العلوم الإنسانيَّة
العلوم الإنسانيَّة تدرس الإنسان من حيث هو فرد، ومن حيث هو عضوٌ في جماعة في آنٍ معًا. وهي تواجِه صعوباتٍ خاصة، تُلخَّص كلها في التضادِّ ما بين الحتمية وحرية الاختيار، كما ترجع إلى تبايُن هذه العلوم (علم النفس، التاريخ، علم الاجتماع).
الطابع الوضعي للعلوم الإنسانيَّة
(١) العلوم الإنسانيَّة
•••
والعلوم الإنسانيَّة على كثرتها — التي سنتحدث عنها فيما بعدُ — تنقسم عادةً إلى ثلاثة أقسام كبرى: فعلم النفس يدرس الإنسان من حيث هو فرد، ويبحث في أفعاله وأفكاره وعواطفه، وما يكونه وما يفعله. وفي وسعنا أن نضمَّ إليه علم الحياة البشري، وهو العلم الذي ظهرت فكرته منذ وقتٍ قريب، للدلالة على السلوك الفسيولوجي والمرضي للإنسان ليس مماثلًا من كل وجهٍ لسلوك الأحياء الأخرى. والتاريخ يدرس ماضي البشر، والحوادث التي تتحكم فيه، والمنطق الذي يتكشَّف عنه خلال تطوُّره (إن كان في هذا التطور منطق). ووجهة نظر التاريخ مختلفة عنها في علم النفس، فالتاريخ في بحثه للفرد لا يهدف إلى معرفته من حيث هو فرد؛ بل يرمي إلى فهمه بالنسبة إلى موقفٍ تاريخي معين، وفهم هذا الموقف ذاته من خلاله. أما علم الاجتماع فيلتزم معالجة الأمور من خلال هذا المنظور الجديد، فهو غالبًا ما يدَع العنصر الفردي جانبًا لكي يدرس العنصر الاجتماعي، أعني أوجه النشاط والأفعال البشرية من حيث أن لها، بطبيعتها، أو في جملتها، طابعًا غير فردي. وبالإضافة إلى هذا كله، سنرى أن كلًّا من هذه العلوم ينقسم إلى فروع جزئية يتطلب كل منها موضوعًا ومنهجًا خاصًّا به.
(٢) السبب في كثرة هذه العلوم
إن كثرة العلوم الإنسانية تقتضي منَّا، منذ الآن، تعليقًا. فَلِمَ هذه الكثرة؟ يرجع ذلك، أولًا، إلى أن من طبيعة كل علم، ولا سيما علوم الطبيعة، أن يتخصَّص ويستقلَّ عن غيره بقدْر ما يُحرز من تقدُّم، فمن الممكن أن يُدرَس الموضوع الواحد من زوايا مختلفةٍ كلٍّ على حدة، تفي بمقتضيات وجهات نظر مختلفة، وتعبر في ذاتها عن حاجاتٍ مختلفة أو عن أساليب عملية متباينة: فكما أن الحجر يمكن أن يُدرَس من وجهة النظر الجيولوجية، أو الطبيعة الكيميائية، كذلك يمكن دراسة الإنسان باعتباره كائنًا عضويًّا، أو شخصية أو محركًا للتاريخ، أو فردًا في مجتمع.
ولكن، أليس في وسعنا أن نمضيَ إلى أبعدَ من ذلك، أعني أنه إذا كانت هناك تفسيرات مُتعددة للظواهر البشرية، دون أن يكون أحدها صحيحًا بالأسبقية، وإذا لم يكن من الممكن بحث الإنسان في ظلِّ حتميةٍ بسيطة واحدة، فهلا يحقُّ لنا أن نقول إنه ليس هناك علمٌ خاص للإنسان؟
(٣) إمكان قيام العلوم الإنسانيَّة
ذهب البعض إلى حدِّ إنكار إمكان قيام العلوم الإنسانيَّة: فهل يمكن أن يكون الإنسان موضوعًا للعلم، إذا كان في الوقت نفسِه صانع العلم؟ وهل نستطيع أن نُرجِع الإنسان إلى مجرد شيءٍ من الأشياء، دون أن نبخسه حقَّه تمامًا؟ إن المعرفة الصحيحة للإنسان قد تنتمي إلى مجال الأدب أو التفكير الفلسفي، وقد تتبدَّى في الحياة العملية، وفي الأساليب الفنية للتربية أو الأخلاق، وفي الحكمة السياسية. والفلسفة هي التي تنظم هذه المعرفة قبل الفلسفية، دون أن يكون لدى العلم ما يُضيفه إليها.
لا شك في أن هذا النقد ينطوي على شيءٍ جدير بالتوقُّف لدراسته: فمن الحق، أولًا، أن الإنسان لم ينتظر ظهور العلوم الإنسانيَّة رسميًّا لكي يسعى إلى معرفة الإنسان، والأدب بأَسره خير شاهد على ذلك.
وأخيرًا، فمعرفة الإنسان تقتضي وسائل ليست كلها مماثلةً للوسائل التي تستخدِمها علوم الطبيعة. فليس من الممكن إجراء التجارب على الإنسان كما لو كان شيئًا من الأشياء، إذ إن في هذا قضاء على حياته؛ بل إن فيه انتهاكًا لحرمته واغتصابًا لحريته. ويبدو أنه يجب ألا يُمَسَّ أعمق ما في الإنسان، وأبعد دخائله غورًا، إلا بطريقٍ تجهلُها العلوم التجريبية، فضلًا عن أن هذه المجالات إذا ما اقتُحمت، كانت مهددةً إمَّا بأن تختفي عن أعيُننا، وإمَّا بأن تنحطَّ قيمتُها. وتذهب بعض الآراء الحديثة إلى حدِّ القول بأن تطبيق علمٍ خاصٍّ بالأشياء على الإنسان، هو انتهاك روحي مماثل للتعدِّي الجسمي الذي يتمثَّل في الاسترقاق أو الإرهاب.
ولكن هل يقضي هذا على كل علمٍ إنساني؟
(٤) حقيقة العلوم الإنسانيَّة
هذا التقدُّم يحدث، قبل كل شيءٍ في ترتيب الوقائع، بحيث تتوالى المجالات البيولوجيَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة تبعًا لهذا الترتيب. فمن المقرَّر أن الانفعالات يصحبها زيادة في إفراز «الأدرينالين»، وأن بعض أمراض الذاكرة تصحبها اضطرابات حركية، وأن التفكير العقلي يزداد تقدمًا في ظروفٍ معينة، وبالمثل يلاحظ أن مجتمعًا خاصًّا تكون له حضارة خاصة، وأن تقدمًا فنيًّا معينًا يرتبط بظروف اجتماعيَّة معينة، وأن نمو المدن يحدُث في ظروف خاصة، ويؤدي إلى نتائج مُعينة بالنسبة إلى تركيب الأُسرة أو العقائد الدينية. وإذن فحتى لو لم تكن معرفتنا الحالية واسعة، فلا شك أنها أوسع من معرفة أسلافنا.
(٥) السببيَّة في العلوم الإنسانيَّة
ومع ذلك، فليس يكفينا أن نكشف عن الظواهر؛ بل يجب أن نُرتبها، ونوضح ضرورتها. وإنا لنعلم أنه ليس هناك ظواهر علميَّة إلا عن طريق القانون، وأن الظاهرة هي في ذاتها قانون. ولكن هل يمكن أن يتوصَّل علم الإنسان إلى قوانين؟ وهل يستطيع الاهتداء إلى تتابعات سببيَّة؟ وهل تنطبق الحتمية على الإنسان؟ الحق أن إمكان قيام العلوم الإنسانية رهنٌ بهذا الشرط، كما هي الحال في سائر العلوم.
وسنوضح أن هذه العلوم، إذا كانت تضطرنا إلى إدخال أفكارٍ جديدة نظرًا إلى موضوعاتها، فإنها لا تتنافى مع التفسير السببي، وأنها لهذا جديرة بأن تُسمَّى علومًا.
