تقديم
هذا الكتاب جديد قديم؛ هو قديم لأن بعض فصوله نشر من قبل كما هو بعنوانه، وبعضها نشر لم يُغير منه إلا عنوانه، وهو جديد من ناحيتين؛ الأولى: وحدة الفكرة التي تنتظم فصوله جميعًا، والثانية: أن بعض الفصول جديد لم يسبق نشره، وبعضها مما سبق نشره زيد عليه أو حذف منه ما يجعله يتفق ووحدة الفكرة، وبعضها ألف أكثر من جزء من عدة فصول نشرت، وهذه الأجزاء جميعًا تتسق من حيث الفكرة، وتؤدي إلى الغاية التي وُضع الكتاب من أجلها؛ فالكتاب إذن جديد قديم، وأحسب طابع الجدَّة فيه أغلب؛ لأن الفكرة التي دعت إلى نشره لم تكن بارزة في أيٍّ من الفصول التي سبقتُ إلى نشرها بروزها فيه.
وقد اخترت له: «ثورة الأدب» عنوانًا بعد أن جال بخاطري قبيل طبعه أن أجعل عنوانه: «نحو الأدب القومي»؛ لأن فصوله الأولى جميعًا لا تتحدث عن الأدب القومي، وإنما تتحدث عن هذه الثورات المتصلة التي شهدها نصف القرن الأخير في شؤون الكتابة والأدب، وتصف المجهود المتصل الذي قام به أصحاب المذاهب المختلفة في إقامة الأدب العربي الجديد، والواقع أن هذا الأدب العربي يضطرب بعوامل الثورة منذ الثورة العرابية في مصر، ومنذ بدأ هذا الشعور القومي يحرك النفوس ويدعوها إلى التوجه نحو النهوض بمجموع الأمة إلى مثل أعلى، من يومئذٍ بدأت الكتابة تخرج من الحظيرة الضيقة: حظيرة الدواوين، ومن النطاق المحصور: نطاق التعليم؛ لتتصل بالناس على اختلاف طبقاتهم، ولتصور لهم من نواحي الحياة ما يريد الكاتب تصويره، وقد كان هذا العمل وما يزال شاقًا. فأية لغة يمكن أن تحقق هذه الغاية، ويمكن أن تبقى مع ذلك على الزمان؟ ليست هي اللغة الدارجة التي يتكلم الناس بها؛ لأن لكل إقليم لغة كلام تختلف عن لغة الإقليم الذي يجاوره، وتكاد تنقطع الصلة بينها وبين لغة الإقليم الذي يبعد بعض الشيء عنه، واختلاف لغات الأقاليم التي تتكلم العربية يجعل من المحال وضع قواعد تنتظم هذه اللغات المختلفة، ولغات الأقاليم لم يدوَّن لها أدب له من الاحترام ما يجعل بعثه موضع فخار ومجد. فلا بدَّ إذن من أن تكون اللغة العربية الصحيحة لغة الكتابة ولغة الاتصال بالجمهور. لكن هذا الجمهور لا يفهم عنك إذا خاطبته باللغة التي كان يتخاطب بها العرب الأولون، ولكن اللغة العربية هي كذلك لغة القرآن الكريم، فكيف ترتفع بالجمهور إلى حسن وإدراك لغة القرآن؟ وكيف تقرّب اللغة العربية إلى إدراك الجمهور؟ … من الإجابات المختلفة عن هذين السؤالين نشأت ثورة الأدب خلال السنوات الخمسين التي انقضت حتى يومنا الحاضر، وفي خلال هذه السنوات الخمسين أخرجت الثورة صورًا من الأدب مختلفة في النثر والشعر، ويدرسها بعض المستشرقين اليوم، وهي جديرة بالعناية والدرس من كل مشتغل بالأدب، معنيّ بتاريخ الكتابة العربية في العصر الأخير.
