الشيخ حسن
انقطع الشيخ حسن عن معاشرة أهل بلده، وبعد أن كان لا يفوته أداء الفرض جماعة في مسجد القرية الساكنة المطمئنة كان الناس لا يرونه بينهم ساعات الصلاة إلا نادرًا، وارتسمت على جبينه — الذي كان نقيًّا إلا من آثار الورع والتقى — تجاعيد الهمِّ والألم، أما نظراته التي كانت مملوءة بالإيمان وتنم عن راحة الضمير وسكينة القلب، فقد انقلبت نظرات مضطربة تنعكس من خلالها هواجس تعاسة قلقة لا تدري أين تستقر. وغارت عيناه، وغاض لونه، وبدا عليه نحول عصبي نكَّره لنفسه ولكل من عرفه. مع ذلك كانت حركاته أكثر بطئًا، وكأنما أمسك الهم الذي أثقله بكل عصب من أعصابه، أو كأنما شَلَّ القلق الذي تولاه سلطان إرادته حتى قعد به عن أن يريد أو أن يعمل.
طرأ هذا الانقلاب على نفس الشيخ حسن في أولِيَّاتِ الشتاء، وطرأ عليه بعد أن كان مثال التقى والحكمة، وبعد أن كان الناس ينظرون إليه نظرهم إلى ولي من أولياء الله الصالحين؛ ذلك أنه قضى حياته بين أهل القرية مضرب المثل في كمال الخلق وصدق الإيمان وسمو النفس، وكان من أهل العلم الذين يعملون بالعلم ولا يتخذونه متجرًا، فكان يعظهم بعد كل صلاة ويعلمهم ويفقههم في دينهم، وكان سمح النفس سريعًا إلى المواساة، يشاطر الناس سَرَّاءهم وضَرَّاءهم، ويفيض عليهم من إيمانه بلسمًا لجراحات آلامهم وأحزانهم، وكان نساء القرية يجدن في سلطانه على أزواجهن ما يحميهن من عسف هؤلاء الأزواج وما يقف حائلًا دون التلاعب بأيمان الطلاق، وكان خاصة أهل القرية وعامتهم في احترامه وتبجيله سواء. بل لقد كان كثيرون من أكابر القرى وأعيان البلاد المجاورة يرون زيارته فرضًا عليهم كلما زاروا واحدًا من أعيان بلده، وكذلك كانت حياته وكان عيشه راضيين عنده مرضيين عند الله والناس.
وقد ظل متمتعًا بطمأنينة الإيمان منذ نشأته، فلم يثقله من الهم إلا ما كان منذ ست سنوات حين ماتت زوجته تاركة وحيدتها فاطمة في العاشرة من عمرها. فقد كان يوم ماتت هذه الشابة الجميلة المحبة المحبوبة أشد الناس فجيعة وأهولهم جزعًا، جمدت الدموع في عينه، ودب المشيب إلى فوديه، وتجاوبت في قلبه كل أصداء الحزن والألم، ويومئذ سارع الناس من أهل بلده ومن كل البلاد المجاورة إلى تعزيته، ومن اليسير على قلب يملؤه الإيمان أن يتعزى. فهو على شدة جزعه لوقع المصاب لم يلبث أن ذكر أن لله في كل أمر حكمة، وأن تلا قوله تعالى: وَعَسَىٰ أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ. عند ذلك قشعت حرارة الإيمان سحب الهم، وحمد الشيخ ربه إذ أسبغ عليه نعمة التقى، واستبقى له فاطمة كي يسبغ على هذه الطفلة الجميلة كل ما في نفسه من حنان وعطف وحب أبوي.
وبعد انقضاء المأتم بقيت في الدار معه أخت له تحبه وتبجله. فلما انقضى الأسبوع الأول فاتحته في أمر زواجه من جديد، وكانت على ثقة من أنها لن تحتاج إلى أي مجهود لإقناعه بضرورة الإسراع إلى القيام بواجب يفرضه عليه مركزه ومقامه بين الناس، ويدعوه إليه قلبه المشوق ولا شك إلى ابن له يخلفه ويخلده. ثم إن النساء جميعًا مؤمنات بأن ليس بين الرجال من يطيق عليهن صبرًا أو يستطيع عنهن بعدًا؛ لذلك كانت دهشة أخت الشيخ عظيمة حين بدا منه التردد والإحجام، وكانت بعد ذلك أشد دهشة حين رأته التزم عيش العزوبة قانعًا بهذه البنت التي أبقاها الله له. لكن حبها أخاها وتبجيلها له منعاها من الإمعان في الإلحاح بعد أن أمرها بالكف عن الكلام في أمر زواجه، وجعلاها تدرك ضرورة بقائها للقيام معه بشؤون داره وتربية فتاته.
