إيزيس
«ولد أوزوريس من الإله جب (الأرض) ومن الإلاهة ناوت (السماء) حين أدرك هذين الإلهين الهرم فعجزا عن قمع وحشية الناس وشرِّهم، ولما كبر تزوج من أخته أيزيس، وجلس على عرش المصريين، وصار ملكًا على الآلهة والناس جميعًا، وقد استطاع بفضل الجمال والعلم والصلاح أن يتغلب على شر الناس، وأن يردهم إلى السلم، وأن يعلمهم صناعاته.
وكان «ست» إله الشر أخًا لأوزرويس، ولما رأى من آيات حكمته أدركته الغيرة، فدعاه إلى وليمة أعد فيها صندوقًا فاخر الصنع، ووعد أضيافه بأنه مهديه لأي منهم طابق الصندوق حجمه. فدخل إليه الضيوف واحدًا بعد الآخر، حتى إذا كان دور أوزوريس واستوى فيه — وكان قد صنع على حجمه — أسرع شركاء إله الشر وأقفلوا الصندوق وألقوا به في النيل، فدفعه التيار إلى البحر، وقذفت به الأمواج إلى شاطئ الشام، وبقي عنده تحوطه شجرة أنماها القدر لتحميه من الأعين، إلى أن جاءت به إيزيس إلى مصر بعد حزن وبحث. لكن «ست» عثر بأخيه ثانية في إحدى جولاته جوف الليل فمزَّق جسده أربعة عشر جزءًا ألقى بكل منها في مكان. فعادت إيزيس إلى بحثها، واستعادت أجزاء الجسم، واستعانت بأختها وبابنها الإله هورس وبطقوس الدين؛ فردوا إليه حياة شابة خالدة لا يحياها على الأرض بل في السماء، وكذلك بعث «الإله الملك» ووعد بالبعث كل من يفعل الخير في حياته.
«لقد حدثتكم بحديث إيزيس فرأيتم مبلغ وفائها لأخيها وزوجها أوزوريس. قتله أخوه إله الشر تيفون، فاستقلت البحر باحثة عن جثته. فلما عثرت بها وعاد تيفون إلى تفريق أجزائها عادت تبحث حتى جمعت الأجزاء الأربعة عشر، ثم حبست نفسها لتعيد إلى إله الخير حياة الخلد، وعملها هذا آية في الوفاء من امرأة، وهو خير مثل لما يجب أن تكون عليه الآلهة.
… وقمنا إلى نزهتنا فأقلنا زورق وسعنا جميعًا، ودار حديثنا حول عبادة إيزيس في مصر وروما واليونان».
تخطينا أبواب سميراميس فإذا أضواؤها طرحت على الرصيف أمامها وعلى الطريق بعده ضياء مبهمًا اختلط بضوء القمر السابح في السماء ولما تكتمل دائرته، فهو ثلاثة أرباع، تعرج طرفه المشطور فجعل له ذقنًا وأنفًا وجبينًا وضاء، وكست الأشجار الرصيف المقابل للفندق ظلامًا. فلما بلغنا الشاطئ ألفينا صفحة النهر صقلها القمر بشعاعه الندي فجعل منها مرآة له وحده، ونزلنا على الدرج إلى مرسى الزوارق، وقد اصطفت بعضها إلى جانب بعض، ومنها الصغير يسير بالمجداف ولا قلع له، ومنها ما طويت قلوعه في انتظار من يستقلُّه، ومنها ما أحاطت بجوانبه ستور هيأت منه معبدًا للزهرة وآلهة الهوى جميعًا، ووقفنا وتقدم الذي دعانا إلى الشاي يتخير لنا زورقًا لا ستور على جوانبه؛ فليس حديث الرجال في حاجة إلى ستر وإن تناول الجمال وآلهته والهوى ورياته، وتنادى أصحاب الزوارق كل يكشف من فضائل زورقه عما يحسبه مرغبًا إيانا فيه، وجعل كل منا يدير نظره في هذه السوابح؛ ليتخير ألطفها وأظرفها. فأما الأشيب فوقف في شبه ذهول برهة لا ينظر إلى الزوارق ولا إلينا، وتخيرنا زورقنا، وجاء صاحبه يعاوننا على التخطي إليه. فلما كان دور الأشيب وأمسك رب الفلك بيده سمعت الأشيب يهمس في أذنه: إلى أين ذهبت السيدات الإفرنج والسادة الذين سبقونا إلى هنا منذ هنيهة؟
فابتسمت وعجبت لفعل جمال فاتنة الفندق بالأشيب، ونظرت إلى «الريس» فإذا به يجيب في جد من يدرك قداسة الهوى مشيرًا إلى ناحية جسر عباس: هم سألوا عن ذهبية أحد البكوات هناك، وأحسبهم يقصدونها.