-
(أ)
الأحكام المعياريَّة والأحكام الواقعيَّة: مما لا شك فيه أنه يجب التسليم أولًا بأن العالِم لا يستطيع الوقوف من موضوع دراسته موقف عدم الاكتراث. فالإنسان يُهمُّ الإنسان، وهو يستثير حكمه، وتحيُّزه، إن جاز هذا التعبير. ومن هنا كانت المعرفة في هذا الصدد تسترشد، على نحوٍ ضمني على الأقل، بتأكيد قيمٍ مُعينة. وكما أن البيولوجيا تميز بين السليم والعليل، وعلم النفس بين السويِّ والمريض، أو بين الإدراك الحسي الصحيح والباطل، أو الذاكرة القويَّة والذاكرة الضعيفة، كذلك يميز علم الاجتماع بين قُوى التقدُّم أو التقهقر، وبين المجتمع المتوازن وغير المتوازن، وبين التركيبات الاجتماعية التي تُعين على نموِّ الشخصية أو تعوق هذا النمو. غير أن هذه الأحكام المعيارية تُضاف إلى البحث العلمي ولا تشوِّهه؛ فهي توجِّههُ وتضعه في خدمة الإنسان. والعلم ينحاز إلى صفِّ الإنسان في نفس الوقت الذي يشرع فيه في معرفته مثلما ينحاز الطبيب إلى صف المريض. ولذلك فإن المعايير التي يقابلها العلم على هذا النحو ليست تحيزات، وإنما هي تُعبر عن الجهد الذي تبذُله الحياة، وربما العقل، كي تبلغ كمالها في الإنسان، والجهد الذي يبذُله الإنسان ليصبح إنسانيًّا.وقد يقال، رغم ذلك، إن بعض المعايير التي يرجع إليها التفكير العلمي، وخاصةً في التاريخ وعلم الاجتماع، هي بالفعل تعبير عن آراء العالِم ذاته أكثر مما هي تعبير عن معياريَّة حقيقيَّة. فإن قال المرء مثلًا إن أصلح جماعةٍ اجتماعية هي تلك التي تُنتج أكبر إنتاج أو تتماسك أقوى تماسُك، أو أنَّ خير تعليم هو الأكثر حرية (بينما يرى آخرون أنه الأكثر خضوعًا للسلطة)، أو أن التاريخ يتجه إلى تكوين مجتمع بلا طبقات (بينما يرى آخرون أنه يتجه إلى تكوين مجتمع يزداد تفاوتًا)، فهلَّا تكون هذه الأحكام، سواء أكانت عمليَّة أم أخلاقيَّة، أحكامًا شخصية تُقحَم في مجال تفسير الظواهر؟ الواقع أن هذه الأحكام إذا كانت تعبر عن ذاتية العالِم، فإنها تعبر أيضًا عن الموقف التاريخي والاجتماعي، وعن المعيارية المتعلقة بالجماعة أو المجتمع أو العصر الذي يكون العالِم جزءًا منه، وهذا ما تكشف عنه بالفعل الدراسة السيسولوجية لعلم الاجتماع sociologie de la sociologie أعني علم الاجتماع الخاص بالمعرفة، الذي يتجلَّى فيه تحيُّز العالِم على أنه تعبير عن حقيقة اجتماعية. ولكن من واجب العالِم بطبيعة الحال ألا يركن إلى علم الاجتماع الخاص بالمعرفة في محاولة تفسير هذه التفصيلات؛ بل يجب عليه أن يحاول التخلُّص منها، وألا يخلط بين معيارية المجال البشري الذي يدرسه وبين التفضيلات الخاصة التي يشعر بها نحو صورة معينة للمجتمع أو نحو مستقبلٍ سياسي معين.
-
(ب)
الغائية والسببيَّة: في هذه الحالة تعبر الأحكام المعيارية التي يصورها العالِم عن قدرته على التقويم في موضوع دراسته. ومعنى ذلك أن علوم الإنسان لا تستبعد الغائية. والحق أن الحياة ذاتها، تتَّجِه في المجال البيولوجي إلى تحقيق فردٍ سليم، أعني فردًا قادرًا على البقاء والتكيُّف مع العالَم وتأكيد سيطرتِهِ عليه. والبيولوجيا تصِف جهد التكيف هذا، وفي الوقت نفسه تستلهِمه وتشارك فيه. كذلك يتَّجه الإنسان، من الناحية النفسية، إلى اختراع الوسائل التي تضمن له سلوكًا يزداد تكيفًا ونجاحًا، وهو السلوك الذي تبدو بعض الرواسب أو ضروب التقهقر حالاتٍ مرضيةً بالنسبة إليه؛ بل إن الظاهرة المرضية ذاتها تُعد صورة ممسوخة أو مشوهة لهذا الجهد. وأخيرًا، فإن الجماعة الاجتماعية تتَّجِه، هي الأخرى، إلى الاستمرار في البقاء وإلى حفظ توازنها، لا عن طريق عمليات للتنظيم الذاتي أو الإصلاح الذاتي، كما هي الحال في الكائن العضوي؛ بل عن طريق وسائل تزداد دقةً على الدوام، كالتربية والإدارة ونظام الشرطة، وهي الوسائل التي تدعو الفرد إلى الاندماج في المجتمع والعمل على حفظ وجوده. وعلى هذا النحو يمكننا أن نتحدَّث عن غائية اجتماعية، وربما عن غائية تاريخية، وذلك إذا سلَّمنا بأن الصيرورة البشرية في مجال المجتمع لا الفرد، ليست نتيجةً للصُّدَف وحدها، أي لحتمية تبلُغ من التشابك والتعقُّد حدًّا لا يمكن معه تمييز عناصرها.
غير أن الغائية، مفهومةً على هذا النحو، لا تغضُّ من قيمة التفسير السببي؛ بل الأمر على عكس ذلك تمامًا، لأنها إذا شاءت أن تُبرر وجودها، فإنما يكون ذلك عن طريق الحتمية التي توضِّح كيف يتسنَّى للوسائل أن تُنتِج الغاية، أو كيف تؤدي الغاية بدَورها إلى نتائج مُعينة، وبالتالي كيف تتأكَّد معيارية الفرد أو الجماعة وتنمو، أعني كيف يكون الفرد السوي، مثلًا، هو ذلك الذي يتكيَّف مع المجتمع على أفضل وجه، وكيف أن أكثر الجماعات تجانسًا هي أكثرها بقاء، وكيف أن حالةً اجتماعية مُعينة تُوحي بمستقبلٍ معين، وتتَّجِه إلى تحقيقه.
-
(جـ)
الفهم والتفسير: ومن جهة أخرى، فالإنسان أيضًا وعي، وهو بهذا الاعتبار مُقفل بالنسبة إلى غيره من الناس، وشفَّاف أمامهم في آنٍ واحد. فهو لا يعرف الآخر معرفته للأشياء، وإنما يتعرَّف عليه بوصفِهِ شبيهًا له، بفضل ما لدَيه من قُدرةٍ على الاتصال به، وعلى قراءةِ تعبيرٍ عاطفي على وجهه، والارتياب في قصدٍ مُعين وراء فعلٍ ما، أو أحد الدوافع وراء قرارٍ ما. فللظاهرة الإنسانية دلالةٌ تُدرك مباشرةً على الدوام، حتى لو لم تكن واضحةً أو صالحة للتطبيق. وهذا ما أسماه بعض الكتاب — منهم الفيلسوف مثل «دلتي Dilthey» والمؤرخ مثل «ماكس فيبر» وعالِم النفس مثل ياسبرز — بالفهم compréhension وهم يُقابلون بينه وبين التفسير. ويضرب ياسبرز لذلك مثلًا فيقول: إن المرء يفهم أن الشخص الذي تستبدُّ به الغيرة يسعى إلى الانتقام، ويُفسِّر كون الزُّهَري يؤدي إلى الشلل العام.لكن العلم لا يستطيع الوقوف عند حدِّ هذه التفرقة؛ بل عليه أن يجمع بين التفسير والفهم دائمًا، والواقع أن:
- (١)
الفهم ذاته قد يُصبح علميًّا يتطلَّب تدخُّل العلم أكثر مما يتنافى معه، فالفهم يتفاوت في مداه، والمحلل النفسي يفهم الغيرة والغضب على نحوٍ أفضل من الشخص غير المثقف. كما أن الخبير يَفهم معنى العمل الفني خيرًا من الهاوي.
- (٢)
والفهم لا يتنافى مع التفسير، ويرجع ذلك أولًا إلى أنه قد يتضح في ذاته على هيئة علاقة سببيَّة، كما هي الحال عندما يصف عالِم النفس العمليات النفسية التي تؤدي إلى الغيرة، أو عندما ينسب عالِم الجمال «آثارًا» فنية معينة إلى عِلل معينة. ثم إن المرء يستطيع البحث عن أسباب لما يفهمه، ومثال ذلك: الأسباب الفسيولوجية للغيرة أو الأسباب الاجتماعية للتعبير عنها، أو الأسباب الفردية أو الاجتماعية لخلقِ عملٍ فني ما.
- (١)
(٦) الحرية والحتمية
فإن كان للماضي الذي يحتفظ به العقل عن طريق الذاكرة تأثير على الحاضر فمعنى ذلك أن اللحظة الماضية مباشرة لم تعُدْ هي وحدَها التي تتحكم في اللحظة الحاضرة، وأن الحتمية الرياضية لا تنطبق في صورتها الخالصة على العلوم الإنسانية.
(أ) الحريَّة والتقدُّم الإنساني:
من هذه الملاحظات ننتهي إلى أن الحتمية لا تؤثر في الظواهر المعنوية مثلما تؤثر في الظواهر المادية، إذ إن للإنسان قدرة على التذكُّر، وعلى التقدُّم تبعًا لذلك.
(ب) الحرية خالقة
والواقع أن حرية الإنسان قادرةٌ على الخَلق. ولقد سبق لنا الكلام عن اختراع القوانين في علم الطبيعة الرياضي، وكان ذلك خَلقًا بالمعنى الصحيح، إذ إن هذه القوانين ليست مُعطاةً في الظواهر بل ينبغي أن يكشفها العقل فيها.
