راعية هاتور
صعدنا إذن إلى ذهبية صديقنا الخليل، ثم أدركنا السيدات والسادة ومن بينهم فاتنة سميراميس إليها، وألقت الفاتنة على الأشيب نظرةً معسولة ردت إليه صوابه، وتلقى الخليل الفاتنة وأصحابها باسمًا قرير العين، وتقدمهم إلى أماكن وثيرة أعدت على ظهر السابحة، وأدرت طرفي فيما حولي فألفيت مقصفًا بلغ من الكمال أن كان بشيرًا بليلة قَصَفٍ تثير في النفس أحلى المنى، وأخذنا من السيدات والسادة مجلسًا كمجلسنا منهم في الفندق، ثم كنا معهم أقل كلفة بعد ما قدمنا صديقنا لهم وأتم التعارف بيننا وبينهم، وسألت الفاتنة صديقنا الأشيب باسمة: هل نسى من تاريخ الآشوريين حديثًا أو خبرًا، وكان أصحابها من جيراننا الشرقيين المتقبعين أبًا عن جد حتى لا يتميز الإفرنج عنهم في قليل ولا كثير، وحتى صارت عربيتهم إلى العجمة أو كادت، وبينا نحن نتحدث أقبل علينا آخرون صعدوا من زورق، وآخرون جاءوا من ناحية الشاطئ، ومع هؤلاء جاءت جماعة يحمل أحدهم قيثارة والآخر رقًا والثالث عودًا والرابع كمنجًا، وعرفنا في العواد مغنيًا رقيقًا تعرفه مجامع الأصدقاء ولا يعرف المحافل العامة، وفي أثر هؤلاء أقبلت فتيات ذات ظرف وقسامة ودل، هن الساقيات الراقصات المحييات في لجة القمر وفوق لجة الماء خيالات عذارى البحار، ولما تكتمل الساعة حتى كانت الذهبية في عالم يموج بالرجال والنساء تغمرهم جميعًا غلالة رقيقة من ضياء فضي وهواء عذب يحمل معه قرًّا، وفي مثل هذا العالم يتسرب إلى النفس إحساس الرضا والمسرة، وتجري في العروق آمال حلوة مبهمة، ويستشعر الإنسان بما سيكون من أسباب الطرب والنعيم، ويزيد في هذه الأحاسيس والآمال والمشاعر ما يكون بين الجمع من تبادل ابتسامات وتحيات ونكات، والحق أنك كنت ترى الأشيب قد ملكه كل شبابه، فضحكت عيناه وافتر ثغره ونضح بالبشر محياه، ووقفت نظراته عند فاتنة سميراميس لا تتحول عنها إلا لترتد إلى قرارة نفسه تزيده ذوقًا لسعادته ونعيمه. أما صديقنا الشاب فكان لا يستقر في مكان، بل كان دائم الانتقال يحيي من عرف ويقدم نفسه لمن لم يعرف، ويتبرع بأجمل الثناء لكل ذات دل وسنى، وأما نجيِّ أبيس فجلس إلى أصحابنا السيدات والسادة يسمرون، وفيما هم في سمرهم دلف إليهم الخليل يكرر ما يتوجه به لكل زائريه من شكر ومديح. قال صاحب السيدات والسادة محدثًا الخليل ومشيرًا إلى نجيِّ أبيس: لقد كان صاحبنا وإخوانه يتحدثون في سميراميس بحديث آلهة آشور وآلهة مصر الفراعنة. فليتنا عرفنا شيئًا من أمر حديثهم قبل اليوم، فجعلنا من ليلتنا هذه ليلة فرعونية، أو ليتنا يتاح لنا ذلك في وقت قريب.
قال الخليل: ولم لا تكون ليلتنا هذه الليلة الفرعونية؟ إن لدينا في هذه الذهبية من العدة ما يجعل منها إن شئتم معبد الكرنك، أو إن شئتم قصر الفرعون، أو ما تشاءون من صور حياة آبائنا الأقدمين، وبين أولئك الفتيات اللاتي حضرن من تمتّ بروحها وبقسمات وجهها وبنظراتها وبكل ما فيها إلى عباد آمون بأمتن نسب، وإليها يرجع الفضل في عدة الذهبية، كما يرجع إليها الفضل في غرام تأصل في نفسي بكل حياتنا المصرية، وسترون أنا لن نجد نصبًا في إعداد ذهبيتنا إلا ما يجد معد المسارح في تهيئتها لرواية جديدة.