وكما أن الثورة العرابية لم تنته إلى اليوم؛ لأنها لم تحقق غاياتها، كذلك لم تنته ثورة الأدب بعدُ إلى غاية، وكما أدت الثورة العرابية إلى الاحتلال البريطاني لهذه البلاد احتلالًا اتجه بالثورة السياسية إلى ناحية جديدة، كذلك اتجه هذا الاحتلال بثورة الأدب إلى ناحية جديدة انتهت عندها الصورة الأولى من الثورة، صورة لغة الكلام ولغة الكتابة، ولم يبق بعدها محل لبحث أو جدل، لم يبق البتة قائل باتخاذ لهجات الكلام أساسًا للأدب، وحل محل ذلك ما سمي القديم والجديد في الأدب واللغة، وقد احتدمت معركة القديم والحديث هذه منذ سنين طويلة، وتنقل المحاربون فيها في ميادين مختلفة.
كانت هذه الميادين قبل الحرب تتناول أساليب الكتابة، وتتناول الألفاظ العلمية وغير العلمية، كما كانت تمسُّ في رفق صور الأدب، وما يصحُّ أن تكون عليه، وإلى يومئذٍ كانت الغلبة لأنصار تقليد الأدب القديم، وكان السجع والإغراب في اختيار الألفاظ بعض ما يمتاز به كتاب العصر، وكان الأدب الغربي يومئذ جديرًا بأن يسمى الأدب الكبير في النثر والشعر. فقد كان الأدب القصصي قد بلغ مجده، وكان كبار الشعراء قد أقاموا في ذلك العصر ما يقف إلى جانب الإلياذة والإنيادة في الأدب اليوناني، وإلى جانب شعر فرجيل من أدب الرومان، وكان كثيرون من شبابنا الذين ذهبوا يتمون دراستهم في أوربا يومئذ — سواء منهم من أوفدتهم الجامعة، ومن أوفدتهم الحكومة من بعدها، ومن ذهبوا يتمون دراستهم العالية — قد فتنوا أكبر فتنة بهذا الأدب الغربي الكبير. فلما آن لهم أن يعودوا، وكانت الحرب الكبرى قد أعلنت أو قد انتهت، كان هذا الأدب الغربي الكبير في أوربا قد آن له أن يستريح بسبب انصراف النفوس في الغرب عنه، ويرجع هذا الانصراف إلى أن النفوس شعرت بعد الحرب بفراغ هائل فيها، كما شعرت في الوقت نفسه باستهتار بالحياة أدى بها إلى التهالك عليها، وماذا تريد من الإنسانية خارجة من أفظع مجزرة شهدها التاريخ بعد أن ظلَّت خلالها أربع سنوات تباعًا ترى الألوف ومئات الألوف والملايين يحصدهم الموت حصدًا وهم في ريعان الفتوة وزهرة الشباب! أية قيمة للحكمة في نظرها، ولهذا القصد في الحياة ننهل منها على مهل إذا كنا نجهل كل الجهل ما سنصير إليه في غدنا؟! وهل سنظل في فتوتنا وقوتنا نستمتع بالعيش ونعيمه؟ أم سنصبح لا شيء كما أصبح ملايين غيرنا؟ إذن فعلى الحكمة وعلى العقل العفاء، ولنترام بكلنا في أحضان المسرات ننال منها في أقصر وقت أكبر حظٍّ ما دمنا غير موقنين بأنا سنأخذ حظنا منها كاملًا إذا نحن تناولناه على مهلٍ، وبمقدار ما تطيقه قوانا الإنسانية.
وكان من أثر هذه الحالة النفسية في الأدب أن اضطر كثير من الكتاب إلى إرضائها وإمتاعها بما تريد الاستمتاع به من شهوات صغيرة، ولكنها مختلفة متفرقة؛ لأنها تقصد إلى إرضاء شهوات النفس جميعها، وهذا النوع الصغير من الأدب هو الذي تهافتت الجماهير عليه، لا قدرًا منها إياه ولا إعجابًا منها به؛ بل لأنه يسد مطامعها ونهمها للمتاع، كما تهافتت على غيره من بضاعة ربما كان فيها إضرار بها، ولكنها تهافتت عليها؛ لأنها تسد حاجتها إلى نسيان آلامها وهمومها لتتمتع بسعادة مؤقتة زائفة، ولكنها على كل حال سعادة ربما لم يتح لها أن تنال غيرها قبل هذا الغد الذي يخبئ لها ما لا تدري — المرض أو العاهة أو الموت أو البؤس الدائم.