ومن جهةٍ أخرى، فإذا كان الفعل الحر هو الفعل العقلي على الحقيقة، فمعنى ذلك أنه يستفيد هو الآخر من التفسير، إذ إنه يبدأ على الأقل بتحديدٍ يُبرِّره، إن لم يبدأ بحتميةٍ تامة. ولا شك في أنه ليس لنا أن نخلط بين الدافع والسبب، عندما يكون مصدر الدافع حكمًا حرًّا، ولكن دراسة الأفعال الحرة هي دراسة يمكن أن يقوم بها علم الإنسان في كل الأحوال، وهي جديرة بأن تحتل مكانها في هذا العلم.
وأخيرًا، فليست كل الأفعال البشرية تستطيع أن تدعي لنفسها صفةَ الحرية. ففي الإنسان استجاباتٌ مُعينة تبدو آلية بمعنى الكلمة، بل إن مظاهر السلوك الشعورية والإرادية ذاتها لها شروط بيولوجية وتاريخية واجتماعية. ولا شك في أن لغة السببية يجب أن تكونَ أقلَّ صرامةً في هذا المجال، إذ يتحدَّث المرء عن شروط وتأثيرات، أو عن أسباب متبادلة، كما هي بين الفرد والجماعة، وبين الكائن العضوي والبيئة. فمن الجائز أن الحتمية هنا ليس لها ذلك المعنى الدقيق الذي تتميَّزُ به في مجال علوم الطبيعة؛ بل هي تتكيَّفُ مع الظواهر الإنسانية، ومع ذلك، تظلُّ تحتفظ في العلم الإنساني بنفس الحاجة إلى التفسير. ومن جهةٍ أخرى فإن علم الاجتماع سيُبين لنا أن الظواهر الإنسانية يمكن فحصها في مظهرها الجماعي لا الفردي، وعندئذٍ تكون ما يمكن أن يعد طبيعة اجتماعية، تقبل الخضوع للحتمية بدورها.
(٧) خاتمة
فهناك إذن علوم للإنسان، وهذه العلوم ذاتها تثبت اليوم وجودها عن طريق نموِّها. وهي علومٌ كثيرة، ومناهجها ذاتها متعددة، مثلها مثل المفاهيم التي تطبقها. ولكن ألا يَصدُق هذا أيضًا على علوم الطبيعة، التي أدخلت عليها التفرقة بين مجالات العالَم الأكبر والعالَم الأصغر تعديلاتٍ عميقةً؟ كذلك نستطيع أن نفرِّق في دراسة الإنسان بين مجالين: الفردي والجماعي، كما نفرِّق بين وجهين للظاهرة البشرية: الطبيعة والحريَّة. ومن هنا كانت كثرة وجهات النظر التي تفحص الظواهر الإنسانيَّة تبعًا لها. غير أن علوم الإنسان لو أصرت على أن تتسم بطابع البساطة التامة والاطراد المطلق لقصرت في أداء مهمتها، إذ إنها ستخرج عندئذٍ عن الطابع المميز لموضوعها، وستكون غير جديرةٍ برسالتها.
(٨) العلوم المعياريَّة
ويبقى علينا، قبل البحث في العلوم الإنسانية كلٍّ على حدة، أن نقول بضع كلمات: سُمِّيَ «بالعلوم المعيارية»، أي الأبحاث التي تدور حول بعض القيم، وتقدر الأعمال الإنسانيَّة تبعًا لهذه القِيَم؛ وأهمها المنطق، وعلم الجمال، والأخلاق. هذه الأبحاث تفترض أن الإنسان معياري، ولا يستطيع أن يفهم دون أن يحكم (على الأشياء)، ويحكم على ذاته. ولكن هل من الممكن أن يكون الشيء الذي بدأ منذ برهةٍ موضوعًا للعلوم الإنسانية، وشرَكًا منصوبًا لها في الوقت نفسه، علمًا بدوره؟ وإذا نحن تحدَّثنا عن علمٍ للحق أو الجمال أو الخير، أفلا نكون عندئذٍ قد استخدمنا كلمة العلم بمعنًى سابق على ظهور الروح الوضعية؟ وهل في وسعنا أن نقول إن هذه العلوم تندرِج تحت الفلسفة، إذا صحَّ أن الفلسفة تنطوي على التفكير في القِيَم؟
- (١)
تعريف القِيَم، وفحصها، وتبريرها، وترتيبها، ينتمي إلى مجال الفلسفة التي يمكنها بطبيعة الحال أن تُفيد هنا من تجربة العلوم الإنسانيَّة، ولكن دون أن تخضع لها.
- (٢)
ينتمي تطبيق هذه القِيَم إلى أوجهٍ مختلفة للنشاط يجب أن تُوصَف بأنها فنيَّة عملية، وأوضح مظاهرها هو التعليم بكافة صوره، وهذه الأساليب العملية يجب أن تستند إلى العلوم الإنسانيَّة، حتى تؤدي الغرض المقصود منها على الوجه الصحيح. فالتربية الأخلاقيَّة أو العقلية أو الفنية ترتكز على علم النفس، وكذلك على تاريخ العلم، الذي يعرض بالتفصيل في علمَي الاجتماع والتاريخ.
- (٣)
دراسة القِيَم المتفق عليها صراحةً أو ضمنًا في مجتمعٍ مُعين وعصر مُعين، ودراسة تطوُّرها ونتائجها العملية، تنتمي إلى صميم العلوم الإنسانية على نحو ما عرفناها.
وعلى ذلك، فلفظ «علم السياسة» قد يُشير إمَّا إلى دراسة دجماطيقية للمدينة المثلى (كما في «جمهورية» أفلاطون أو «العقد الاجتماعي» عند روسو)، وإمَّا إلى مجموع الأساليب العملية للحكم (كالإدارة وتنظيم السلطة والدعاية … إلخ) وإمَّا إلى دراسة اجتماعية أو تاريخية للنُظُم السياسية، وبحث نفسي للإنسان من حيث هو مواطن.
(٩) الأخلاق والعلم
وفي الأخلاق جزء آخر يرتبط بصميم العلوم الإنسانية، هو علم النفس الأخلاقي، والتربية الأخلاقية، وهما يصِفان الضمير الأخلاقي عندما يصطرع مع مختلف ميول الإنسان، ويرتدُّ إلى الوسائل التي تضمن له الظفر.
ولكن، هل تقتصر الأخلاق على أن تكون علمًا للعادات الأخلاقية أو علمَ نفسٍ أخلاقيًّا؟
علم النفس
(١) علم النفس والتحليل الفكري الانعكاسي
يمكن أن يتَّخِذ بحثُ الإنسان في الإنسان وجهتَيْن مختلفتَين ينبغي التمييز بينهما بوضوح، لأن إحداهما علمية بالمعنى الصحيح، بينما تنتمي الثانية إلى الفلسفة. ولنبدأ شرح هذه المسألة بمثالٍ: هو الإدراك الحسي، كإدراكِ السائر الذي ينتبِهُ إلى المرور وعلاماتِهِ خلالَ عبوره الشارع. هذا الإدراك الحسِّي يمكن دراستُهُ بالبحث عن التركيب الفسيولوجي الذي يجعلُهُ ممكنًا، ونوع الأحداث التي قد تُغيِّرُه حتى تؤدي إلى توقفه. ومن الممكن قياس قوة الإبصار عن طريق بحث حالة أعضاء الإبصار والكائن العضوي بأكمله. كذلك يُمكننا أن نفحص كيف يقوم الفرد بردِّ فعلٍ تجاهَ إدراكِهِ الحسي، وكيف يرتبط هذا الإدراك بسلوكه، وكيف أنه يَعبُر الطريق مطمئنًا إلى هذا الإدراك، وكيف تدرَّب على هذا السلوك، وبفضل أي الظروف التاريخية والاجتماعية أمكنة ذلك. وأخيرًا ففي استطاعتنا أن نربط إدراكه الحسي وسلوكه بشخصيته، ونُحدِّد السمات الشخصية التي تتجلَّى في طريقة عبوره للشارع، ونبحث في تاريخه الفردي والاجتماعي عن أصلِ هذه السمات، وهذه الملاحظات قد تُمهِّدُ الطريق لتطبيقاتٍ عملية عن أفضلِ نظامٍ لإشارات المرور التي ينبغي استخدامُها في مفارقِ الطرق، وطريقة تدريب المشاة، والاحتياطاتِ التي ينبغي اتخاذُها بالنسبة إلى مَن لم يتكيَّفوا مع هذه النُّظم. وفي هذه الحالة وفي غيرها يرتبط العلم بأساليبَ عملية تدفعه إلى الأمام، وتدعم نتائجه في آنٍ واحد.