قال الخليل هذا وأجال بصره في الحاضرين حتى استقر في ناحية، ثم نادى: إليَّ يا راعية هاتور.
– لبيك يا حبيب آمون ورع والآلهة السالفين! هل لنا في ليلة فرعونية؟ وكأنما كان نداء الخليل إشارة ذات معنى؛ إذ أقبلت إلينا تشق موج الحاضرين فتاة هيفاء سمراء ذات دل وحور وذات قسامة تعيد إلى النفس صورة الفرعونة نفرتيتي ورأسها الساحر، وألقى نداء الخليل وجواب الفتاة وإقبالها صمتًا خيم على الجمع الذين التفتوا كلهم إلى ناحية راعية هاتور في نظرة إعجاب من الرجال واستيعاب نقاد من النساء، واستقبلت الفتاة القمر في طريقها إلينا؛ فكانت أشعة عاشق السماوات هالة زادت ابنة الفراعنة رقة وسحرًا، وتلفت الأشيب إلى ناحيتها مع من تلفتوا، ودارت حدقتاه معها في بطء دلّ على ذوقه جمالها، وأدرت ناظري لمحة فإذا فاتنة سميراميس تحدج الأشيب والراعية، وكأنما دب من الغيرة إلى نفسها ما دعاها إلى أن تلفت غيرها عن هذا المفتون بها، حتى لتخشى أن تفتنه عنها، والصمت مخيم، والفتاة تقبل، والأعين مشدودة إليها، والخليل يفكر في الليلة الفرعونية، ويكاد ذلك يطول لولا أن بدأت الفتيات والنساء حديثهن وتهاتفهن كأشهى ما يستطعن ليصرفن الأنظار من جديد إليهن، ولكي لا يحسب أحد من الرجال أنهن أقل من تلك الراعية سلطانًا. قالت إحداهن: ما أعظم سرور الراعية بدعوة الخليل لليلة الفرعونية! فهي لا تتقن رقصًا كالذي تقوم به في دورها هذا، وأكبر الحظ في إتقانها إياه أن ملابسه تخلع عليها شيئًا من الجمال.
وأجابت جارة لها: يجب أن نحمد للخليل على كل حال. فالضيف أسير الحليّ.
وأردفت كل واحدة عبارتها بابتسامة تجلّت خلالها ثناياها الحلوة العذاب فأمتعت النظر، كما أمتع صوتها السمع، واستعاد هذا وذاك التفات من حولهما، كما استعادت غيرهما التفات من حولهن.
وتداول الخليل والراعية وجيرانهما فيما يصنعون، ونادى هو بالخدم وسار معهم خلفها إلى الطابق الأسفل، ثم إذا بها يصعدون من جديد وإذا ستور تمد، وإذا عيوننا تشهد صورة قصر فرعوني مشيد، وترى خلال جدر هذا القصر عمدًا تذهب إلى اللانهاية كأنما هو يطل على معابد الكرنك من ناحية، كما ظل يطل من الناحية الأخرى على النيل ورياضه النضرة، ودعانا الخليل أن نهبط وراءه، وأشار إلينا جميعًا أن ندخل إلى غرفة الذهبية كي يلبس كل منا الرداء الفرعوني الذي يصادفه، وعدنا إلى القصر المطل على الكرنك، فإذا الحاضر الذي عرفنا يختفي، وإذا عصر سلف يبعث، وإذا الحفدة تتقمصهم أرواح الأجداد وإن ظلوا في ريعان الفتوة وإهاب الشباب، وجلسنا إلى موائد ألقي عليها بنسيج العصور الغابرة أيضًا، ومدت عليها ألوان الشراب في أباريق من فضة، وبقي صدر المكان خاليًا تخطر فيه أوانس زانتهن راعية هاتور وقد اتشحت بثوب أبيض انعقدت أطرافه بين ثدييها في صورة الوردة، وظل باديًا من خلاله تخطيط جسمها، ولبست على رأسها شارة إيزيس قرص الشمس مقتعدًا قرني هاتور، وأمسكت بيدها مفتاح الحياة، واحتذت حذاء راقصة شد إلى رجليها بسيور من فضة، ودار الخدم يصبون الشراب في أكواب من بللور صنعت على صورة زهرة اللوتس، وسارت وراءهم فتاة أمسكت بيدها صندوقًا صغيرًا على صورة صندوق مومياء ظهرت تحت غطائه مومياؤه، وجعلت الفتاة تكشف عنها كلما وقفت إلى مائدة فرغ الخدم من صب الشراب في أكوابها للمحتسبين.