أخذنا أماكننا، ونشر الريس قلع زورقه بعدما دفعه فوق لجة الماء والنور بمجدافه، وسرى إلى نفوسنا نسيم عذب بليل زاده القمر رقة وعذوبة، وجرى الزورق يدفع ذلك النسيم في قلعة وقد وجهه الريس إلى ناحية جسر عباس، كأنما هداه سؤال الأشيب طريقه، وسرَّحت بصري نحو الجزيرة، فاستوقفته إحدى الذهبيات وكأنها بجمالها قدس هوى أنبته الماء، وانثبت فيه أنوار الكهربا المطلة من نوافذها الرشيقة الضيقة، وأدرت نظري إلى سميراميس، فإذا هي بأضوائها الكثيرة منارة هدى لفلك النهر جميعًا، وأشركت أصحابي فيما جال بخاطري، فكان الأشيب أسرعهم إلى إجابتي: هي منارة هدى للقلوب والأبصار.
وابتسمنا … أما هو فلم يبتسم؛ لأنه كان في شغل بالذهبية التي ذهبت إليها الفاتنة وأصحابها.
ثم قال الذي دعانا إلى الشاي يداعبه: لعلك لا تشير إلى فندق سميراميس، بل إلى سميراميس الإلهة التي جعلت الفندق منارة هدى ومعبد هوى: ولعل الذي هدانا إلى الفندق والإلهة فيه، يهدينا إلى الإلهة حيث تكون.
وابتسم الأشيب لهذه الدعابة، وابتهل إلى الله أن يجيب الدعاء. ثم توجه إلى نجيّ أبيس بقوله: وأنت يا صاح، خذ بنا في حديث إيزيس. فلعل الإلهة التي عثرت على أخيها وزوجها أوزوريس تهدي هذا الزورق فيعثر على صاحبتها الإلهة السيدة سميراميس.
قال نجي أبيس: لا يكن قولك عبثًا بمعبودتنا القديمة التي امتد سلطان ربوبيتها من مصر إلى أثينا وروما، ولتؤمن بأن لاسمها سرًّا تعنو له القوى حتى اليوم، وإذا كانت قد تغلبت إبان حياتها زوجة لأوزوريس على كل العقبات بالجمال والعلم والطيبة، فإنها ظلت بعد ما ارتفعت إلى أثير الخلد تؤتي عبادها المخلصين من روح قوتها ما يتغلبون به على كل عقبة، لكنها تطلب إليهم أن يكونوا مثلها ذوي صبر وإيمان. فلا تحسب يا صديقي أنها عادت بأوزوريس في صندوق الخيانة الذي حبسه فيه أخوه إله الشر من غير عناء. بل لقد ركبت في سبيل ذلك من الأهوال ما تضعف دونه همم الرجال، ولولا ربوبيتها وحرصها على أن يدفع الخير الشر؛ ويغلب الرجاء اليأس، لأسلمت للقدر وعنت لنكد الحظ، وقد كادت تضعف أول ما عرفت الخبر، وكاد الهم والحزن يقعدان بها دون النضال، وكفَّاها يومئذ أن قصت خصلة من شعرها وأن لبست الحداد. لكنها عافت أن تستسلم لتيفون، وأن تدع الخير دفينًا في محبسه غير مخلد في السماوات، وسارت فألفت على شاطئ النيل عند مدينة قفط أطفالًا سألتهم عن الصندوق وهل رأوه؟ والأطفال كما تعلمون، أحباب الله، وهم لذلك ملهمون من أمر الغيب ما لا يلهم الرجال. فلما عرفت منهم سير الصندوق تبعته حتى مصب النهر وإلى جبيل في الشام، وكان أهل جبيل قد بهروا بنمو الشجرة التي أحاطت به وحفظته في جذعها. فلما بلغ ملكهم (مالكاندر) أمرها أمر بها فقطعت وجعل منها عمادًا لبهو قصره، وأحاطت الرياح المقدسة إيزيس بذلك كله خبرًا، فجلست عند مورد ماء مكتئبة لا تكلم إنسيًّا. فلما مر بها خادمات الملكة عشتروت، حيتهن وتحدثت إليهن ومشطت شعورهن وعطرت أجسامهن بالعطر الذي يفوح من شذا شخصها المقدس، وعدن إلى سيدتهن، فتاقت إلى معرفة الغريبة التي ضوّعتهن بالشذا العذب، وبعثت في طلبها، فبهرها جمالها وحكمتها، واتخذت منها صديقة لها، وعهدت إليها في تربية ولدها وشفائه، وكذلك أتيح للإلهة الحزينة أن تقيم على قبر زوجها الدفين في عماد البهو تشدو حوله كلما سجا الليل بأغنيات الموت والأسى. فإذا فرغت من شدوها عادت إلى الطفل تحرق من جسمه كل أسباب المرض والفناء … وفطن بعض من في القصر لها وأبلغوا الملكة خبرها، فراقبتها ليلة، حتى إذا رأت النيران تخرج من فمها صوب الطفل صرخت جزعة مرتاعة. فسلبت الإلهة من الطفل ما كان قد أصاب من أسباب الخلد وإن أبقت له صحته، وخافتها الملكة وحسبتها ساحرة، فعرضت عليها أن تأخذ ما تشاء وأن تغادرهم. فاختارت إيزيس العماد، وشقته وأخرجت منه الصندوق وما كادت تراه حتى علا نحيبها، ثم حملته في قارب وبعدت عن جبيل وفتحته وقبلت أوزوريس وألصقت وجهها بوجهه وبكت أمرَّ بكاء، ولما بلغت مصر نحَّت الصندوق في مكان تبحث عن ابنها هورس، وعن أختها نفتيس؛ ليعيدوا للملك الإله حياته.
«فلعلك ترى يا صديقي أن إيزيس تجشمت في سبيل العثور على جثة زوجها أوزوريس من المشقة ما لا تتجشم النسوة في سبيل البحث عن أشلاء أزواجهن، بل عن أزواجهن الأحياء، وإنما هو الوفاء الذي جعلها تستمرئ المشقة، وحرصها على غلبة الخير للشر هو الذي هوَّن على ربوبيتها أن تخضع «لملاكندر» وامرأته.
ولما عثر «ست تيفون» أثناء صيده بالصندوق وبه جثة أخيه مزق الجثة أربعة عشر شلوًا، وألقى كلًا منها في مكان، وليس من اليسير تصور ما تجشمته إيزيس في سبيل العثور من جديد بالأشلاء جميعًا، واجتمعت لها أعضاء أوزوريس كلها خلا عضوًا فردًا كان الشر قد ألقى به في النهر طعامًا للأسماك، مما اضطر إيزيس إلى أن تصنع مكانه صورة له من الشمع؛ ليتم لها الرجاء في إعادة الحياة الكاملة لإله الخير الذي عبث به الشر وأعوانه شر عبث، وكأنما كان الخير في عصور الآلهة مثله في عصور الناس هيَّابًا للشر، متحاشيًا إياه، قاصرًا عن دفع هجماته، عاجزًا من مهاجمته. فإن إيزيس خشيت بعد الذي لاقت من نصب في بحثها أن يعثر تيفون بالخير مرة أخرى ويعبث به، فأقامت أربعة عشر قبرًا في أربع عشرة قرية من القرى التي عثرت بالأشلاء فيها، وزعمت أن كل واحد منها قبر أوزوريس؛ لتضل بذلك أخاه في مطاردته إياه، وما تزال هذه القرى تدعى إلى يومنا بهذا الاسم. فأبو صير ليست إلا «بوزيري» أو قبر أوزوريس، وإقامة هذه القبور جهد مضن أشد إضناء، وهو بعض الوفاء الذي تميزت إلهة مصر القديمة على غيرها من إلهات الجمال اللائي ازدرين الوقار وسخرن من العفة.