عاد الشبان الذين أتموا دراساتهم في أوربا قبيل الحرب أو خلالها أو في أعقابها ممتلئة صدورهم إعجابًا بالأدب الكبير الذي قرأوا والذي شهدوا على المسارح، موجهة عقولهم توجيهًا جديدًا على الطرائق العلمية الحديثة، وعادوا فدخلوا الميدان بقوة ونشاط لم تر مصر مثلهما في زمن غير قليل إلا من أفراد قلائل موهوبين كان لهم أثرهم في توجيه التفكير المصري، وفي مقدمتهم المرحومان: الشيخ محمد عبده وقاسم أمين، كما كان من بعض أساتذتنا من لا يزال أثرهم في هذه الناحية متصلًا.
وسبب قوة هؤلاء الذين عادوا إلى الميدان ونشاطهم: أن البعوث إلى أوربا لإتمام الدراسات العليا كانت قد انقطعت زمنًا غير قصير، ولم تعد سيرتها الأولى إلا في سنة ١٩٠٧ بفضل الجامعة المصرية، وقد تأثرتها في ذلك وزارة المعارف في السنة التالية. أما ما قبل ذلك فقلَّ من كان يسافر إلى أوربا للقيام بدراسات عليا متصلة، والشبان الذين كانوا يقصدون مختلف الجامعات في فرنسا وإنجلترا كان أكثرهم ممن لم يلق نجاحًا في مصر فلم يستطع متابعة دراساته في مدارسها. فلما عادت البعوث سيرتها وأوفدت الجامعة من أوفدت، واقتدت بها وزارة المعارف، انتقلت العدوى إلى بعض الأفراد القادرين فذهبوا يتمون تعليمهم، وعادوا بعد إتمامهم إياه فنقلوا ميدان القديم والجديد في الأدب، ووجهوه وجهة أخرى غير لغة الكلام ولغة الكتابة مما كان البحث فيه قد فُرغ منه، وغير أساليب الكتابة بعد أن أسبغ عليها امتياز شخصيات بعض الكتَّاب طابعًا جديدًا نقلها من مجرد المحاكاة إلى بروز الذاتية. هذا الميدان الجديد الذي انتقلت المعركة إليه هو صور الأدب وما يجب أن تكون. لقد انقضى عصر المقامات والترسل في نظر هؤلاء المجددين فلا بد من صور جديدة هي صور الأدب القومي الكبير؛ هي القصة والأقصوصة، وهي الشعر الوجداني والشعر التمثيلي، وقد أعان ثورة الأدب هذه أنها اقترنت بالثورة السياسية التي شبت في أثر الحرب الكبرى؛ إذ بدأت في ٩ مارس سنة ١٩١٩. ألم يكن المصريون يطلبون في ثورتهم هذه الاعتراف باستقلالهم وسيادتهم، ويطلبون حياة سياسية وصورًا من الحرية السياسية على مثال ما في الغرب سواء؟! فلتكن مظاهر الفن والأدب مصبوبة عندهم في قوالب غريبة؛ لتكون آية للناس جميعًا على تقدمهم، وعلى أنهم يسابقون الغرب إلى مختلف ميادين الحضارة وقد يسبقونه.