وعلى العكس من ذلك، يمكننا أن نُفكر على نحوٍ مخالفٍ مماثلٍ لذلك الذي ضرب به «ديكارت» مثلًا في تحليله لإدراكنا الحسِّي لقطعة الشمع التي تذوب، فنُبيِّن كيف أن الفهم كامنٌ في الإحساس، وكيف أنه يرتبط بالإرادة، أعني أنَّ كل إدراكٍ حسي هو عملٌ لذاتٍ قادرةٍ على «التفكير». فالتحليل الفكري الانعكاسي يهدف إلى تحديد شروط إمكان المعرفة، ويهدف بصورةٍ أعم إلى تحديد تلك العلاقة الفريدة للإنسان بالعالَم، مما يؤدي بهذا التحليل إلى الخوض في مجال الميتافيزيقا، وربما تناول موضوع الغاية التي يختصُّ بها الإنسان في هذه الحياة، فيؤدي به ذلك إلى الخوض في مجال الأخلاق. ومن الجائز أن يُلهم هذا التحليل علم النفس العلمي، إذ يدفعه إلى أن يحسب حسابًا لما يكشفه، وأن يهتدي إلى الشروط الأولية المعروفة في التجربة ذاتها. ولكن البحث العلمي يستهدفُ غرضًا آخر، هو معرفة الإنسان بوصفِهِ فردًا وكشف قوانين سلوكه، والسعي وراء معرفة الحتمية النفسية، واتخاذ هذه المعرفة الوضعية أساسًا تُبنى عليه أساليبُ عمليةٌ تمكِّن الإنسان من التأثير في الإنسان.
(٢) الدراسات النفسيَّة السابقة لعلم النفس
- (١)
ممثلة في العلاقات بين الأشخاص؛ فالطفل ذاته يستشفُّ ما يمكن أن يُثير غضب أبويه، ونتائج ذلك الغضب، والطبيب والسياسي، والكاهن الذي يتلقى الاعتراف هم أنفسهم «علماء نفسٍ».
- (٢)
كما تُوجَد ضمنًا في الأساليب العملية التي يؤثر بها الإنسان في الإنسان ولو كان ذلك بطريقة غير شعورية، كما هي الحال في التربية، والقيادة والإرشاد.
- (٣)
كما يعبر عنها في الأدب، الذي يستطيع أن يمدنا بأمثلة قيمة التفكير التحليلي، حتى في الحالات التي لا يهدف فيها إلى التفسير والشرح.
(٣) الأنواع المختلفة لعلم النفس
ما الشروط التي تجعل هذه المعرفة علميةً؟ إنها تصبح كذلك إذا ما مضت في طريقها على نحوٍ أدق تنظيمًا، وما كانت تعتمد بوجهٍ خاص على ظواهر موضوعيَّة تخضع للملاحظة، وربما للقياس، وتكشف في هذه الظواهر عن حتميَّة نفسيَّة، ما دام السعي إلى الموضوعية وتأكيد الحتمية أمرَينِ مُرتبطَينِ دائمًا ارتباطًا ضمنيًّا على الأقل. وانطلاقًا من هذا يُمكننا أن نتبيَّن الفروع المختلفة لعلم النفس الوضعي.
(أ) الاستبطان
(ب) التحليل النفسي
(ﺟ) مذهب تداعي المعاني ومدرسة الجشطالت
(د) علم النفس الفسيولوجي
ومن ذلك فقد اعتقدت بعض المدارس أنه يجب البحث عن الموضوعية من جهة الجسم بوجهٍ خاص، بدلًا من البحث عنها في الوعي، ويرجع ذلك أولًا إلى أن الملاحظة والقياس هي في الظواهر الجسمية أيسر منها في ظواهر الوعي، وإلى أن الظواهر الجسميَّة تتحكم في ظواهر الوعي هذه تحكمًا قويًّا. ومن هنا كانت الأهمية التي اكتسبها علم النفس الفسيولوجي، الذي يدرس الأسس أو المظاهر العضوية للظواهر النفسية، ويدرس بوجهٍ خاص تركيب المخ والجهاز العصبي المركزي وأجهزة الحس، وكذلك طريقة أداء هذه الأجهزة لوظائفها، وأحوالها المَرضيَّة. وهنا يدخل علم النفس في مجال البيولوجيا البشرية. وفي مقابل علم النفس الفسيولوجي، نجد علم النفس الاجتماعي، الذي سنعود إليه فيما بعدُ، والذي يدرس علاقة الفرد بالجماعة الاجتماعية، ويهتمُّ خاصة بمختلف المؤثرات التي تباشرها الجماعة على الفرد.
(ﻫ) علم النفس السلوكي
(٤) المنهج التجريبي
(أ) الحتمية النفسية
ولكن، أيًّا كانت المناهج فهي لا تكون مُنتجةً من الوجهة العلمية إلا إذا كانت قادرةً على الإتيان بتفسيرٍ سَببي للظواهر التي تكشفها، وبالفعل تدَّعِي كل المناهج أنها قادرة على ذلك. وعلى أساس قدرتها هذه يمكنها إيجاد أساليب عملية صالحة تُستبدَل بالأساليب التلقائية التي كان يلجأ إليها علم النفس في البداية. ذلك لأن الإنسان لا يستطيع السيطرة على الإنسان — سواء في ذلك سيطرة الطبيب على المريض، والمربي على الطالب، والمعلن على العميل، والرئيس على المرءوس — إلا إذا ترتبت نتائج معينة على أسبابٍ معينة، وأمكن تحقيق النتائج بتحقيق الأسباب. أمَّا إذا كانت الحرية التي تعزوها بعض المذاهب إلى الإنسان (وهي حرية مشروعة في رأينا) تحُول دون أي تطبيقٍ للعلاقات، فسيعجز الفرد عندئذٍ حتى عن التأثير على ذاته، ولن تكون حريته إلَّا لفظًا فحسب.
- (١)
إن الإنسان يخضع للحتميَّة عندما ينحط سلوكه إلى مرتبة الآلية، كما هي الحال في أوقات نومِه، أو عندما يحُول المرض دون أن يُحقِّق ذاته بالمعنى الصحيح، كما في حالة استسلامه للفكرة الثانية أو للوهم المُلِحِّ أو للعقد.
- (٢) وإن الإنسان السوي، إذا كان قادرًا على السيطرة على نفسه فهو في الوقت ذاته مُسيطَر عليه، ومن واجبه أن يعترف بمظاهر السيطرة الواقعة عليه، والتي يمكن تسميتها «بالشروط conditions» وهكذا يدرس علم النفس الفسيولوجي الشروط الفسيولوجية للسلوك، ويدرس علم النفس الاجتماعي شروطه الاجتماعية، أما علم النفس بوجهٍ عام فيدرس العمليات النفسية التي تتجلَّى في هذا السلوك، والعلاقات السببيَّة التي يتكشَّف عنها تاريخ الفرد.
فإن كان للحرية مدلولٌ غير المدلول الميتافيزيقي، وإن كان لعلم النفس أن يقدِّم من جانبه دليلًا على هذه الحرية، فلن يكون ذلك عن طريق استبعاد هذه العلاقات السببية؛ بل عن طريق بيان أن الإنسان يمكنه أن يضع في مقابل هذه الأسباب سببيته الخاصة، التي لا يحول شيء دون تصورها على أنها سببية حرة، كتلك التي تُمارس في الفعل الإرادي؛ ففي استطاعته أن يؤثر في جسمه، وفي الجماعة الاجتماعية، وفي شخصيته هو، وفي ميوله أو طباعه. فالسببية المتبادلة فكرة يزداد استخدامها شيوعًا في علوم الإنسان، وهي تشهد بالطابع الوضعي لهذه العلوم، وهي في الوقت ذاته دليل على حرصِها على احترام الطابع المميز للكائن البشري.
التاريخ
(١) التاريخ والتاريخية
يهدف التاريخ إلى معرفة الماضي، أي ماضي البشر، أفرادًا وجماعات. أما ماضي الأشياء فلا يهمه إلا بقدْر اتصاله بماضي البشر. فالتاريخي هو ما يحدث للإنسان وما يهم الإنسان؛ فزلزال لشبونة في القرن الثامن عشر تاريخي لأنه أثَّر في مصير سكان لشبونة، ولأنه أثار خواطر فولتير ومناقشاته حول فكرة العناية الإلهية. أما تاريخ الأنواع، أو الأرض، أو النظام الشمسي، فليس تاريخًا بالمعنى الصحيح طالما أن الإنسان لا يتمثَّل فيه. وفي هذه الحالة لا تكون هناك حوادث، لأن ما يحدث لا يحدث لأحدٍ. أما الإنسان فهو وحدَه الذي له تاريخ، لأن الإنسان وحدَه هو الذي لا يكتفي بأن يكون في الزمان، أو يخضع لتسلسُل زمني لا يمكن عكس اتجاهه ولا مستقبل له، وإنما يشعر بالزمان، ويستطيع تصوُّر الماضي، وتثبيت الحاضر على نحوٍ ما، وذلك القيام بأعمال تظل باقيةً من بعده، وتصور مستقبل يقارنه بماضيه. وربما كان لنا أن نقول أن للتاريخ وجودًا حقيقيًّا، وذلك لأن له وجودًا من حيث هو معرفة، أعني أن الإنسان قادر على أن يتمثل ماضيه ليُقرر مصيره، إما بطريقةٍ أسطورية كما في المجتمعات البدائية، حيث لا يبعث الماضي إلا في صورة أساطير يجب الاحتفاظ بها، وإما بطريقة علمية كما هي الحال في مجتمعنا، ومما تجدُر ملاحظته أن المجتمعات البدائيَّة التي لم يظهر فيها مؤرخ بالمعنى الصحيح، هي في معظم الأحيان مجتمعاتٌ ثابتة، جامدة، لا يبدو لها تاريخ، على حين أن ظهور التاريخ باعتباره علمًا هو خطوة حاسمة في حضارة الإنسانية ووعيها بذاتها.