قال صديقنا الشاب: ظريفة أساطير القدماء! وأقر لكم الآن بخطئي حين سخرت من عبادة أبيس. فما دام للجمال آلهة وللوفاء آلهة وللخير وللشر وللنور والظلام آلهة، فمن حق ثمرات الأرض أن تكون لها آلهة، وللثور كما للنيل وللشمس حظ في إنبات هذه الثمرات. فمن حق الثور أن يكون إلهًا كالشمس والنيل، ومن حقه أن يكون أوزوريس أو غير أوزوريس من أكابر الآلهة رمزًا له، وقال الذي دعانا إلى الشاي باسمًا: ما أسعد جماعتنا بعودك إلى ذوق أساطير أسلافنا! وما أشدنا سعادة بإجلالك عبادة أبيس! فهو وحده الذي اختص مع النيل والشمس بعبادة مصر القديمة منذ أقدم عصور تاريخها. أما سائر الآلهة فكان لهم شأن غير شأنه وحديث غير حديثه. كان لكل منهم اختصاص لا يتخطاه، وأحسب أن توزيع الاختصاص بين الآلهة في مصر القديمة وفي اليونان وروما، ونسبة الخير إلى أحدهم والعلم إلى غيره والشر إلى ثالث وهلم جرّا، لم يكن إلا بعد تطورات سياسية واجتماعية مرَّ بها عبَّاد هذه الآلهة، وأحسب أنه أول نشأتهم كان كل منهم إلهًا طائفيًّا له كل صفات الربوبية عند أهل طائفته، كما كانت أوثان العرب قبل الإسلام آلهة كل منها لقبيلة، ولكل في نفوس عباده كل ما كانت تتصوره هذه النفوس الساذجة الضالة من صفات الربوبية. ثم كان أن تغلبت طوائف على أخرى أو امتزجت طوائف بأخرى، فكان إله الطائفة المغلوبة على أمرها شقيًّا مثال النقص والفساد، وكان إلاها الطائفتين الممتزجتين صنوين في الفضل بلغ من تشابه صفاتهما أن امتزج كل بصاحبه، وأذكر على سبيل المثال أن آمون إله طيبة لم يكن أول أمره ذا مكانة عند غير عباده، وكان رع هو الإله المقدم في أنحاء مصر الأخرى. فلما آل إلى طيبة عرش مصر، وكان لزامًا أن يصير لآمون مجد طيبة، لم يكن إلا أن امتزج برع فصار الإله آمون رع، ولما أصبحت مصر مملكة واحدة توزّعت جهود الألوهية بين آلهة عشائرها المختلفة، وخصّ كل منهم بعمل من الأعمال ووصف به، وأعمال هذه الآلهة هي ما قضت حاجات عبادها النفسية أن تكون، وهي لذلك مظهر من مظاهر شهوات الإنسان ومخاوفه وآماله. على أن التاريخ المعروف ضنين بأن يحدثنا متى تم هذا التوزيع، وكل ما نعرفه عن ثقة أن رع كان كبير الآلهة منذ كان للآلهة كبير، وأن هورس كان إله الشمس في هليوبوليس، ولقد ظل له ولفتاح إله منفيس أكبر السلطان، حتى جعلت طيبة إلهها آمون قريبًا لرع وإلهًا للشمس كهورس وفتاح، وكان لكل من هؤلاء الآلهة ممثل له من حيوانات الأرض.