ولم تكن ثورة الأدب هذه ليغيب عن الأذهان جلال خطرها، ولم تكن أقل لفتًا لنظر الغرب من الحركات السياسية التي دمغها الطابع القومي، والتي امتدت إلى بلاد الشرق جميعًا، ومهما يكن من غمر الحوادث لزعماء ثورة الأدب في ميادن السياسة فإن جهودهم ظلت تراقب وتحلل كأدق ما كانت جهود الزعماء السياسيين تراقب وتحلل؛ ذلك بأن الأدب واتجاهه في أيَّةِ أمة من الأمم هو العنوان الصحيح لحضارتها، وهو القوة التي لا تستطيع قوة أخرى كبحها والقضاء عليها بالسهولة التي تقضي بها القوات المسلحة على الثورات السياسية، وإنما يقضى على ثورة الأدب باندساس عوامل تفسد توجيهها، ويُخيَّل إليَّ أن مجهودًا كبيرًا قد أنفق في هذا السبيل، كما أنفق من قبل ذلك مجهودٌ كبيرٌ للقضاء على حركة الإصلاح الديني التي بدأها المرحوم الشيخ محمد عبده، والتي كانت جديرة بأن تؤتي أعظم الثمرات. مهما يكن من أمر هذه الجهود فإن ثورة التجديد في الأدب قد ظفرت بالقديم، وقد جرَّت إلى ناحيتها حراس حصونه حتى كادوا يسلمون إلى المجددين مفاتحها، ولكن ما أُنفق من الجهود التي هيأت الفوز فتح عيون أصحاب الجديد واسعة، وجعلهم يتساءلون: إلى أين نذهب؟ وإلى ماذا من جديدنا نقصد؟
وقد كان طبيعيًّا أن يقفوا هذه الوقفة، وأن يطرحوا هذا السؤال؛ فالحضارة الإنسانية ثورة متصلة مظهرها الأدب والفن، ونحن في مصر وفي الشرق كانت لنا حضارات مختلفة انطوت، ثم أخضعتنا الظروف لحكم الحضارة الغربية وقد قامت هذه الحضارة أول قيامها على بعث فلسفة اليونان وتشريع الرومان، واتجاه الأدب الوجهة التي ترسمها هذه الفلسفة وهذا التشريع، وما أحاط بهما في عصورهما من صور الفن والأدب. ثم جعلت أوربا تستقر بحضارتها رويدًا رويدًا؛ لتقيمها على الأساس العلمي الذي وضعه ديكارت في القرن السابع عشر، ثم جعل هذا الأساس يتطور من بعد ذلك إلى دين الطبيعة وإلى فلسفة التجريد في القرن الثامن عشر، ثم إلى العلم الوضعي والفلسفة الواقعية، وإلى دين الإنسانية في القرن التاسع عشر، وذلك كله من غير أن تنقطع الصلة بين هذه الحضارة وبين اليونان والرومان، ومن غير أن تنقطع الصلة بينهما وبين المسيحية من ناحية أخرى. صحيح أن هذه الصلة كانت صلة محاربة وهدم في أحيان كثيرة؛ ولكن الحضارة الغربية لم تقطع، ولا تستطيع أن تقطع صلتها بهذين العاملين اللذين أنشآها، والأدب الغربي المعبر عن هذه الحضارة لا يمكن أن ينسى هذه الصلة، وتستطيع أن تقرأ في الأدب الإنجليزي أو الفرنسي أو الألماني أو أي ما شئت من آداب الأمم الأوربية، وأنت دائمًا واجد مظهر هذا الاتصال قويًّا واضحًا، فماذا عسانا نحن نصنع؟ وإلى أية فلسفة في الماضي القريب والماضي البعيد يجب أن ننتسب إذا أردنا به أن يكون مظهرًا لحضارة ما؟ وقف المجددون هذه الوقفة، وواجهتهم هذه المسألة، فلم يتردد أكثرهم في الإجابة بأن ماضيهم هو الأب الطبيعي لحضارتهم ولأدبهم. أما القلائل الذين قالوا بالأخذ بالحضارة الغربية في كل مظاهرها وصورها على نحو ما فعل الأتراك فلم يجدوا لأقوالهم إلا صدًى ضعيفًا زاده ضعفًا ما قدمنا من فتور النفس الغربية بعد الحرب عن الأدب الكبير. من هنا بدأت الصلة بين أنصار القديم وأنصار الجديد، فبدأ هؤلاء يقبلون على تراث السلف يُنقبون فيه بالوسائل العلمية الحديثة، وبدأ أولئك يقرون هذا ويعتبرون في ثمرات الجهود التي يبذلها أنصار الحديث في بعث الأدب الجاهلي وأدب عصور الإسلام المختلفة بعثًا علميًّا دقيق التحقيق خطوة موفقة في سبيل إعادة الحياة إلى حضارتنا الدفينة.