قال الأشيب وقد لبس لباس الراهب: ما أكثر ما يحيط بحياة أجدادنا من أسرار يحتاج فهمها إلى التفكير! فما بال هذه المومياء تدور بها الغادة الفياضة بالحياة بين جمع مسرة وطرب؟ وما لهم يذكرون الناس وهم في ذرا نعمة الحياة بمصير الحياة المخيف المزعج، بهذا الفناء فاغرًا فاه يبتلع فيه إلى غير عودة كل من ألقى به يم الحياة إلى ناحيته؟! أو ما كان خيرًا لو أنهم تركوا ساعات المتاع القصيرة لا تشوبها صورة مريرة؟
وسمع نجيّ أبيس سؤال الأشيب، فأسرع إلى جوابه خيفة أن تظل حكمة الأجداد خافية على الحفدة، أو أن يحسب أحد أنهم في كال حضارتهم كانوا يعرفون الفزع أو يهابونه، قال: إن أمر هذه المومياء لا يحتاج ممن عرف حياة السلف إلى تفكير؛ فأبسط معانيها في مجلس شراب أنا صائرون إلى مثلها، فلنغنم كل ما في الحياة من متاع قبل أن تنفذ الحياة ومتاعها فنكون كهذه المومياء رغبة عن المتاع وزهدًا فيه وطمأنينة إلى خلد السكينة الأبدية، وهذا معنى تناوله الناس جميعًا في شعرهم ونثرهم، وتناوله الندامى في أسمارهم. بل لقد أحسب أنه كان لا بد أن سيدور بخلدنا لو لم تنبهنا الصورة الفرعونية إليه.
«على أني أرتاب في أن يكون هذا المعنى هو ما قصد إليه الفراعنة؛ ذلك بأن عقائدهم تنفر منه، وتدلنا على أنهم كانوا يقصدون إلى خير من هذا الخاطر الذي يرد إلى أذهان أبناء اليوم. فهم كانوا لا يرون الموت آخر مراتب الحياة، ولا يحسبون الإنسان يحرم متاع الحياة لغير سبب إلا انتقاله منها. بل إنه ليجد في العالم الآخر مثل متاعه معنا أو خيرًا منه ما بقي جسمه مصونًا من التحلل مستعدًا لأن تعود إليه الروح الشقيقة، وهذا سر تشييدهم المقابر كما نشيد نحن القصور، وهو سر وضعهم أدوات المتاع في قصور القبور. أما الروح الشقيقة (الكا) أو الضعف على ما يسميه المؤرخون، فتعود إلى المومياء التي حفظها التحنيط، فتسمح لها أن تلذ بمتاع كمتاعها في الدنيا من غير حاجة إلى أكثر من أن تقع باصرتها على أسباب هذا المتاع، وهي تبقى في خلدها وتبقى أسباب نعمة الحياة إلى جانبها مستمتعة بها ما بقيت المومياء خالدة على الزمن. فلينهل الناس في الحياة كل ورد النعيم، فلن يزيدهم ذلك إلا إمعانًا في المتاع بهذا النعيم بعد الحياة.
قال الأشيب: حكمة بالغة وحق إيزيس. إن لك بعد الحياة ما كان لك فيها، ولم لا؟ ألسنا دائمًا نعيش على ميراث الماضي، وغدًا هو ابن اليوم، ومشيبنا ذكرى شبابنا؟ فليس إذن عجبًا يوم نذر الحياة أن نظل نحياها وإن على صورة أخرى.