قال الشاب: وما حكمة اختيارهم الحيوان ممثلًا لآلهتهم؟! أو لم يكن خيرًا أن يرسل كل إله للناس رسولًا منهم من أن يرسل حيوانًا أعجم؟
وأجاب الذي دعانا إلى الشاي: ما أحسب المصريين القدماء كانوا قومًا في بداءة الحضارة، حتى أصدق الرواية التي تفسر عبادتهم الآلهة الحيوانات بأن الناس كانوا أول الخليقة أكثر من الآلهة عددًا وخبثًا حتى خشيتهم الآلهة، فتقمصوا أجسام الحيوان؛ لينالوا عطف الناس عليهم، وليطفئوا من نار شرهم. بل إني لأميل لتصديق ما يروى من أن جنود مصر هزمت غير مرة في وقائع متعاقبة بسبب اختلاط أفراد فرق جيشها بالفرق الأخرى، فاتخذت لكل فرقة علمًا جعلت عليه رسم حيوان كي يهتدي الجند به. فلما تم لهم هذا النظام سار النصر في ركابهم مما أعز أعلامهم عليهم، وكما يقدس أهل هذا الزمان رمز وطنهم، وكما يفتدون بالروح علمه، كذلك قدس قدماء المصريين أعلامهم وما عليها من صور، وقدسوا تبعًا الحيوانات التي تمثلها هذه الصور، وبمر الزمن أصبح هذا التقديس عبادة لهذه الحيوانات وتأليهًا لها على نحو ما يفعل عامة الناس في كل بلد وكل دين بإزاء أوليائه المقربين.
«ويضيف المؤرخ القديم ديودور الصقلي سببًا ثالثًا في تأليه قدماء المصريين للحيوان يدل على أنهم كانوا في ذروة حضارة كاملة؛ ذلك أن هؤلاء المصريين إنما كانوا يقدسون في الحيوانات فائدتها للحياة الإنسانية، والإنسان لا يقدس إلا فائدته ولا يؤمن إلا بها. فالبقرة تحرث الأرض وتنسل ثيرانًا وأبقارًا للحرث والنسل، ومن صوف الغنم يلبس الناس، ومن ألبانها يصنعون الزبد والجبن، والكلب حارس أمين ورفيق في الصيد بارع، ومن الطيور ما عبده المصريون لقتله الثعابين والحشرات الضارة بالناس وبالزرع. أما صاحب الجلالة القدسية أبيس فقد كانوا يعبدون فيه قوة إخصاب الأبقار لتنسل الأرض لتثمر، وفي ثمر الأرض متاع للإنسان وفائدة أي فائدة.
«لم تكن الحيوانات إذن رسلًا للآلهة بل كانت هي الآلهة نفسها».
أتم الذي دعانا إلى الشاي قوله، وأراد نجيّ أبيس أن يتم حديث إيزيس، لكن الشاب استمهله بابتسامة وبإشارة لطيفة من يده، وقال: ليس أشهى يا صديقي من حديثك عن آلهتنا الأقدمين ولا أعذب، ولست أقول لك ذلك مجاملة ولا تمليقًا. فقد رأيت حنقي أول الأمر على عبادة أبيس، ومقاطعتي لقصصك عنه استخفافًا بأمره. أما وقد ملكتْ شجون هذا الحديث الشجي عليّ نفسي وفتحت أمام بصيرتي آفاقًا جديدة للفكر، فأستأذنك وأستأذن إخواننا في أن أقطع نغم قصة إيزيس لألقي بفكرة استثارها الآن عندي ما رواه مضيفنا الكريم عن ديودور الصقلي، وإني بعد ذلك لآذانُ كلّي تلتهم رواية إيزيس التهامًا.
«عبد قدماء المصريين آلهتهم؛ لأنهم كانوا علم النصر وغلب الأعداء، ولأنهم كانوا يقدسون في آلهتهم ما تفيض على الحياة الإنسانية من خير. أليس هذا المعنى هو خلاصة الإيمان الإنساني في مختلف مظاهره؟! أليس هو إجلال القوى الظاهرة والخفية التي تمكن للإنسان في الحياة، تدر عليه خيرها وتكفيه شرها؟ وهل هذا المعنى إلا السليقة الفطرية لكل حيوان، سليقة الاحتفاظ بالحياة في خير ظروفها. فهل لهذا نتيجة إلا أن الإيمان يحل من الإنسان محل السليقة من الحيوان، وإنما الفارق بينهما أن الإيمان يتطور لأن إدراك الإنسان مرن يتشكل بمختلف صور الحياة، على حين قد تعجز السليقة عن هذا التشكل، فيؤدي عجزها إلى فناء الحيوان الذي لم يؤت من فضل الطبيعة مرونة في السليقة.