ولكن! … ما هي هذه الحضارة؟ أعربية هي أم إسلامية؟ سؤال وجه، وكان المستشرقون أشد ما يكونون جذلًا بتوجيهه، حتى لقد رأينا أخيرًا طلابًا وطالبات غربيين يفدون إلى مصر وإلى مختلف جهات الشرق العربي يحاولون — فيما يقولون — تحقيق هذه المسألة، يتصلون بكل من يتوسمون فيهم أنهم رجال الأدب الحديث، ويلتمسون إليهم أن يدلوهم على عقيدتهم العلمية في الأمر، وأشعر بأنني في حل من القول بأن هذه الطليعة الغربية متجهة إلى مثل هذا البحث ربما شابتها غايات سياسة تسوّغ الاعتقاد بأن المسألة لم تثر للبحث العلمي وحده، وسواء أصح اعتقادي هذا أم لم يصح، وسواء أكان المقصود إثارة الخلاف بين المسلمين وغير المسلمين من الذين يتكلمون العربية، أم كان المقصود به ألا تقرن إلى الإسلام حضارة ما، أم لم يكن المقصود هذا ولا ذاك، وإنما المقصود البحث التاريخي النزيه — سواء أكان هذا أم ذاك فإنا نعتقد أن أية حضارة يجب لتقوم أن تتصل حتمًا بعنصر من الإيمان.
وقد خُيل إلى العلماء زمنًا أن العلم سيغذي النفوس بهذا الإيمان؛ ليقيم دين الطبيعة على نحو ما حاول روسو أن يقيمه، أو دين الإنسانية على ما وضعه أوجست كومت. لكن ما تم من محاولات في هذه السبيل لم ينجح في أن يقدم للجمهور الغربي ما يرضي تطلعه إلى رجاء أو أمل في الطمأنينة والسعادة، ومن ثم انقلب هذا المجهود إلى الناحية المادية والاقتصادية، وجعل منها كل رجائه في الحياة؛ فكان من ثمرة ذلك ما تعاني الإنسانية اليوم من شقوة وبؤس زادا في إغراء الجمهور بالتشبث بهذا الأمل وهذا الرجاء. فالنفس بحاجة إلى رخاء في غذائها الفكري والعاطفي كحاجة الجسم إلى شيء من النعيم في حياته المادية؛ ولذلك اندفع فلاسفة الغرب وكتابه وأدباؤه يلتمسون هذا الغذاء النفسي في أديان الشرق وصور الإيمان فيه، والأدب — بوصفه مظهرًا للحضارة — لا غنى له عن تجلية جانب الإيمان في النفس كما يجلو جانب العواطف المختلفة، ولا غنى له عن أن يحلل هذا الجانب ويصف أثره في الحياة، وجانب الإيمان في بلاد الشرق العربي قوي أيًّا كان الدين الذي يدين هؤلاء الشرقيون به، وقد كان الإسلام ومازال دين أهل هذا الشرق العربي إلا الأقلين منهم. فلا يمكن أن يؤدي الأدب رسالته إذا أهمل هذا الجانب القوي من جوانب حياة الشرق العربي، وإذا لم يحاول أن يصل ماضي هذا الشرق بمستقبله الصلة التي تستقيم مع التفكير الحديث، وقد تناولت هذا المعنى في خاتمة هذا الكتاب عن الأدب والحضارة.