وبينا كان السقاة يصبون الشراب وكان الأشيب ونجيُّ أبيس يتحدثان كانت راعية هاتور في شغل بتنظيم ليلتها. استعانت بعدد قليل من أصحابها الذين لبسوا لبس الرهبان والراهبات كي يؤدوا طقوس عبادة إيزيس، وأوحت إلى غيرهم من ضيوف الحفلة أن يصنعوا صنيعهم وأن يتابعوهم في كل عملهم، واختفى الموسيقيون خلف ستار وبدءوا يوقعون أنغامًا أشعرتنا أنهم غادرونا وغادروا القصر ومن فيه واختفوا خلال عمد الكرنك يحيون فيه عبادة رع وآمون. فقد كانت بعيدة، بعيدة، هذه الأنغام، وكانت تزداد حينًا بعدًا، ثم تقرب بعض الشيء لتعود فتبتعد من جديد، وكانت كلما قصت جذبت أفئدتنا معها وزادت في الصمت الذي مد رواقه على المكان مهابة ورهبة، وظلت في ابتعادها حتى امتلأت نفوس الحاضرين جميعًا قداسة دينية. هنالك بدأ الصوت يرتفع شيئًا فشيئًا مقتربًا بذلك منا، وهنالك قام عديد من الحضور في صفين راهبات ورهبانًا، وارتفعت تراتيل لم تزد على آهات ولكنها كانت متأثرة برهبة المكان، وكانت بامتزاج أصوات الجنسين مثيرة في النفس قداسة المعاني الإنسانية جميعًا وفي مقدمتها معاني الخصب والإنتاج.
وتقارب الصفان، فإذا الأشيب إلى جانب فاتنة سميراميس، وإذا هو لذلك أشد إيمانًا بإيزيس ورع وآلهة أشور وكل من كان له في معرفة الفاتنة إياه فضل، وتباعد الصفان وختمت التراتيل، وتابعت الموسيقى أنغامها شجية في استسلام وحنان، واندفعت راعية هاتور بين رهبانها راقصة رقصًا دينيًّا، مقدسًا هو أيضًا، بدت قداسته على أتمها حين رفعت ذراعيها فتشابكت أصابعها في دعاء واستغفار، وخطرت في لجة لجين الضياء يستشف من خلال شفوف ثوبها قوامًا لدنا يتثنى في موج مطمئن مع كل خطوة من خطواتها وخطرة من خطراتها، وكان كافيًا أن تقف الراعية؛ لتكون تمثال جمال ورشاقة تتناهبه الأعين فلا يزداد إلا رشاقة وجمالًا. لكن خطراتها بين صفي الراهبات والرهبان على أنغام الموسيقى الشجية زاد الجمال حياة ودفع إلى النفوس أقدس معاني العبادة والإذعان، وأولئك الفتيات اللواتي نفسن على الراعية سحرها في الرقص الفرعوني كن أكثر الحاضرين نهبًا إياها بنظرات الإعجاب والإكبار، أليس لكل امرأة ما تسحر به الرجال؟ فلم لا تكبر كل امرأة في غيرها سحرها لتنال هي أيضًا من إكبار ما لديها ما يزيد الرجال سحرًا وافتتانًا! …
وبقينا في عباتنا هذه زمنًا ولّت الراعية وجهها أثناءه صوب المعبد، فإذا صوت ذلك العواد يرتفع منشدًا في نغمة كنيسة بنشيد إيزيس يختم به هذا المنظر الأول من مناظر ليلة الخليل، وعاد الرهبان والراهبات إلى موائدهم، وعاد السقاة يصبون الشراب تتبعهم غادة المومياء، واكتملت حلقتنا وحلقة أخواتنا السيدات والسادة عدا صديقنا الشاب الذي بلغ من عبادته مبلغ الذهول، وأعلن على أثر انتهائها أن لا مقيل له من ذهوله إلا أن تباركه الراعية وتتلو عليه الأدعية والأوراد جميعًا. أما نجيُّ أبيس فقد وجد في الحفل الفرعوني المحيط به ما دفعه إلى أن يعود إلى الحديث عن إيزيس وعباتها وأعيادها، قال: ها نحن أولاء نمثل صورة غير دقيقة من عبادة إيزيس في ساعة متأخرة من الليل، مع أن عباد إيزيس كانوا لا يعرفون سهرًا ولا قصفًا. بل كانوا يذهبون إلى معبدها كل يوم لصلاة الفجر قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وكان رهبانها ينتظرون العباد وعلى رأسهم الإمام الأعظم رواقي الطلعة حليق الرأس والذقن مرتديًا ثوبًا من التيل الأبيض بسيطًا كل البساطة، وكان هذا الإمام الأعظم يقضي حياته