(٢) الواقعة التاريخية
ولكن ما مصدر هذا التأكيد لفردية الواقعة التاريخيَّة؟ ذلك أولًا لأن هذه الواقعة تتخذ لها موقعًا في زمان لا رجعة فيه، أعني زمانًا يحياه الإنسان ويتحدَّد أولًا بالموت المحتوم للفرد، وبمجهود الإنسانية لبلوغ كمالها، على حين أن زمان الأشياء قد يمكن العودة فيه إلى الوراء إلى حدٍّ ما، إذا جاز هذا التعبير، ما دام ينقسِم إلى مراحل متكررة ومنتظمة، ولا يتجه نحو معلومٍ. وثانيًا لأن الواقعة التاريخية ترتبط بالإنسان الذي يحياها بوصفها حاضرًا له، وحدثًا فريدًا.
(٣) المنهج التاريخي
(أ) تحقيق الواقعة
- (١) فهو يجعل الوثيقة قابلةً للاستعمال، ويتثبَّت من صحتها. ذلك هو النقد الذي يقوم به البحث العلمي، الذي يستعين بعلوم ثانوية عديدة يعتمد عليها التاريخ، كعلم الرسوم Iconographie (ويشتمل على الصور والتماثيل المنحوتة والنقوش البارزة) إلخ. وعلم الكتابات القديمة Paléographie (المخططات) وعلم النقوش Epigrahpie (كالكتابات على الحجر) وعلم المسكوكات Numismatique كالنياشين، وعلم الآثار Archéologie وعلم أصول المواضع Toponymie (أصل أسماء الأمكنة).
- (٢) كما تُستخدم الوثيقة للتثبُّت من الواقعة. وأكثر الوثائق صحةً هي الوثائق غير الإرادية التي لا تقول إلا القليل، أما الوثائق الإرادية فتقول أكثر، ولكن لا يُطمأن إليها كثيرًا، إذ يمكننا أن نتساءل عما إذا كان المؤرخ الذي دوَّنها قد ألمَّ بالحوادث إلمامًا كافيًا، وعمَّا إذا كان حكمُه حرًّا. وهنا تتدخَّل روح النقد، أي روح الدقة esprit de finesse التي تحدَّث عنها باسكال، والتي هي نوع الذكاء الذي يقتضيه تفسير الإنجيل في نظره. وللنقد التاريخي مهمتان:
- (أ)
المقارنة أي التأكد من صحة وثيقة عن طريق وثيقة أخرى مستقلة عن الأولى.
- (ب)
التفسير النفسي والنقدي، أي التحليل الذي ننتقل به من الوثيقة إلى مقاصد الكاتب، ومن مقاصده إلى الصورة التي كوَّنها لنفسه من الأحداث، ومن هذه الصورة إلى الأحداث ذاتها.
- (أ)
وهكذا تتَّضح معالم الوقائع التاريخية. ومن المهم هنا أن نُشير إلى أهمية الصبر، أعني الحماس الذي يحاول به بعض الباحثين (ولنلاحظ أن التاريخ في أصله الاشتقاقي اليوناني يعني البحث) أن يُلقوا ضوءًا على دقائق معينةٍ من الماضي، وعلى تفاصيل صغيرةٍ إلى أقصى حدٍّ في بعض الأحيان، فيكرِّس أحد الباحثين في الوثائق مثلًا عدة سنواتٍ كي يتتبَّع أثر دير في العصر الكاروليني، وتقوم بعثةٌ معينة بحفر منطقةٍ من أجل التنقيب عن رسوم مدينة اندثرت منذ خمسة آلاف سنةٍ. وفي حب الاستطلاع هذا عنصر تلقائي عميق، فالإنسان يهتم بالإنسان أشدَّ الاهتمام، ووعيه بالإنسانيَّة لا يكف عن الامتداد والتوسع، منذ العهود البدائية التي ينظر فيها إلى أي شخصٍ غريب عن القبيلة على أنه من نوع مخالف.
ولكن يجب أن نلاحظ أيضًا أن متابعة الوقائع على هذا النحو لا تخلو من بعض الافتراضات السابقة التي تتدخَّل على الدوام. فالمرء لا يرجع من الحاضر إلى الماضي فحسب؛ بل يستدل أحيانًا بالحاضر على الماضي، وهكذا يفترض المرء وجود تجانس أساسي في مراكز الناس، ووحدة أساسية للطبيعة البشرية، لا يمكن الوصول إلى فهمٍ دونها. ومن جهة أخرى، ينتقل المرء من واقعةٍ معينة إلى أخرى، وهكذا يفترض اتصالًا للتاريخ، ومنطقًا معينًا لتعاقب الأحداث.
(ب) التركيب التاريخي
وهذا يُفضي بنا إلى المهمة الكبرى الثانية التي يأخذها المؤرخ على عاتقه، والتي كانت تُوجَد بصورة ضمنية في مهمته الأولى فليس يكفي أن نُميط اللثام عن الوقائع؛ بل ينبغي أن ندمجها في مجموع حضاري شامل، وفي الوقت ذاته نُدرجها في السياق الزمني، وهذا ما يُسمَّى بالتركيب التاريخي. حقًّا إن الواقعة المجردة — كقرار أحد الحكام، أو معركة معينة، أو عملية تجارية، أو تشييد مدينة ما — أمر لا غِنى عنه، فدونها لا يكون التاريخ إلا أوهامًا، والواقعة هي على الدوام المَحكمة العليا لكل تركيبٍ تاريخي. ولكن لنلاحظ من جهةٍ أخرى أن الواقعة إذا ما نظر إليها في ذاتها لم تكن تعني شيئًا؛ إذ لا يكون لها معنى إلا باعتبار أنها حدث إنساني وقع لأناسٍ وعاش فيه هؤلاء الناس، وباعتبار أنها تحتل مكانًا في مجموع، وفي إطارٍ عام، وفي لحظة محددة، وفي مدينة معينة وتعاقُب محدد؛ أي تحتل، على وجه الدقة، مكانًا في التاريخ، فكيف ننظم هذا التاريخ؟
هنا يتداخل الفهم والتفسير، ولكن هنا يصادف المؤرخ مشاكله؛ بل يصطدم التاريخ ذاته بحدوده التي لا يتعدَّاها.
(٤) التداخل بين الفهم والتفسير
(٥) موضوعيَّة التاريخ
(٦) الحتمية التاريخية
ولكن ما دام رجوعنا إلى الماضي أمرًا لا مفرَّ منه، أفلا نستطيع الإفادة من ذلك للسيطرة عليه، وترتيبه وتنظيمه؟ تلك هي المهمة التي تحاول الحتمية التاريخية القيام بها، على أن لهذه المهمة حدودًا، وإن كانت هذه الحدود لا تغض من قيمة هذه الحتمية بحالٍ.
وترجع هذه الحدود أولًا إلى أن الواقعة التاريخية البشرية وأفعال البشر مما يصعب التنبؤ به، ففي بعض الأحيان نلاحظ الجغرافيا البشرية؛ أن مدينةً ما تُبنى في موقعٍ غير مُلائم، على حين أن موقعًا أنسب يظلُّ مهجورًا، ولكن لو سلَّمنا بحُرية الذين يحتلون أدوارًا تاريخية، فإن هذا لا يعني رفض أية محاولة للتفسير. وكل ما في الأمر أنه يجب علينا أن نستبدل بحتمية الأسباب الطبيعية، تحديدًا عن طريق الأسباب العقلية، أو نُضيف الثانية إلى الأولى، أي أن السببية العقلية تحل محل السببية الطبيعية. وفضلًا عن ذلك، فالبحث عن الأسباب يرتبط بمواقف أو بحوادث تبلُغ في معظم الأحيان حدًّا من الاتساع يؤدي بالفرد إلى التراجُع إلى المرتبة الثانية، ومعه كل إشارة إلى الحرية.