لم أغل إذن حين استقر رأيي على أن أتخذ «ثورة الأدب» عنوانًا لهذا الكتاب. فالأدب في ثورة متصلة بالفعل منذ نصف القرن الأخير، ثورة توازي الثورة السياسية المتصلة في مسيرها أيضًا، وتعاني من صور الركود واليقظة والتقدم والتراجع ما تعاني زميلتها. لكن لا بد لي من التنويه بأن هذا الكتاب لا يصور جوانب تلك الثورة تصويرًا كاملًا، وأحسب تصويرها في دقة، ما دام اتصالها غير ممكن، هو بعدُ ليس من عمل رجل مثلي لم ينقطع له، وإنما ألم بما ألم به منه في أوقات فراغه، وقد تكون الفصول التي اشتمل عليها هذا الكتاب بعض هذه الثورة في مختلف تطوراتها، ومن العسير على مشترك في عمل من الأعمال أن يقوم بتقدير آثار هذا العمل تقديرًا دقيقًا على نحو ما يفعل المشاهد المراقب.
وما دمت قد أشرت إلى ما بين ثورة الأدب وثورة سنة ١٨٨١ وثورة سنة ١٩١٩ من موازاة فلا مندوحة لي عن القول بأن عوامل السياسة التي حاولت صرف التيار السياسي في نواحٍ معينة قد حاولت مثل هذه المحاولة في شأن الأدب والكتابة، ولقد أشرنا في هذا التقديم إلى ما بُذل لهذه الغاية من جهود عاقت سير الحركة الأدبية، وحاولت من غير نجاح كبير إفساد اتجاهها، وليس موضع تفصيل هذه الجهود ها هنا، ويكفي أن أذكر ما كان من سعي متصل لجعل اللغة الدارجة لغة الكتابة، وما كان من محاولة قطع كل نسب بين الحاضر والماضي، ومن إظهار هذا الماضي في صورة زرية غير جديرة بالاعتداد بها أو باستلهامها، وقد وصفت في الفصل الذي يلي هذا التقديم صورة ما يصيب الأدب في عصور الطغيان، ولعل هذه الجهود كان يصحبها من التوفيق أكثر مما صحبها لو أن الإيمان بالحضارة الغربية بقي قويًّا كما كان، ولو أن الأدب الكبير عاون على بقاء هذه القوة. لكن ما أصاب الأدب الغربي في أعقاب الحرب مما وصفنا مضافة إليه نهضة مصر والشرق نهضة قوية، جعل الجهود التي أنفقت لا تؤتي ما أريد منها من ثمرات، وإن جعلها تحول بين ثورة الأدب والاستقرار إلى ناحية تطمئن إليها.
وأكبر اعتقادي أن هذه الثورة ستظل متصلة زمنًا طويلًا. فنحن ما نزال من بعد في بدايتها، وحسن توجيهها في حاجة إلى جهود شاقة جبارة، وإلى جود الطبيعة بالموهوبين الذين يستطيعون أن يطبعوا الأدب بصورة تدعو إلى استقراره، وهؤلاء الموهوبون وأولئك الذين يقومون بالجهود الشاقة لما يوجد منهم في الشرق العربي كله إلا عدد قليل، وبناء صرح الأدب على الصورة التي تدور في نفوسنا — ونرجو أن تراها أعيننا — في حاجة إلى كثيرين من هؤلاء المجاهدين والموهوبين، والقوى التي تعمل لتحول دون نجاح هؤلاء وأولئك ضخمة جبارة. فرجاء استقرار ثورة الأدب في زمن قريب فيه من التفاؤل ما نرجو، وإن كنا نرتاب أشد الريبة فيه.
والآن أختم هذا التقديم وأخلي بين القارئ وفصول الكتاب، ولعله يجد من نفسه الصبر على تلاوتها من غير أن تمله أو تدعوه إلى التثاؤب، ولعله أن يرى — إذا استطاع أن يتم قراءتها — أني لم أقم بمجهود عقيم حين فكرت في جمعها وتنسيقها، ثم نفذت الفكرة، وأظهرت الملأ على «ثورة الأدب».