ناسكًا لا هم له إلا أن تطهر روحه بالعلم وبإدمان التفكير في القدسيات وبتعليمها، وكانت أولى المراتب بعد الإمام مراتب الأنبياء المقربين إلى الآلهة المحدثين عنهم والمتحدثين إليهم. أما الرهبان والراهبات فكان شأنهم أن يعنوا بتماثيل الآلهة يلبسونها ويخلعون ملابسها المكونة من أقمشة نصفها أسود والنصف الآخر أبيض لامع، للدلالة على أن ما نعرفه من أمر الآلهة يختلط فيه الضياء بالظلمات، وكان هؤلاء الرهبان يلبسون ثيابًا أكثر بساطة من ثوب الإمام الأعظم، تبقى بادية من خلالها أذرعهم وصدورهم ورءوسهم الحليقة. أما الراهبات فكن يلبسن معاطف تنعقد أطرافها على صدورهن كما صنعت راعية هاتور، تحمل كل منهن في إحدى يديها وعاء فيه الماء الطهور وفي الأخرى «السستر» آلة القدماء الموسيقية، يهزونها ليوقظ صوتها الكائنات من سباتها. فإذا جاء عباد إيزيس إلى قدسها ووجبت الصلاة صعد الإمام الأعظم الدرج إلى تمثالها، فأزاح عنه ستوره، فظهرت باهرة في وقفتها بما عليها من حلي الجوهر الوضاء، تمسك بإحدى يديها مفتاح الحياة وبالأخرى الماء الطهور، وأمام التمثال يتوضأ الرهبان بالماء ويملسون به على الأتقياء، ثم يوقدون النار لتحرق ما في المكان من شر. فإذا طهر كل ما في المعبد دعا الإمام الأعظم الآلهة فلبت الدعاء. فقدم لها عبادها ما شاءوا من قرابين وضحايا.
«فإذا كان العصر أذن الرهبان للصلاة الثانية كما يؤذنون لصلاة ثالثة هي صلاة ختام اليوم يسدل الإمام الأعظم على أثرها الستور على إيزيس لتطمئن في لباس الليل حتى صلاة الفجر.
«أما أعياد إيزيس فكانت تقام في أول الربيع وفي أول الخريف، وكانت غاية في البهجة والجمال لولا ما كان يخالط عيد الخريف من أيام أسى على مصرع أوزوريس. ففي الثالث عشر من نوفمبر (السابع عشر من شهر آتور أو هاتور الفرعوني) كان الرهبان يلبسون على رءوسهم صور الطير والحيوان مما يعبد المصريون، ويذهبون إلى معبد إيزيس فيمثلون أمام الشعب المأساة الإلهية الفاجعة، يقهر فيها الشر الخير، وتقوم على أثرها معركة إيزيس وهورس ونفتيس مع سخت، لتنتهي إلى بعث الخير من جديد دون أن يقهر الشر أو يقصى عن الأرض.
كان الخليل قد جاء إلى جمعنا يحيينا مستصحبًا صديقنا الشاب معه حين كان نجيُّ أبيس في ختام كلامه يتحدث عن أعياد إيزيس. فلما سمع عبارة النجيِّ الأخيرة أراد مشاركتنا في الحديث فقال: ما أكثر ما يفسرون به مدلولات الآلهة القدماء! أفحق أن إيزيس وأوزوريس وجماعتهما كانوا الخير والشر والصلاح وما إلى ذلك من صفات؟ أم كان تيفون البحر، وأوزوريس النيل، وإيزيس الأرض وخصبها، وهورس النبات الذي تمخض عنه ذلك الخصب؟ وإن أصحاب هذه الرواية ليؤيدونها بأن مصر كانت في الماضي يغمرها البحر حتى ما يزال يوجد في جبالها ومناجمها أصداف وآثار حيوانات بحرية، وأنه ظل يغمرها حتى دفع النيل بمياهه وبطميه البحر إلى الوراء فأخصب الأرض وأثمرها. أم لهذه الآلهة معان فلكية، فتيفون هو الشمس المحرقة، وأوزوريس هو القمر الرقيق المحسن؟ وأصحاب هذه الرواية يذهبون إلى أن ضوء القمر مخصب يثمّر الحيوان والأرض في حين تحرق الشمس الحرث والنسل، ويصلون ما بين الشمس والبحر قائلين إن البحر هو الذي أوقد للشمس نارها ولظاها، حين تبعث مياه الينابيع والأنهر أغنياتها إلى القمر وضيائه. أم أن أوزوريس هو النهار، وتيفون الليل، وإيزيس القمر وهورس الشمس؟ أم هذه كلها صفات الربوبية تجتمع للآلهة متعددين، وهي بعض صفات الإله الأعلى ذي الجلال؟!
