محاولات في الأدب القومي
منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن نشأ حوار بين كتابنا، وفي مقدمتهم كبارهم، عن هذا العصر الذي نتخطاه منذ الثورة العرابية إلى وقتنا الحاضر: أهو عصر ترجمة، أم عصر تأليف؟ وهو حوار من نوع الحوار الذي نشأ بين القديم والجديد في الأدب، يرجع إلى مثل أصله، ويقوم على مثل أساسه، وأصل هذا الحوار وأساسه في الحالين نضال ما بين الحضارتين: حضارة الغرب الحاكمة اليوم، والحضارة الإسلامية التي حكمت العالم زمنًا، ثم جاء دورها في الاستجمام انتظارًا للبعث. فأنصار الجديد لا يرون مفرًّا من أن تغزو حضارة الغرب أمم الشرق، فهم يريدون أن يهيئوها لهذا الغزو حتى تستقبله مستعدة لتمثيل آثاره متهيئة للوقوف أمامه في شيء من الكرامة والعزة، وأنصار القديم يقدرون ما آل إليه حال الحضارة الإسلامية، وهم يخشون عليها كل جديد أن يفسدها، وأن يقضي عليها؛ لذلك يريد أنصار القديم هؤلاء أن يظل العلم وأن يظل الأدب والتفكير كما كانت جميعًا في العصور الماضية، وهم يريدون ليكفلوا هذه الغاية أن يكون العلم والأدب وأن تكون الحياة العقلية والفكرية ملكًا لهم، يقولون فيما شاءوا منها هذا حلال وهذا حرام، وأن تكون لهم سلطة كسلطة الكهنة أيام قدماء المصريين تمكنهم من الحكم على من خالفهم بالقتل أو بالموت الأدبي، وهم بهذه الغاية يريدون أن يسبغوا على أنفسهم قداسة روحية وعقلية تلزم كل من سواهم أن يتبعهم، وهم ليسوغوا موقفهم هذا يدّرعون بالسلف الصالح، ويدعون أنهم وارثو تراثه، وأنهم باسم هذا السلف يحاربون من شاءوا حربه بأنه خارج عليه وعلى تعاليمه، ولا ريب أن في تعاليم السلف الصالح كثيرًا من الحق، ولو أن خلفاءه هؤلاء قالوه بخير مما يقولونه اليوم لازداد جانب الحق فيه وضوحًا وجلالًا. لكن أنصار القديم يريدون أن يقولوا هذه الحقائق بلغة وأسلوب فيهما من السقم شيء كثير، وأن يضيفوا عليها ترهات وأوهامًا، وأن يفرغوها مع ذلك في قالب رسمي؛ لتصبح في حماية الدولة، وليسبغ عليها القانون من القداسة ما يعاقب معه مخالفها.
أما أنصار الحديث فيريدون أن يكون التفكير حرًّا والعلم حرًّا والرأي حرًّا والتعبير عنه حرًّا، وأن تمتد الحرية في هذه الناحية إلى أقصى الحدود، وهم قد جعلوا سبيلهم — أول أمرهم لتثبيت هذه الحرية — أن ينقلوا عن الغرب، وأن يترجموا علمه وأدبه وآراءه، وما دام كتاب الغرب وأدباؤه ورجاله هم أبطال هذه الحرية وحملة لوائها، فيجب أن ينشر هذا اللواء في الشرق كما هو منشور في الغرب، ويجب أن نستعير من أساليب الغرب في الكتابة وفي التفكير، ويجب أن نؤمن بالحقائق العلمية التي يذيعها كتاب الغرب وفلاسفته، ويجب أن نواجه بهذه الأسلحة القوية الحادة جمود القديم حتى تحطمه ثورة الحديث عليه، فنكون من بعد ذلك أحرارًا ننعم من حريتنا في بحبوحة السعادة العقلية والفنية، ولا يقف هؤلاء الكهنة بمزاميرهم المملولة يفسدون علينا حياتنا، ويجب من أجل ذلك أن ننسى القديم كله، وأن نقيم مكانه من علم الغرب حضارته وتفكيره جديدًا.
شيء من التمحيص يكشف عن أن جمود القديم كل هذا الجمود، وثورة الحديث كل هذه الثورة، إنما دفعت إليهما حرارة النضال، وأنهما ما كانا يندفعان إلى الحدود التي اندفعا إليها لولا هذا النضال، وقد بينا في الفصل السابق أن الخصومة بين القديم والحديث كالخصومة بين الوارث والمورث غير ممكنة؛ لأن الحديث ينطوي على شيء من القديم بل على أكثره، والقديم لا يمكن أن يتصل بقاؤه إذا هو لم يتصل بالحديث ولم ينتشر في أرجائه. أليس فخار الأمم بماضيها لا يقل عن فخارها بحاضرها؟ ألسنا في مصر نفاخر بالفراعنة وبالعصر الإسلامي أكثر مما نفاخر بالعصر الحديث؟ فمحال إذن أن نتصور حديثًا لا يتصل بالقديم الذي أثمره، أو نتصور قديمًا لا يتطور مع الحديث وينضم إليه. فإذا اتصل القديم والحديث وتضامنا نشأت عن ذلك حيوية قوية وروح معنوية نشيطة هي التي تقوم أساسًا لكل حضارة من الحضارات، وبدونها تتداعى الحضارة وتنهار، ويضطر أهلها إلى استعارة حضارة غيرهم والعيش في كنفها.