وإذن، فالأصحُّ أن يُقال إن ما يحدُّ من الحتمية هو تعقيد الواقعة، وبالتالي كثرة السلاسل السببية التي تُقابل كلَّ واحدةٍ منها وجهًا لهذه الواقعة، فالحرب مثلًا يمكن أن تُعزى لأسبابٍ متعددة. ولكن، كيف يتسنَّى لنا أن نميز هذه العلاقات السببية المختلفة إن لم يكن ذلك بإقحامِ ضربٍ من التفرقة يرتاب المرء دائمًا في أنها اعتباطية، فضلًا عن أنها تفصم وحدة الحادثة؟
ومع هذا، فالبحث في الحتمية ليس عقيمًا، ففي خلال هذا البحث تظهر ضروب من الاطراد، واتجاهات ثابتة تسمح بإدراك الخاص من خلال العام، فنحن نعلم، بصورة مجملة، آثار الحرب في شعبٍ من الشعوب، وما العلاقة بين النظم الدينية والأشكال الجمالية، وبعبارةٍ أخرى، فالمؤرخ — كما سنذكر فيما بعدُ — يُصبح عالِمَ اجتماع مثلما يُصبح عالِمُ الاجتماع مؤرخًا بدوره. وحتى لو ظل المؤرخ متعلقًا بالتفاصيل، وبفردية الأحداث، وهي الأمور التي يتركها عالِم الاجتماع عادةً جانبًا من أجل البحث عن القوانين العامة، فإنه في حاجةٍ إلى المعاني العامة أو القواعد التي يقترِحُها عليه عالِم الاجتماع، إن لم يكن في حاجة إلى القوانين التي يُقرِّرها له، أو هو يضطر إلى أن يُصبح عالِم اجتماعٍ حتى يضع هذه القواعد والقوانين بنفسه.
(٧) فلسفة التاريخ
لكن المؤرخ قد يكون متعجلًا، ولا يقنع بهذه النظرة المجزأة غير اليقينية إلى الماضي، فيُبدي رغبة في إدراك الصيرورة التاريخية في حلقاتها المتتابعة وفقًا لحتمية لا تتخلَّف، وعندئذٍ يستند إلى فلسفة التاريخ، أو يلجأ إلى حلٍّ مُماثل لهذا، يعتمد على مذهبٍ طَموحٍ في علم الاجتماع، كي يقفز به طفرةً واحدة إلى الحدِّ النهائي لبحثه، ويؤكد نظريةً عامة في الصيرورة الإنسانية.
فلنفحص بإيجاز بعض المذاهب المشهورة في هذا الصدد:
فإذا كان «أوجست كونت» قد استخلص طرقًا «للتفسير»، وهيجل قد رأى الفكرة «تتحقق» في التاريخ خلال مظاهر الصراع والمقاومة، فإن كارل ماركس (١٨١٨–١٨٨٣م) يرمي إلى فهْم التاريخ دون أن يفصل هذا الفهم عن المسلك العملي للإنسان، الذي يهدف به إلى السيطرة على الطبيعة وتحقيق الاعتراف المتبادل بين «الناس». لهذا بدأ كارل ماركس بأن ربَطَ الاقتصاد السياسي والفلسفة، ووجد في العلاقات بين الإنسان والطبيعة، وفيما ينجم عنها من علاقات بين الطبقات الاجتماعية بوجهٍ خاص، أُسَس الديالكتيك التي كان هيجل ينسِبها إلى «الفكرة».
(٨) وضعية التاريخ
تمثِّل فلسفة التاريخ إغراءً مستمرًّا يجتذب التاريخ ذاته. وربما كان كل مؤرخ يخضع لهذا الإغراء بطريقةٍ ضمنية تتفاوت في درجاتها. وتُعبِّر هذه الفلسفة في نهاية المطاف، عن الدلالة التي يُضفيها المؤرخ على حاضره، وعلى الماضي، من خلال المستقبل الذي يؤمِّلُه أو يتنبأ به. وربما كان من المحتم على المؤرخ أن يشعر بأنه قد «حدد موقفه» على هذا النحو، وارتبط بالماضي في الوقت ذاته، وذلك حتى يتسنَّى له أن يولي الماضي اهتمامه، وحتى يكون لبحثه التاريخي معنًى. ومع ذلك، فالواقع أن خير ما ينطوي عليه إنتاج المؤرخ هو ما يقوم به من دراساتٍ مُضنية حول لحظاتٍ مُعينة في التطور، وهذا الجزء يقتضي جهدًا لكشف الحقيقة التاريخية في تعقيدها؛ بل في فجائيتها أحيانًا، وذلك في مقابل فلسفة التاريخ التي تقتل التاريخ بسبب غلوِّها في تبسيطه، وفي هذا الصدد يُقدِّم علم التاريخ، الذي يظلُّ ناقصًا واحتماليًّا على الدوام، خيرَ مثالٍ لما يمكن أن تكونه الروح العلمية، التي تُلهمها مشاغل قد لا تكون من مجال العلم دائمًا، ومع ذلك فإنها تؤدي إلى أن تتغلَّب فيه روح احترام الحقيقة وتقديرها.
علم الاجتماع
(١) مهمة علم الاجتماع
إذا أردنا أن نُكوِّن لأنفسنا فكرةً عن كُنه علم الاجتماع أي علم الظواهر الاجتماعيَّة، وجب علينا أن نبدأ بأمثلةٍ غاية في البساطة. فلنتصوَّر أحد الفصول التي تدرس فيها الفلسفة، والتي تكوِّن مجتمعًا صغيرًا في معهد علمي؛ مثل هذا الفصل قد يثير عددًا من المشاكل: فما مكانة هذا الفصل في المدرسة الثانوية، أو في الجهاز الجامعي، وفي نظام التعليم العام في البلاد؟ وكيف يؤدي هذا الفصل مهمته؟ أي ما تركيبه حسب أعمار طلابه، وعقيدتهم الدينية، وميولهم السياسية، والمراكز الاجتماعية لآبائهم؟ وهل له سمات خاصة به، وتقاليد ومعايير، ونوع من روح الجماعة، وإنتاج معين؟ وما التيارات التي تمرُّ به، من علاقات للأستاذ بطلابه، وللطلبة فيما بينهم، أهو متجانس، أم مجزأ إلى جماعات متميزة ومتعارضة؟ كل هذه المشاكل تنتمي إلى كلِّ مجال علم الاجتماع. ولنضرب مثلًا آخر، عن المدينة التي تُوجَد بها هذه المدرسة: ما تاريخها، وفي أي الظروف الجغرافية نمت، وما تأثير هذه الظروف في تركيبها، وفي هندستها المعمارية، وفي أعمال سكانها؟ وما وظيفتُها في الاقتصاد الإقليمي أو القومي؟ وما المؤثرات التي تلقَّتْها من العاصمة، أو التي تمارسها هي على الضواحي المحيطة بها؟ وما عدد سكانها، وكيف يوزَّعون في المكان تبعًا للأحياء؟ وإلى أي الطبقات؟ وإلى أي الجماعات من الأجناس تنقسِم، وما أهمية هذا التقسيم؟ وهل يتصف هؤلاء السكان بطابعٍ خاصٍّ في اللهجة أو العادات أو الفنون الشعبية … إلخ؟ وما هو بوجهٍ أعم، سلوك سكانها، من حيث المهنة والآراء واللهو؟ تلك أيضًا مشكلاتٌ يُعالجها علم الاجتماع وتقتضي أبحاثًا مُتعددة ينبغي أن يكون لها طابعٌ علمي، وذلك لأن هذه المشكلات تُثار على أساس معطياتٍ يمكن تحديدها وبحثها بطريقة موضوعية، ومن هنا كان تعبير دوركيم المشهور: «ينبغي أن تُدرَس الظواهر الاجتماعية كما لو كانت أشياء.» وهي عبارة لا يعني منها القول بأن الظواهر الاجتماعية أشياء، إذ إن هذا إنكار لما تتَّصِف به الظواهر الاجتماعية والإنسانية من خصائص مميزة؛ بل يقصد منها الإشارة إلى أن من الممكن اتخاذها موضوعًا لمعرفةٍ وضعيَّةٍ فحسب.