وما فرغ الخليل من حديثه حتى صاح صديقنا الشاب: والأرباب جميعًا! إني لعلى حق حين قلت لكم إن الإيمان يحل من الإنسان محل السليقة من الحيوان. فأرباب من الحيوان؛ لأن في الحيوان للناس خيرًا ومتاعًا، وأرباب هم علم النصر وغلب الأعداء؛ لأن في النصر احتفاظًا بكل ما في الحياة من نعمة وحرية، وأرباب هم عناصر الطبيعة صاحبة السلطان الأول على الحياة وأطوارها، وأرباب هم الخير والجمال ولذة الروح في الحياة، وبهؤلاء الأرباب وبغيرهم من مثلهم آمن أجدادنا ثم آمن آباؤنا، واليوم وقد سخر الإنسان لنعمته غير الحيوان، وراض من قوى الطبيعة الكهربا والجو والأثير، وراض هذه وغيرها من طريق العلم، فهو يؤمن بالعلم وبها، وهو في مظاهر إيمانه جميعًا إنما يبحث عن مكانة بين كل ما في الوجود تحفظ عليه الحياة في أنعم صورها المادية والذهنية والروحية، وليست سليقة الحيوان وفطرته في الاحتفاظ بالحياة إلا هذا الذي يتناوله إيمان الإنسان؛ ذلك بأنه هو الآخر يريد الاحتفاظ بالحياة في خير صورها. فمن الحق إذن أن الإيمان يحل من الإنسان محل السليقة من الحيوان.
كانت فاتنة سميراميس قد ألقت السمع أول ما حدث نجيّ أبيس عن إيزيس وعبادتها وأعيادها. فلما رأته بعيدًا عن مثل حديث سميراميس وجمالها، ثم لما رأت الشاب يتناول بحث السليقة والإيمان، شاحت عنا بوجهها، كأنما رأت فيما يقصه المتكلمون حماقاتٍ لا تغني. أحس الأشيب انصرافها عنا فلم يشاركنا في الحديث ولا أعارنا سمعه بل اندفع يهمس في أذنها بعبارات رقيقة يصف لها بها رقة هذا الليل وجماله. فلما أتم الشاب حديثه كانت أكواب الشراب تطلب الساقي ليملأها. فأشار إليه الأشيب، وسرعان ما حضر تتبعه غادة المومياء. فلما فاض الرغاء على حافات أكواب اللوتس قال الأشيب: إن لك بعد الحياة ما كان لك فيها. فلنتبادل النخب من هذا الشراب الشهي، ولنذكر إيزيس بوصفها جميلة يبهر جمالها أفئدة يطير بها الشراب ويطير بها مجلسنا الحلو الظريف، ولا نضيع هذه الفرصة السعيدة في قصص الأساطير وفلسفة الإيمان، وإذن هات يا نجيَّ الآلهة حديث الجمال وسحره.
وكانت من الشاب أثناء حديث الأشيب التفاتة فإذا راعية هاتور مقبلة، فأسرع إليها وارتمى عند قدميها قائلًا: صدق صاحبنا الأشيب. لا خير في قصص الأساطير ولا في فلسفة الإيمان، وإنما الخير كل الخير في الجمال وحديثه، وطلعتك ومشيتك وحديثك أدعيتك وكل ما ينبعث منك هو حديث الجمال، بل هو أنغام موسيقاه القدسية الساحرة. بالله يا نجيَّ الآلهة إلا ما ذكرت لنا من أمر هاتور وجمالها ما يطرب له الجمع ويهش له جمال ساحرات الليلة فيزداد ضياء وإشراقًا، وحق عليك وأنت نجيّ العجل المقدس أن تعطف وأن تستعطف ربك الأعلى على البقرة المقدسة.