بهذا الروح حاولت منذ سنين عدة أن أكشف عن بعض جوانب مصر القديمة، وأن أسلكها سبيل الأدب القومي، وأن أحقق بذلك بعض ما اقترحت عليَّ مس شلزك كاسلز مما أشرت إليه في فصل الأدب القومي، وقد بدا لي في وقت ما أن أجعل من بعض عصور مصر الإسلامية موضع هذه الدراسة، وكانت الحروب الصليبية أشد ما استهواني من هذه العصور. لكني وقفت يومئذ مترددًا: أفأقدم فأبحث فأوالي البحث فأقدم اللجمهور ثمرة بحثي في صورة من صور الأدب القومي، فإذا حركة مهاجمة عنيفة تفاجئني من غير أن تزن بالقسط ما إليه قصدت، متأثرة في ذلك بخصومة سياسية أو غير سياسية مما أشرت إليه حين الكلام عن فتور القصص! من الخير إذن أن أبحث عن ميدان لا يعني بمهاجمة الباحث فيه أحد، وهو بعد ميدان طريف يلذ بحثه ويلذ اتخاذه مادة لأدب قومي شهي الثمرة خصب غاية الخصب، وليكن هذا الميدان ميدان الفراعنة وآلهتهم، ولنطلق لحرية الأدب غاية مداها في تصوير حديث هؤلاء الآلهة، مستمدين أخبارهم من مختلف مصادرها، موازنين بينهم وبين آلهة الإغريق الذين ألهموا من فوق الأولمب حضارة أوربا الحاضرة.
وقد بدأت مباحثي عن أبيس العجل الإله ونشرتها، فلم أجد من أحد نفورًا منها أو ازورارًا عنها، مما أثبت لي أن في النفوس إلى هذا الأدب القومي ظمأ، وأنها صادية لورده إذا هي وجدت من يقدمه إليها، وكنت قد جعلت بحثي عن أبيس في صورة قصة الإخوان ذهبوا إلى المتحف المصري فوقفوا أمام تمثال أبيس، وجعل أحدهم يقص عليهم من تاريخ عبادته ومن الأساطير الميثولوجية التي أحاطت به شيئًا غير قليل، ولأميز هذا المحدث عن بقية أصحابه دعوته نجيّ أبيس، وكان من بين هؤلاء الأصحاب شاب وخط الشيب رأسه قبل أن تؤذن السنون بهذا البياض في الشعر، فدعوته الأشيب وجعلت منه رجل صلاح وتقوى، وكان من بينهم شاب غير مؤمن بادئ الرأي بعبادة أبيس وأساطير الميثولوجيا المصرية القديمة؛ فاكتفيت تمييزًا له عن إخوانه بأن أطلقت عليه اسم الشاب، وقد ظل الإخوان في مناجاتهم لأبيس وفي مناقشة النجيّ أقواله زمنًا، ثم خرجوا فانطلقوا مارين بثكنات قصر النيل إلى فندق سميراميس؛ ليتناولوا الشاي فيه إجابة لدعوة أحدهم الذي تسمى من بعد باسم الذي دعانا إلى الشاي. فلما آنست ظمأ النفوس إلى هذا الأدب القومي فكرت في متابعة بحثي، وما دام القوم قد دعوا إلى الشاي في سميراميس فليكن حديثنا بعد أبيس عن هذه الملكة الإلهة التي جلست على عرش بابل والتي غزت مصر وحكمتها زمنًا، وتحدث القوم وهم في بهو الفندق وقد جلس إلى جانبهم جماعة من السيدات والسادة المتقبعين، من بينهم فاتنة ذات دل ساحر عبث بالأشيب أشد العبث، وبدلّه من ورعه وتقواه جنون الهوى وفتك اللوعة، وجعله يُسائل في حديث القوم عن سميراميس مقدسًا للجمال حيث يكون، سعيدًا بحكم النساء الرجال، ساميًا بشأنهن إلى ما استهوى إليه رقة الفاتنة وما جعلها ترنو إليه بنظرات معسولة زادته هوى ووجدًا، وفي خلال ذلك كانت قصة سميراميس تُقِص بدقة تاريخية تزيد الفاتنة إعجابًا ودلالًا، ونشرت هذه القصة أيضًا وكنت لما أطبع كتابي «في أوقات الفراغ»، وقد وجدت من الجهد في كتابة هذين الفصلين بعد التدقيق في بحثهما ما جعلني أشك كل الشك في وقتي أهو يسمح بمداومة البحث والكتابة وتدوين «حديث الآلهة» على ما كنت قد اعتزمت أن أسمي الكتاب الذي يجمع بين دفتيه هذه الأساطير؟ لذلك نشرت حديث أبيس وحديث سميراميس في كتابي: «في أوقات الفراغ». لكن هذا البحث استهواني من بعد، وعاد يجذبني إليه بقوة زادها إمعانًا تكرار زيارتي للأقصر وأسوان، ومشاهدتي مختلف آثار الفراعنة في وادي الملوك، وفي صحارى مركز الدر وجباله الممتدة ما بين أسوان وحلفا، وإجابة لدعوة أجدادنا وآلهتهم عدت أبحث ودونت حديث إيزيس وهاتور وأفروديت، وفي هذا الحديث يتصل البحث على لسان نجيِّ أبيس، والشاب، والذي دعانا إلى الشاي، والأشيب، وفاتنة سميراميس، ويتصل به حديث هوى وصبابة كنت أرجو أن يظل متصلًا تباركه آلهة مصر القديمة كلها مجتمعة. لكني عدت فوقفت من بحثي عند هذه الفصول الثلاثة التي تتصل أوثق اتصال بفصلي أبيس وسميراميس وتتابع حوادثهما، ولولا ما سبق لي من نشر هذين الفصلين لكان موضعهما ولا ريب هنا في هذه المحاولة التي قمت بها في سبيل الأدب القومي. أما وقد سبق نشرهما فإنني أكتفي بنشر فصول إيزيس وراعية هاتور وأفروديت هنا، راجيًا أن تعود إليَّ الآلهة الأقدمون تحدثني وأحدثها، وتوحي إلي ما بقي من قصة الأشيب وفاتنة سميراميس، ولست كفيلًا بأن تستجيب الآلهة إلى دعائي، وقد اتجه ذهني واتجه روحي وجهة جديدة في البحث، وفي بحث ليس دون بحث الآلهة الأقدمين مشقة، ولكنه أجلُّ منها مقامًا، وأروع فيما ينطوي عليه من حق ونور وجلال وجمال.
وأعتقد أن الذين يعنون بمطالعة الفصول الثلاثة التي تلي هذا الفصل سيقدرون ما كان للفراعنة الأقدمين من حكمة وفلسفة قويتين عميقتين محيطتين بالحياة محبتين إياها أشد حب وأخصبه، ولعل منهم من يتابع هذا البحث الذي بدأت في الصورة التي تلذه من صور الأدب القومي، ولعله يشعر حين يبحث وحين يدون آثار هذا البحث بما شعرت أنا به من أن تغير طرائق البحث تبعًا لما حدث في أوربا، واتباعًا لديكارت ومن جاء بعده من الكتّاب والفلاسفة، ليس معناه إهدار تراثنا بوصفنا مصريين وشرقيين ومسلمين، والانتقال إلى تقليد الغرب في أدبه القومي كتقليدنا إياه في لباسه وفي طعامه، كما أن ابتكار طرائق جديدة في الزراعة ليس معناه أن أترك الأرض المملوكة لي لأذهب أجيرًا عند الذي ابتكر هذه الطرق الحديثة، ولكن معناه أن أقف أنا على هذه الطرائق، وأعمل على مقتضاها في الأرض المملوكة لي. كذلك يجب أن نستعين بطرائق الغرب في بحث تاريخنا وإقامة أدبنا، وفي ابتكار علم يتصل بعلمنا وصناعة وتجارة تتصل بطبيعة بلادنا. عند ذلك تبقى لنا شخصيتنا، ولا نصبح عيالًا على غيرنا ننال من فتاته، وننال أضعاف ذلك من زرايته ومن احتقاره.
هذا وقد أثبتُّ بعد البحوث الفرعونية الثلاثة قصتين مصريتين من واقع حياتنا الحاضرة، نقلت حوادثهما مما شهدت دور القضاء وما قصه عليَّ بعض زملائي المحامين حين كنت أشتغل بالمحاماة، وهما صورة من أدبنا القومي عن حياتنا الحاضرة، وهما من نوع الأقصوصة التي ازدهرت في هذا الزمن الأخير، وقد نشرتا في مجلة الهلال في سنة ١٩٢٦، وإنما أذكر أن وقائعهما نقلت إليَّ مما شهدت دور القضاء؛ لأن هذه الدور تشهد من المآسي الوجدانية الشيء الكثير الذي يصلح مادة للقصص ويطبعه بطابع مصري صميم، ويجعل الأدب الذي يستلهم مادته أدبًا قوميًّا بكل معنى القومي، وليست دور القضاء هي وحدها مسارح الوجدانيات وغير الوجدانيات مما يلهم الكاتب القصصي ويلهم الأديب أيًّا كان نوع الأدب الذي يريد أن يضع، بل إن في الحياة المصرية فيضًا من مصادر إلهام الأدب في مختلف نواحيه أغرز وأخصب مما في غيرها، والمقاصير تنطوي من ذلك على ما لا يقلّ عما تنطوي عليه الحقول والمزارع، وما على الكاتب إلا أن يستمع ويبحث ويحلل؛ ليجد من غزارة هذا الفيض خير مادة لما يريد من صور الأدب القومي في الحياة الحديثة.
وهل نحن أولاء الآن نعرض على القارئ محاولاتنا في خمسة الفصول التالية، راجين أن يجد شبابنا فيها مثلًا لطليعة من طلائع الأدب القومي المصري.