(٢) أوجست كونت
يرجع الفضل إلى أوجست كونت في إدراك هذه الحقيقة، وأعني بها أن الظاهرة الاجتماعية، من حيث هي كذلك، ومن حيث أنها مضادة للظاهرة الفردية، يمكن أن تكون موضوعًا لعلمٍ وضعي. ولقد انتهى إلى هذه النتيجة بناءً على اعتبارات أخلاقيَّة وسياسيَّة (وهي الاعتبارات التي يصعُب فصلُها من كل بحثٍ في العلوم الإنسانية). فقد لاحظ ما تركته الثورة الفرنسية من فراغٍ في النُّظم والعادات، بعد أن أتمت هذه الثورة القضاء على نظام منحل، دون أن تنجح في أن تستبدل به غيره. وعندئذٍ تساءل كونت عن الطريقة التي يمكن بها إعادة الوحدة والنظام — وهما أساس كل تقدُّمٍ — إلى العالَم وإلى الأمم الأوربية بوجهٍ خاص، فرأى أن ذلك التنظيم الأخلاقي العقلي والسياسي الذي حقَّقتْه العصور الوسطى في ظلِّ المسيحية — والذي انحلَّ بالتدريج طوال العصر الميتافيزيقي — لا يمكن الشروع في تحقيقه من جديد إلا بشرط أن يتمَّ تحت لواء العلم، حتى يعود التوازن مرةً ثانية ولكن، لأي العلوم ستكون الصدارة عندئذٍ؟ لذلك العلم الذي ظهرت بوادره عند كلٍّ من مونتسيكو وكوندورسيه في القرن الثامن عشر، والذي أصبح في الوقت الحالي ممكنًا بفضل تقدُّم العلوم الأخرى؛ ويعني به علم الاجتماع. وسرعان ما استنبط كونت النتائج الأخيرة لهذه الفكرة؛ فعلم الاجتماع يمتلك أفضل الوسائل لمعرفة كل ما يتعلق بالإنسان، والسبب في ذلك أولًا هو أن الظاهرة الإنسانية تتجلى في الظاهرة الاجتماعية أكثر مما تتجلى في الظاهرة الفردية، ما دامت الظاهرة الاجتماعية أشبه بالتكبير الواضح، في حين أن الظاهرة الفردية، التي لا تخضع في نظرِ أوجست كونت إلَّا للاستيطان، لا مكان فيها إلا للملاحظة الفجَّة المشوبة بالغموض. والسبب الأهم هو أنه لا وجود للظاهرة الفردية حقيقة إلا بوجود الظاهرة الاجتماعية؛ فالفرد فكرة مجردة كما يقول كونت، وكل ما ينطوي عليه من أفكار وعواطف وميول، وكل ما يجعله إنسانًا، ويرفعه فوق مستوى الحيوان، إنما يأتيه من قِبل الحياة الاجتماعية، والتركيب الداخلي للفرد إنما هو ميراث يستمده من الإنسانية، والإنسانيَّة هي مجموع النظم والأفكار الأخلاقية والدينية، والقواعد العقلية، والعادات العملية التي تميز الإنسان، والتي لم يكن إعدادها ممكنًا إلا بفضل الجماعة الإنسانية، وتضامن الجماعات البشرية في المكان وفي الزمان.
(٣) دوركيم وتعريف الظاهرة الاجتماعية
شقَّت الفكرة التي تقدَّم بها أوجست كونت طريقَها، وبعد بضع عشراتٍ من السنين توارت فيها هذه الفكرة، عادت فأثمرت عدة مدارس اجتماعية. وأبحاثًا تتزايدُ وفرة، وسار المفكر الذي اعترف الجميع بزعامتِهِ للمدرسة الفرنسية، أعني دوركيم، في طريقٍ يكاد يكون نفس الطريق الروحي الذي سلكَهُ كونت، فالأساس الخفي لفكره هو أيضًا الحرص على معالجة الفوضى التي تُهدِّد المجتمع الغربي، وذلك بتأكيد علوِّ الاجتماعي على الفردي، وإمكان ازدهار الفردي بوساطة الاجتماعي وداخله. فالتربية الأخلاقية يجب أن تقومَ على أساس المعرفة الوضعية للظواهر الاجتماعية، وهذه هي فكرة كتاب «قواعد المنهج في علم الاجتماع»، الذي يُعرِّف الظاهرة الاجتماعية وشروط دراستها.
- (١)
فقد يكون نوعًا من القوة المادية، كما في الحتميَّة الطبيعيَّة: وعلى هذا النحو تفرض قيمة سلعة أو قطعة من النقود.
- (٢)
وقد يكون جزاءات منظمة (تُقننها وتقضي بها محكمة تمَّ تأليفها) أو جزاءات غير رسميَّة (كالتمجيد أو التحقير، وهما جزاءان ليس لهما قانونٌ ثابت؛ يَصدُران عن الرأي العام).
- (٣)
السخرية التي تلحق بمَن يخالفون العادات دون قصد، أو يستهينون بقواعد الذوق الشائعة.
(٤) موضوع علم الاجتماع
(أ) التصورات الجماعيَّة les représentations collectives
ممَّ تتكوَّن الظاهرة الاجتماعية التي نعرفها على هذا النحو؟ تتكوَّن أولًا — على حد قول دوركيم — من «التصورات الجماعيَّة» أي من أساليب التفكير والشعور والسلوك التي تبدو في تصرف الفرد على أنها تعبير عن سيطرة الجماعة. وأوضح الأمثلة لذلك هي استجابات الفرد عندما يندمج في جماعة «في حالة انفعالٍ قوي» كما يحدث بمناسبة احتفالٍ أو عيد أو اجتماع سياسي. فهنا يتبلور «الشعور الجماعي» مؤقتًا على الأقل، ولكن إلى جانب هذه الاستجابات الانفعالية، يرى دوركيم، أن أسمى أنواع نشاط الوعي تتوقَّف هي الأخرى على شروط اجتماعية؛ فتأمَّل المفكر المنعزل يفترض تراثًا ثقافيًّا مُعينًا، واعتمادًا على مفاهيم يعجز الفرد وحدَه عن تكوينها. وهذه الثقافة ينبغي أن تُنسَب إلى الشعور الجماعي الذي يتميز به مجتمع مُعين في عصر مُعين.
(ب) النُّظم
والبحث في النظم يسمح بتقسيم العمل في مجال علم الاجتماع: فمن الممكن في الواقع تقسيم النظم إلى طوائف كبرى مُعينة، كالنُّظم السياسيَّة، والاقتصاديَّة، والتشريعيَّة، والفنيَّة، والدينيَّة … إلخ، وكل هذه المجالات يسمح بقيام دراسة خاصة (هذا، بطبيعة الحال. على شرط ألا نغفل أبدًا ما بين هذه النُّظم من علاقاتٍ متبادلة في كل مجتمعٍ مُعين، وندرك ما بين العادات الخُلقيَّة، والدين، والاقتصاد مثلًا، من سببيةٍ متبادلة تؤثر بها كل منها في الأخرى دائمًا). وهكذا يُمكننا أن نتحدَّث عن علم اجتماعٍ ديني، وعلم اجتماعٍ اقتصادي، وعلم اجتماعٍ جمالي … إلخ؛ بل نستطيع المُضيَّ في هذا التقسيم إلى أبعدَ من ذلك ونلمح «سماتٍ حضارية» كما في الأساليب العمليَّة للأخلاق، والمعتقدات الدينيَّة، واستخدام أداةٍ ما، وغيرها، ونتابع تاريخها في الزمان وتوزيعها في المكان خلال ظواهر الاقتباس والانتشار.
(ﺟ) بحث الأشكال الاجتماعيَّة la morpholgie social
(د) علم الاجتماع السكوني (الاستاتيكا الاجتماعيَّة) وعلم الاجتماع الحركي (الديناميكا الاجتماعيَّة)
أمَّا الدراسة الحركية فتتعلق بتاريخ المجتمعات من الوجهة الزمنيَّة، وهي في ذلك ترتبط بالتاريخ في علاقات وثيقة. والصفة الغالبة على هذا البحث في معظم الأحوال هي الميل إلى التحليل. فالباحث يستطيع تتبُّع التطور الزمني الذي يمرُّ به نظام معين، كالأسرة، أو سمة حضارية خاصة كالصلاة، أو إحدى الأدوات، أو الأساليب الفنيَّة، داخل مجتمعٍ معين، أو في مختلف المجتمعات التي يتمثَّل فيها. وقد يعنُّ له أن يبحث عن منطق هذا التطوُّر خارج النطاق التاريخي، فيفحص نظمًا مُتعاصرة، ولكنها تُوجَد في مجتمعات مختلفة، كالأساليب الزراعية المختلفة التي تُتَّبع اليوم لدى شعوب أفريقية معينة، وفي مزارع فرنسية، وفي مزارع جماعية روسية، ويرى فيها أمثلة لمراحل مختلفة في تطوير يحاول إعادة تركيبه. ولكن من الواجب أن نكون على الدوام حذِرين في حالات إعادة التركب هذه، حيث لا يعمل العنصر الزماني على تحقيق العنصر المنطقي.
(ﻫ) علم الأجناس البشريَّة éthnologie
- (١) أن تؤكد، على حدٍّ سواء، كلًّا من أوجه التشابُه، وأوجه الاختلاف، بين البدائي والمتمديِن. وهذا ما قام به ليفي بريل؛ فإنه لما بيَّن الطابع «قبل المنطقي» (Pré-logique) الذي تتَّسِم به «العقلية البدائية» في مقابل العقلية المنطقية التي تسود المجتمعات الحديثة، أكَّد أن التضادَّ ليس حاسمًا، كما بَيَّن باحثون آخرون التفكير السحري، الذي يبدو في الظاهر سمةً تنفرد بها العقلية البدائية، قد ظلَّ قائمًا في المجتمعات الحديثة، هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنه لا يتنافى مع وجود تفكيرٍ عقلي يتمثَّل في الأساليب العملية وفي العلاقات الإنسانية.
- (٢)
أن تكشف في أبسط المجتمعات البدائية عن نوعٍ من التعقيد يمنعنا من الحكم عليها بالبساطة (إذ نجد فيها مجموعاتٍ تنتمي كلٌّ منها إلى عمر مُعين، كما نجد فيها نوادي وجمعيات سريَّة … إلخ) ومن جهة أخرى تتمثل فيها آثار ماضٍ يمنعنا من أن نَعُدَّها أقدم صورة للمجتمعات الإنسانية.