قال النجيُّ ملبيًا دعوة الصاحبين جميعًا: لا تحسب يا صاح أن الرمز بالبقرة لهاتور معناه أن هاتور كانت بقرة بالفعل، وإنما كان ذلك رمزًا إلى أن هاتور كانت ربة الخصب كما كانت ككل ربات الخصب ربة الجمال. بل هي في رأي أكثر المؤرخين صورة من إيزيس غير صورة الوقار وصورة الأمومة وصورة الطيبة. هي من إيزيس صورة الزهرة عند الرومان، وأفروديت عند اليونان، وسميراميس عند آشور، وحجتهم في هذا أن اسم هاتور معناه بيت هورس، فهي إذن من هورس ما كانت إيزيس في أمومتها له. بل إن بعض المؤرخين ليرون أن هاتور أقرب في نسبها لآلهة السماء من إيزيس نفسها أن كان الجمال مصدر الخصب والخلق، ويذهب بعضهم إلى أكثر من هذا، فيراها أقدم الآلهة ومنبع الحياة، بل يراها إلاهة الطبيعة وكل ما فيها من صغير وكبير؛ لذلك كانوا يسمونها أم أبيها وبنت أخيها، وكانوا يقرنونها إلى الآلهة جميعًا في كل المعابد، على أنها في كل حال كانت عند المصريين زهرة جمالهم المطمئنة نظرته، اللدن قوامه، الثابتة أردافه وسيقانه، كما كانت إلاهة الزينة والتحلي، ولذلك كانت في كثير من الأحيان تصور امرأة ممسكة بيدها أطواقًا هي أطواق الحب، ولابسة من الحلي عقودًا وأساور ومشابك وغيرها من أدوات الزينة مما يزيد الجمال براعة وبهرًا.
وأمسك النجيُّ برهة، فإذا الأشيب قد تحركت نفسه إلى حديث الجمال مثلما تحركت من قبل ساعة تناولنا الشاي، فقال: هاتور في مصر، وأفروديت في الإغريق، والزهرة في روما، وسميراميس في آشور، كل أولئك كن في الإنسانية رمز الجمال وتمثال المرأة البارعة. فهل خلق الناس منذ القدم غير المرأة وتمثالها للجمال رمزًا؟ وهل مصدر لإلهام الشاعر ووحي المفكر وفن الفنان ولكل ما يأتيه الرجل من عظيم غير المرأة الجميلة؟ وبحسب المرأة أن تكون جميلة ليغمر جمالها كل ما سواه من صفاتها.
وكانت راعية هاتور قد أخذت مكانها إلى جانب الخليل، وكان صديقنا الشاب قد أخذ مكانه إلى جانبها والخليل محنق لذلك يكاد يتميز من الغيظ لولا حقوق ضيافة يجلها ويرعاها. على أنه إذا رأى الشاب يدنو من الراعية يهمس في أذنها لم يملك إلا أن همس هو في أذنه: لا يملك الشراب يا صاح عليك لبك فيحسبك أصحابك مخمورًا، ونالت هذه الكلمة من أنفة الشاب، فأراد ألا يلاحظ أحد على وجهه تغيرًا، فاندفع معقبًا على حديث الأشيب: هاتور والزهرة وأفروديت وسميراميس كلها أسماء لمعنى واحد صاغ له خيال الأقدمين بدائع الأساطير، وإيزيس في مصر كانت هي عشتروت في فينيقية وقبرص، وكانت هي سيرس في روما، وتوت المصري هو المريخ اليوناني. هكذا أذكر أني سمعت. أوليس هذا دليلًا على اتفاق الناس في تصوير صلة ما بينهم وبين الوجود لاتفاقهم في طرائق النظر لما في الوجود؟ بل لقد أحسب مما سمعت عن انتقال إيزيس إلى جبيل بالشام باحثة عن جثة أوزوريس أن عبادة هذه الإلهة انتقلت معها إلى فينقية وقبرص، وأنها انتقلت من هناك إلى اليونان ثم إلى روما؛ فكان هذا سبب تشابه الأساطير حول البحيرة الكبيرة التي أسموها بحر الروم ونسميها البحر الأبيض المتوسط، وإذا اختلف هذا التصوير للوجود باختلاف طرائق النظر، فها نحن أولاء اليوم لا نعرف من أمر أساطير الميثولوجيا القديمة إلا أنها أوهام خيالية تحلو في الشعر ولا ظل لها من الحقيقة. مع أنها كانت تمثل الحقيقة الثابتة في تلك العصور. أو لو بعث ميت من أبناء العصور الفرعونية الليلة وحضر مجلسنا هذا أتراه يشك في أن هذه الستور التي تمثل الكرنك وعمده وتمثايله إنما هي تماثيل وعمد من حجر، وأنه في طيبة لا بين أحضان القاهرة؛ وفي مكان هذه الأوهام التي كانت حقائق أهل تلك الأجيال أقمنا نحن حقائقنا؛ لتكون أوهامًا عند أجيال تخلفنا، وكل جيل يؤمن بما يصوره لنفسه على أنه الحقيقة؛ لأن هذه الصورة هي التي تكفل طمأنينته في الوجود واحتفاظه بالحياة بين عناصر الوجود الدائمة التفاني والتجدد، وإذا صح أن بقي شيء من الإيمان القديم لم يتغير — وهذا ما أشك أكبر الشك فيه — فلن يكون إلا ما يمس حياتنا المادية من طعام وشراب أو يمس آمالنا المبهمة في خلد هذه الحياة.