«هذه فكرة طرأت الآن عليّ أرجو أن تعينوني على تمحيصها، ويخيل إليّ أن جانب الحق فيها أرجح. فمن الحيوان ما مرنت سليقته فأمكن تألف الإنسان إياه، ولئن ظل قرار السليقة ثابتًا في الحيوان الأليف وحيوان مثله لم يتألف، فإن اختلاف سلوك كل منهما في الحياة واختلاف معاملته لما حوله ومن حوله واختلاف يقظة المشاعر المختلفة عند كل منهما، يدل على مبلغ مرونة سليقة نوع من الحيوان أو جمودها. فأنت قد تتألف أسدًا أو نمرًا، وقد ترى سلائقه الوحشية تختفي. لكن هذه السلائق أغلب عنده مما أدخلته عليها من تحوير. فما يكاد محرك يحرك السليقة حتى ينسى الأسد أو النمر ما طبعته أنت عليه، ويعود الحيوان المفترس بكل شراسته ووحشيته. فأما إن تألفت كلبًا أو جوادًا كان لتألفك إياه أثر في سليقته، فلا تتحرك فيه الغرائز الأولى إلا أن يدفعه لذلك دافع شديد، ولا ينهض اعتراضنا على هذا أن الأجيال التي مرت على هذه الحيوانات الأليفة هي التي جعلتها كذلك. فلو أن الإنسان وجد في الحيوانات الأخرى التي ما يزال يعتبرها عدوًّا مثل ما وجد في الحيوانات الأليفة من مرونة في السليقة؛ لتألفها أيضًا ولجعل منها عونًا له في الحياة، والإنسان أمرن الحيوان سليقة، وقد تشكلت سليقته هذه على الأجيال، وكانت القوالب الأولى التي سبكت فيها لتهذَّب وتنقَّى وهي قوالب العقيدة. لذلك أرى جانب الحق أرجح في قولي: إن العقيدة تحل من الإنسان محل السليقة من الحيوان».
بهتنا جميعًا لهذه الفكرة الجريئة المفاجئة، واشتملنا الصمت زمنًا. ثم قال الذي دعانا إلى الشاي: لعلك يا صديقي بعد سماعك بقية حديث إيزيس أن تمحص فكرتك الطارئة، ولعلنا بعد سماعه نكون أقدر على معونتك في هذا التمحيص، وأومأ إلى نجي أبيس: عد إذن بنا يا صاح إلى حديث إلهة الجمال والوفاء. قال نجي أبيس: نعم، هي إلهة الجمال والوفاء، ولن يضير وفاءها أن خدعها الظلام يومًا فحسبت تيفون زوجها، وأسلمت إليه نفسها وأعقبت منه، ولولا علم أوزوريس بأنها خدعت لما غفر لها خطأها.
كان الأشيب إلى هذا الموضع من الحديث شارد اللب يفكر في جميلة سميراميس، ويمد بصره إلى الذهبيات كلها يريد أن يعرف أيها قصدت؟ فلما طرقت العبارة الأخيرة سمعه تبسم، وقال: ولن يضير وفاء أية حسناء أن يخدعها ظلام معبد الحب فينسلها جميلة مثلها ترث عرش الزهرة من بعدها، وتبعث في الحياة من ضياء حسنها ما ينير جوانبها المظلمة، وهل الوفاء إلا مظهر تجاري لعقد مالي أساسه الفائدة؛ هو عقد الزواج! وهل هو إلا جناية على الجمال وآلهة الجمال!