- (٣) وأخيرًا تميل هذه الاتجاهات الأخيرة إلى القول بإمكان تطور هذه المجتمعات، وخاصةً إذا ما اتصلت بالبيض١٧ كما يتبين من الدراسات المتعلقة بظاهرة «التكيُّف الحضاري acculturation».
(و) علم الاجتماع التحليلي
(٥) منهج علم الاجتماع
إن كثرة المجالات التي يُعالجها علم الاجتماع تُوحي بوجود كثرةٍ من المناهج غير أن مما يؤدي إلى ازدياد تبايُن هذه المناهج، اضطرار علم الاجتماع إلى مواجهة المشاكل التي يُثيرها كلُّ علم للإنسان، ومن هنا كانت كثرة المدارس، وهي ظاهرة تشهد بحيوية التفكير في علم الاجتماع. فلنوضح هنا بعض الخطوط الرئيسية في هذه المناهج.
(أ) علم الاجتماع الموضوعي
ويكشف الإحصاء، أحيانًا بصفةٍ حاسمة، عن اطِّراد الظواهر الاجتماعية. على أنه ليس من الواجب — بلا شك — أن نثق بالأرقام ثقةً عمياء، ويرجع ذلك أولًا إلى أن الإحصاء لا يستمدُّ قيمته إلا من المعطيات التي يتخذها مادة له، والتي يستمدُّها من مصدر آخر؛ فتقدير الرأي العام تقديرًا حسابيًّا يستمدُّ قيمتَهُ من طريقة اختيار «عينات» السكان، ومن المعلومات التي يجمعها القائمون بالبحث. ثم إن مظاهر الاطِّراد التي يُقرِّرها الباحث قد ترجع أحيانًا إلى نقص المعلومات التي جمعها، وأخيرًا لأن الإحصاء في ذاته لا يَستنتج شيئًا، وهو يحتاج دائمًا إلى التفسير، ومع كل ذلك فلا شك في أنه يُلقي ضوءًا على الطابع الجماعي للظواهر الاجتماعية، ويُساعدنا إلى حدٍّ كبير في التعبير عنه بدقةٍ رياضية.
ويتعلق هذا العلم الاجتماعي الموضوعي بظواهر جماعية بالمعنى الصحيح، حيث لا يظهر الفرد إلا على اعتبار أنه أحد عناصر حقيقةٍ أسمى فيه، فلا يعدو إنتاجه أو فعله أن يكون مجرد مثَلٍ أو «عينة». ولكن ينبغي أن نلاحظ أن استبعاد العنصر الفردي ليس معناه استبعاد العنصر الإنساني، أعني النفسي؛ فعلم الاجتماع الاقتصادي لا يُنفقُ جهده عبثًا عندما يقوم بدراسةٍ نفسية للعمليات الاقتصادية، على غرار ما قام به علم الأجناس البشرية بالنسبة إلى الصور البدائية للتبادل، كذلك لا يتنافى البحث الإحصائيُّ في تأدية الشعائر الدينية بحالٍ مع تحليل صور الإيمان أو درجاته. ولكن ألا يتَّجِه التحليل النفساني، كلما ازداد دقة، إلى العودة إلى الفردي؟ ألا ينتهي، على أية حال، إلى التناقض مع الهدف الأول لعلم الاجتماع الموضوعي؟
(ب) علم الاجتماع وعلم النفس
- (١)
أولهما «علم النفس الاجتماعي»، وهو يدرس سلوك الفرد تجاه الظواهر الاجتماعية. فيبحث مثلًا في الطريقة التي ينضمُّ بها الفرد إلى جماعة، والدور الذي يلعبه فيها، والمركز الذي يشغله فيها، وكيف يبعث الحيوية في هذه الجماعة ويوجِّهُ نشاطها (وخاصة إذا كان يشغل فيها وظيفة القائد). وكيف يخضع الفرد، في مقابل ذلك، لتأثير الجماعة، ويقبل معاييرها ويتأثر بأحكامها، وأي الآراء والمشاعر تنمو لدَيه بسبب تأثير الجماعة، وكيف تنطبع شخصيته بأَسرها بطابع الجماعة. وعندئذٍ يجب التنبيه إلى وجود تأثير مُتبادَل من الجماعة في الفرد يمكن التعبير عنه بفكرة السببية، بشرط أن تكون هذه السببية على شيءٍ من المرونة، وتدمج بها مفاهيم مثل مفهوم الدوافع، والتكيف، والتأثير.
- (٢) وثانيهما ذلك المبحث الذي أُطلق عليه في أمريكا اسم «الأنثروبولوجيا الحضارية» وله موضوعُه الخاص به، وهو دراسة حضارة مجتمعٍ مُعين، أعني دراسة الطابع الاجتماعي حسبما يتمثل في الأفراد، وحسبما يحياهُ هؤلاء الأفراد، ومن هنا كان يتطلَّب دراسة علم النفس. ذلك لأن الحضارة، التي تُفهَم بهذا الفهم الواسع، يمكن دراستُها بدراسة المنتجات المادية للصناعة البشرية، من أدواتٍ وسلعٍ وأعمال فنيَّة … إلخ، كما يمكن دراستُها بدراسة النُّظم (السياسية والتشريعية والتربية … إلخ). غير أن هذه الأعمال وهذه النُّظم ذاتها ينبغي أن تُفحَص من جهة علاقتها بالأفراد، فالحضارة تتكوَّن في نهاية الأمر مما يُفكر فيه الأفراد وما يشعرون به وما يفعلونه، أعني أنها تتكوَّن من سلوكهم بقدْر ما يقوم هذا السلوك على أساسٍ اجتماعي، وبقدْر ما هو مُكتسبٌ من المجتمع، وخاضع لقواعدَ مُعينة فيه، وبقدْر ما يُنقَل إلى أفراد آخرين. فبملاحظة هذا السلوك نلاحظ الحضارة، وبتحليل هذا السلوك نهتدي إلى تفسير، جزئي على الأقل، لهذه الحضارة. والحق أن الأنثروبولوجيا، كما يقول «كاردنر Kardiner» تقتبس إحدى الأفكار الرئيسية لعلم النفس الاجتماعي مع التوسع فيها بحيث تمتدُّ إلى المجتمع بأَسره؛ فهناك نُظمٌ تُسمى بالأوليَّة primaires — وخاصة التربية، التي تتباين مناهجها ومضمونها من مجتمع إلى آخر — وتؤدي هذه النُّظم إلى تكوين تركيبة نفسية معينة في الأفراد، تتكوَّن منها «شخصية أساسية» لهم، أو سمِّها إن شئت «شخصية قومية»، وفي مقابل ذلك تؤدي هذه الشخصية الأساسية إلى قيام نُظم تُسمى بالثانوية، وتعكس التأثير الذي تُباشره النُّظم الأولية عليها. وهنا يكون للتحليل النفسي بوجهٍ خاص، أهميته لأنه يُعين أولًا على توضيح الطريقة التي تتكوَّن بها الشخصية في مرحلة الطفولة عند قيامها بالتجارب الاجتماعية الأولى، فضلًا عن أنه يكشف عن العمليات النفسية التي تُوضِّح العلاقات بين نظامٍ أوليٍّ ونظام ثانوي.
(ﺟ) علم الاجتماع والتاريخ
وعلى العكس من ذلك فإن علم الاجتماع، إن كان يبحث عن تسلسلاتٍ سببية، وإن كان يُعمم، فما ذلك إلا ليفهم ما قد يكون في الظاهرة الاجتماعية من عنصر فردي، أي ما تنفرد به حضارة مُعينة مثلًا، وكذلك ما هو عرضي في تطور هذه الحضارة، أو في تطور نظامٍ ما، ولا تستطيع الأنثروبولوجيا الحضارية أن تؤكد كثرة الحضارات، ما لم تبين الطابع الخاص الذي تنفرد به كلٌّ منها؛ بل إن المذهب التطوري ذاته لا يمكنه أن يستخلص قانون تطور نظام أو مجتمع معين، إلا بشرط بناء الجانب الحركي على الجانب السكوني، ومن ثم كان عليه أن يُبين أن لكل لحظةٍ من لحظات التطور طابعًا فرديًّا، وأنها لا يجب أن تُدرس إلا على هذا الأساس.
وإذن فالتقدم الذي يحرزه علم الاجتماع في مختلف ميادينه يتَّجه إلى حشد علوم الإنسان وتعبئة كل مناهجها. ولهذه الكثرة من وجهات النظر ما يبررها في نهاية الأمر، لأن الظاهرة الإنسانية لا يمكن استيعابها تمامًا، كما أنها متعددة الأوجه في الوقت نفسه، ثم إن الظاهرة الاجتماعية، كما قال كونت، هي أكثر الموضوعات وضوحًا للأذهان، وأكثرها تعقيدًا في الوقت ذاته. وأخيرًا، لأن الإنسان طبيعة وحرية في آنٍ واحد كما تُنبئنا الفلسفة.
في الطبعة المدرسية لكتاب: Brunchvieg Hachette p. 40.