استراح الخليل إلى عود الشاب إلى فلسفته في الإيمان أن صرفته عن الراعية وصرفت عنه الجميلات جميعًا، ولم يعبأ الأشيب بهذه الفلسفة أن كان في شغل بأحاديث حلوة تافهة مع السيدات والسادة وبالمتاع أعمق المتاع بجمال فاتنة سميراميس زادها لباس الراهبة براعة وسحرًا، وأعان على حلو متاعه أن انصرف صاحب السيدات والسادة إلى شرابه، فأنساه الغيرة وأنساه الافتتان بغير الشراب، ولما رأت الفاتنة من صاحبها هذا الانصراف، وألفت في حديث الأشيب الشهي ما ملق زينتها وجمالها، زادت عليه عطفًا بأن زادت عليه دلًّا، ولم يصغ إلى حديث الشاب إلا نجيّ أبيس، وإذ رأى فيه تجديفًا سببه عدم التعمق في إدراك حكمة الأقدمين قال: لا تصدق يا صاحبي بما تسمع عن كل هذا التطور في تصوير الإيمان، ولا تحسب أن الناس انتقلوا في بضع ألوف السنين القليلة التي يعرفها التاريخ بمقدار ما رويت. فلو أنك عدت إلى فلسفة الأقدمين وقرنتها إلى فلسفة اليوم لرأيت مذاهب الإيمان والشك والإلحاد يعرفها حكماء الفراعنة والإغريق كما يعرفها مفكرو اليوم وفلاسفته. ثم إنك لو استعرضت عقائد السواد اليوم لرأيت فيها أكثر ممَّا تسمعه في أساطير الأقدمين وهمًا وخيالًا، وبين هذه المذاهب الفلسفية والأوهام المحسنة للسواد في حياته كانت الحقيقة وما تزال، وإن كانت لا تسلم نفسها إلا لمن أخلص في البحث عنها حبًّا فيها وحرصًا على طمأنينة نفسه إليها، وأنت إذا رجعت إلى رأي حكماء الأقدمين من الفراعنة والآشوريين والإغريق والرومانيين رأيتهم جميعًا يقولون إن الحقيقة المجردة وحدها يجب أن تكون غاية حياة الحكيم، وكثيرون من المخلصين دلهم إلهامهم على هذه الحقيقة، فأذاعوها في الناس منذ تلك العصور البعيدة، ثم لم تغير مباحث العلم ممَّا أذاعوا كثيرًا، وأحسب أن الناس ما داموا أناسًا وما دامت أدواتهم في البحث هي حواسهم، فلن تتغير الحقيقة العليا أمامهم وإن اتَّسَعَ ميدانها، وإن عرفوا من أسرارها ما كان معجزًا لهم.
كان أهل القصر الفرعوني بعد نشيد إيزيس قد اطمأنوا إلى مجالسهم، وعكفوا على شرابهم، وشغلوا بالحديث الرقيق مع الراهبات، وكنت لا تسمع لحديثهم أول المجلس إلا هسيسًا لا تكاد تميزه، فلما دَبَّ ما احتسوا في أكواب اللوتس إلى خفايا نفوسهم صرت تسمع ضحكاتٍ رقيقة محتشمة، وتسمع نكات تتبادل بين مائدة ومائدة، وأدَّى هذا إلى زيادة في التعارف والتفاهم، وإلى تقارب بين بعض الموائد وبعضها الآخر، وخشيت راعية هاتور أن يطول هذا، فأومأت إلى الخليل فتركنا فتبعناه بنظراتنا، فإذا به يهمس في أذن العواد، وإذا بفرقة الموسيقى تختفي وراء الستور من جديد، ولفتت هذه الحركة الحاضرين فجعل كل منهم يصلح من ملابسه ليعد نفسه للمنظر الثاني من مناظر الليلة الفرعونية، وإن كان لا يعلم ما سيكون هذا المنظر ولا ما دوره فيه إلا كما يعلم ما تُخَبِّئُ الحياة من مفاجآت، وإن كان في مفاجآت الحياة ما يفجع، على حين كان الجمع ينتظر في مفاجآت هذه الليلة ما يلذ البصر والسمع.