٢) والمسألة الثانية، هي دراسة الوراثة، وهي موضوع «علم الوراثة La génétique». وقد أثيرت هذه المسألة من جديد بفضل أبحاث الراهب التشيكي مندل Mendel في ١٨٦٥م في الأنواع المهجَّنة من البازلاء، وقد أحرزت نموًّا كبيرًا في أيامنا هذه بفضل أبحاث العالِم التجريبي الأمريكي مورجان Thomas Hunt Morgan ومساعديه (فرقة الذباب) حول ذبابة الفاكهة (drosophile). والفكرة التي يقول بها علماء الوراثة المعاصرون هي أن الصفات الوراثية (كلونِ العينَين وقابلية الإصابة بأمراضٍ معينة، والصفات الخاصة للأعضاء … إلخ) تحملها المورثات gènes وهي دقائق تُرى بصعوبةٍ في أكبر أنواع المجهر (ultra-microscope) وتحتوي على صبغيات (chromosomes) نواة خلية التوالد.
وكل ما في الأمر هو أن هذه النظرية لو صحت لتعرضت نظريات التطور من جرَّائها لمواجهة صعوبات جديدة. فإذا كانت الخصائص ترتبط بالمورثات، وتنقل بوساطتها عن طريق بلازما التوالد، فكيف يمكننا أن نتصوَّر حدوث تطور في النوع، أعني ظهور صفات جديدة كل الجدة؟ إن الحتمية التي يفترضها عِلم الوراثة هي حتمية «محافظة»، تفسر كل تجديدٍ بظهور تجمُّع غير مُتوقعٍ بين العناصر النوعية، ولكن التجمع غير المتوقَّع ليس تجديدًا بالمعنى الصحيح، وما هو إلا تجديدٌ ظاهري، فهو تجديد لمزيج لم نحسِب له حسابًا من قبلُ. أضف إلى ذلك أنَّ هذا الفرض لا يساعدنا على فهْم تأثير البيئة.
ومع ذلك، يجب القول إنَّ علم الوراثة لا زال حديثًا جدًّا، وإن الفرض القائل بالمورثات مُفرطٌ في بساطته وجموده، بحيث لا يُعد الفرض الصحيح. هذا إلى أن الفكرة القائلة بأن الصفة تحملها إحدى الدقائق المادية، فكرة غامضة إلى أبعدِ حدٍّ، ولن تتَّضِح بجلاء إلا إذا أصبح لها معنى طبيعي كيمائي: فمن المحتمل أن المورثات تؤثر عن طريق تفاعلات كيميائية في خلايا التوالد، وهذه التفاعلات يُعدلها تأثير البيئة. ومن جهة أخرى، فمن الممكن كذلك أن تعدل صفات المورثات ذاتها بمُضي الوقت في اتجاهٍ محدد.
De dignitate et augmentia scientisrum (principaux chapitres de Francis Bacon de Verulam), Delagrave, p. 29.
De dignitate et augmentis scientiarum, 11, 2.
والذي ليس هو التاريخ البشري، وإنما هو وصف للأشياء الطبيعية، بقدْر ما تتطلَّب هذه الأشياء وصفًا.
ترجمه إلى الفرنسية عن الطبعة الإنجليزية السادسة باربييه.
Ed. Barpier
(Paris Reinwald 1876) pp. 240–241 (Chap VII).
مقال في كتاب.
Essais sur l’hérédité et la selection naturelle, trad. Varigny paris 1892. pp. 163–243.
انظر أيضًا الكتاب العام الذي ألفه ريمون نوفاس Reymon Novasse التكيف والتطور (مكتبة Harmann ١٩٥٠م، الفصل السابع، فكرة متشورين).