ابتهج نجي أبيس بهذا الدفاع الذي أوحته جميلة سميراميس إلى الأشيب فأضلته، وعاد إلى حديث إيزيس فقال: استعادت إيزيس بمعونة ابنها هورس وصديقيها الإلهين توت ونوبيس أشلاء زوجها أوزوريس، وجعلت همها أن تعيد إليه الحياة، وكانت كلما عثرت بجزء من الجسم صنعت لأوزوريس تمثالًا من الشمع ووضعت الجزء الذي عثرت به في مكانه. فلما اجتمعت الأجزاء كلها أقامت إيزيس وأختها نفتيس حول الجثة وقد لبستا ثياب الحداد، وحلتا شعورهما، ودقتا صدورهما ورءوسهما بأيديهما، كما لا تزال النائحات اليوم يفعلن، وجعلتا تناديانه مستعينتين بزملائهما الآلهة لبعثه. فأما إيزيس فجعلت تقبل أقدام جثته نادبة: «عد إلى بيتك فأعداؤك ليسوا هنا. عد إلى بيتك وانظر إليَّ فأنا أختك التي تحب. لا تبتعد عني وعد إلى بيتك حالًا فإنك كلما غبت عن ناظري اضطرب قلبي وحارت عيناي تبحثان عنك، وجريت في كل ناحية لكي أراك. عد إلى من تحب. عد إلى أختك. عد إلى زوجتك. أواه! يا من وقف قلبه فلا ينبض، عد إلى بيتك ولا تبتعد عني أنا أختك ابنة أمك. إن الآلهة والناس يبكونك جميعًا، أما أنا فأدعوك معولة في صراخ يشق عنان السماء. أفلا تسمع صوتي؟ أنا أختك التي أحببت على الأرض بما لم تحب مثله»، وأما نفتيس وكانت عند رأسه فأعولت نادبة: «أيها الأمير الجميل عد إلى بيتك لتسري عن نفسك فليس أحد من أعدائك ها هنا. إنهما أختاك إلى جانبك تحرسان سرير موتك وتدعوانك نادبتين. قم من سريرك لترى أختيك. لقد هزم أعداؤك وهأنذي حارسة أعضاءك. قم انظر إلى ابنك هورس ملك الآلهة والناس. إنه يقيم الطقوس من أجلك؛ فثوب ينشدك ويدعوك بتراتيله، وأبناء هورس يحرسون جثمانك، وروحك تؤدي لها طقوسها كل يوم؛ إذ يجيء الآلهة يحملون الأوعية المقدسة لتعميد صورتك. عد إلى أختك يا أميرنا يا مليكنا ولا تبتعد عنا».
وأمسك نجي أبيس عن القصص برهة كأنما غلبه التأثر بحزن إيزيس، فقال الشاب: ما أشبه نواح إيزيس ونفتيس بنواح مصريات اليوم! أوليس حل الشعور ودق الصدور والصراخ الذي يشق عنان السماء من طقوس حزن نسائنا على اختلاف طبقاتهن؟ أفترانا مع تناسخ العصور والأديان والحكام والأجناس التي قطنت الوادي خاضعين لحكم ما أنبت الوادي من عقائد وعادات وتقاليد؟
قال الذي دعانا إلى الشاي: وما طقوس الحزن إلى جانب ما نزال نؤمن به على أنه دين القبط أو المسلمين، وهو ميراثنا عن أجدادنا من قدماء المصريين! روى هيرودوتس أن الرجال في غير مصر يقصون شعورهم آية الحزن على حين يرخيها المصريون من أقارب الميت علامة الأسى، وذلك ما نصنع اليوم، وأن المصريين وحدهم يحتملون أن تعيش الحيوانات على مقربة من الناس وفي دورهم؛ وما يزال ذلك شأن مزارعينا، وأنهم دون غير يختنون أبناءهم، فعنهم ورث اليهود والمسلمون الختان، وذكر غير هيرودوتس طقوسًا كان يقوم بها أجدادنا لبعض آلهتهم يقوم بمثلها اليوم عامتنا لبعض الأولياء، وفي ذلك مصداق ما ذكره كثيرون من أن العقائد لا ينسخ بعضها بعضًا، بل يضاف بعضها إلى بعض، وأن كثيرًا مما نسميه خرافات العامة وأوهامهم إنما هو بقايا متخلفة من أديان قديمة هي في النفس الإنسانية أشبه بآثار الحيوانات البائدة المتحجرة في الصخور، والتي لا يسهل لذلك زوالها.
«وربما رأيت فيما سيجلوه صديقنا تتمة لحديث إيزيس وبعثًا لأوزوريس ما يعيد إلى ذهنك كثيرًا غير ما ذكرت من عادات أهل الجيل وعقائدهم».
اتجهت الأنظار إلى نجيِّ أبيس، كأنما يريد كلٌّ أن يعرف ما لا يزال في نفسه من آثار الفراعنة العظام، واستطرد هو في حديثه: ولما أدت إيزيس فرائض الحزن استعانت بهورس وبنفتيس وبالآلهة، فتلوا من الأدعية والأوراد لروح أوزوريس ما كفى لعودها إلى جسمه تمهيدًا لبعثه، وهنا تختلف رواية البعث: فمن قائل إنه كان بعثًا زراعيًّا، ومن قائل إنه كان حيوانيًّا، والذين يذكرون البعث الزراعي يرون أنّ الجثة حملت بعد الأوراد والأدعية إلى شجرة جميز ووضعت خلال ورقها، وهناك تم بعثها بعد سبعة أيام إلى حياة خالدة تحياها في السماء، والذين يذكرون البعث الحيواني يرون أن الجثة وضعتْ بعد الأوراد والأدعية في صورة بقرة صنعت من الخشب ظلت فيها سبعة أيام كذلك، ثم تم بعثها إلى الخلد.
«ثم عاد أوزوريس من العالم الآخر يومًا وسأل ابنه هورس عن أجمل الأعمال في نظره، فكان جواب الإله الشاب: أن يثأر لأبيه وأمه ممن أساء إليهما، وأعلن الحرب على إله الشر، وكانت بينهما موقعة دامت أيامًا، وانتهت بهزيمة الشر، ووقوع تيفون أسيرًا في يد إيزيس. لكنها بدلًا من أن تقضي عليه أو تسجنه أطلقت إساره، وقد أحفظ ذلك هورس حتى انتزع عن رأسها تاج الملك».
هنا تدخل الأشيب معترضًا: يا لهورس من ساذج! أحسب أمه نسيت يوم خدعها الظلام، وألقى بها في أحضان تيفون فأخصبها! فهل تراها وهي إلهة الخصب تقسو بتيفون لأنه الشر، منكرة ما للشر في أحيان كثيرة من فضائل وحسنات؟!
انتزع هورس تاج الملك من رأس أمه، فغضب لذلك الإله هرفس، وأبدل إيزيس من تاجها خوذة على صورة رأس بقرة تمثل الإلهة هاتور رمز إيزيس نفسها، ويذهب القصاص إلى أن هورس ازداد لذلك غضبًا فقطع رأس أمه. لكن هذه الرواية موضع شك عند المؤرخ اليوناني فلوطرخوس، وهو يذهب إلى أن الأم والابن تصالحا وعادا يحاربان الشر وانتصرا عليه في موقعتين نصرًا حاسمًا، وصارت إيزيس بعد ذلك إلهة الخصب وهورس إله الخير، ولعلهما ارتقيا بعد ذلك إلى السماء راضيين.
«هذا حديث إيزيس في مصر، أما حديثها في اليونان وروما …
هنا أشار الأشيب من جديد معترضًا: أمسك بربك وحق أبيس هنيهة. ألا ترون إلى ذلك الزورق المرخاة سدوله من حوله؟ اقصد بنا إليه يا ريس. إني لأتحسس فيه همسًا من نجوى الهوى لا أشك معه في أنه معبد سيدتنا سميراميس، وهذا هو يتجه صوب ذهبية صديقنا الخليل. فإذا صدق ظني فما قولكم في أن نسبق السيدات والسادة إليها حتى لا يحسب أحد منهم أنا تأثرناهم لغاية؟
وبدا على حديث الأشيب من الجد الذي تلهب به الزهرة دماء عبادها ما ردَّنا عن مخالفته، وردَّنا كذلك أنا شعرنا بالغبطة لرؤية الفاتنة من جديد، فأشرنا إلى الريس أن يقترب من الزورق المرخاة سدوله. فأخبرنا هو أنه حقًّا الزورق الذي استقله السيدات والسادة، واستحثه الأشيب كي يسبقهم إلى الذهبية، وألفينا الخليل واقفًا على ظهرها كأنما ينتظر أحدًا. فلما رآنا سابحين نحوه أشار إلينا مناديًا: تقدموا فشاركوني في ليلة ساهرة هي جديرة بمثلكم ظرفًا وأدبًا.
ولما رآنا السيدات والسادة حين ارتقوا الذهبية بدورهم دهشوا، وألقت الفاتنة على الأشيب نظرة معسولة ردت إليه صوابه، وكانت ليلة ساهرة أرخى كثيرون فيها لأنفسهم العنان، وإن أبى نجيَّ أبيس إلا أن يتم حديث إيزيس في مصر وروما واليونان.