وكانت فاطمة طفلة اجتمع لها تيه الوحيدة ودل الجميلة، ومع صغر سنها حين ماتت أمها بدت عليها رقة الأنوثة ودماثتها مع شيء من الأنفة في غير كبرياء، ولم يبعث بها أبوها إلى المدرسة ولا إلى الكتاب أن كان يعتقد أن المرأة إنما خلقت ربة للدار، وأن حكم الدار حكمًا صالحًا في غير حاجة إلى درس شيء غير ما تتوارثه أجيال النساء خلفًا عن سلف، كما أن القراءة والكتابة وما يتبعهما من معارف كثيرًا ما تجني على الخلق وعلى الفضيلة التي يجب أن تكون زينة المرأة وحليتها. على أن كثرة معاشرة البنت لأبيها وسماعها ما يفيض من علمه في حديثه العادي فتقا ذكاءها لكثير مما لا يجود به الحظ على غيرها من بنات أعيان الأرياف والناس الطيبين فيها، فكانت تعرف شيئًا عن المدن وعن المشايخ من أهل العلم الذين يقيمون بها، ومن الذوات الذين يزورون هؤلاء المشايخ ويؤدون لهم فرائض الإجلال والاحترام بسبب علمهم وورعهم مما لا يفتأ الشيخ حسن يقصه عليها؛ ليشعرها بماله ولها من سمو المكانة ورفيع القدر، وليدخل بذلك إلى نفسها معاني الإباء والكرامة، فتشرف أخلاقها وتعظم نفسها.
وتتابعت الأشهر والسنون، وكل سنة تمر تزيد فاطمة جمالًا وتزيد أباها تعلقًا بها، وكانت الفتاة محبة لجمالها شغوفة به أي شغف؛ لذلك جعلت من مرآة خلفتها أمها خير صدق لها. فكانت لا تمل التحديق إليها بصفحة هذا الجبين النقي المصقول، فوق حواجب نونية واسعة، قوست على عيون دعجاء مملوء بريقهما الندى حياة وأحلامًا، وبأنف دقيق يستوي والجبين حين انحداره منه ثم يرتفع قليلًا ليرتد عن وجاري منخرين اتسعا لشميم كل ما في الحياة مما يحملهما إليه الحسن والهوى، وليفصل بين خدين ممتلئين في استدارة جميلة، تعلوهما حمرة تنطق بما في الشباب من صحة ورغبة، ثم تذوب في سمرة قمحية جذابة، وكان أشد إعجاب فاطمة بهذا الفم الذي تراه في المرآة كأنه وردة لم تبرز من كمها الأخضر إلا بمقدار ما تنبعث القبلة من بين هذه الشفاه، فتبتسم له مسرورة به راضية عنه، فتنم ابتسامتها عن أسنان فلج ناصعة البياض، وعن ثغر تجري مع سلافة ريقه كل ما توحيه سنو فاطمة من أحلام وآمال ورغبات.
على هذه الصورة كانت فاطمة ترى وجه صاحبتها المطل من خلال المرآة المحبوبة، فتزداد به شغفًا وإعجابًا. أما قوامها فكان لدنا غضًّا كأنه قوام ناعمة نؤوم الضحى. ارتفع ثوبها فوق صدر ناهد في غير إغراق، وأخذ بتلابيب خصر ريان في غير بطنة، وكانت ساقاها وقدماها كمال هذا الجمال الشاب المتطلع للحياة بنظرات الأمل الجاهل كل ما في الحياة من غدر ومن ألم.
وكان أبوها ضنينًا بها على الحياة ورغائبها والشباب وأحلامه، فقل أن كان يسمح لها بمغادرة الدار إلا تحت جنح الظلام وفي ستر الليل.
لكنه كان يعلم من أخلاق أخته وجدتها ما جعله يتسامح في ذهاب فاطمة من طريق سطوح الدار إلى منزل أعمام لها وأخوال هم أكابر أهل البلد والقائمون فيها بالعمدية والمأذونية، وكان يسره أحيانًا أن يعرف منها أسرار أقاربه ودخائلهم مما قد لا يتاح له الوقوف عليه وهو في عزوبته وفي تقاه.
وكان لها مع بعض أقاربها في البيت الكبير صداقة نشأت منذ الصغر، وخشي أبوها عواقب هذه الصداقة، فأسر إلى أخته أن تحرم عليها ملاقاة أحد من الشبان، وكأن ما كان من فرط حذر عمة فاطمة قد نبه فيها لأول ما كملت لها حياة المرأة معاني نسوية ما كان لتتنبه بهذه السرعة.
وثار وجود الفتاة ثورة لم يفكر عقلها في كبحها؛ إذ كانت ثورة الجمال المهان. فكانت لا تأبى تحيات أكابر أقاربها ممن سمح لها بالجلوس إليهم والتحدث معهم، كما كانت لا تضن بابتسامة عذبة على ذوي الود منهم، وسحر بجمالها غير واحد كان يجد فيه قدس إعجاب وعبادة، وكانت ثورة الفتاة تزداد كلما ازداد أولئك المسحورون تمليقًا لها وتدليلًا، ولكل ثورة نفسية لا تجد من سلطان العقل ما يكبح جماحها انفجار لا وسيلة لمقاومته إلا إذا استطعت مقاومة انفجار المرجل الثائر جوفه ببخار ما تفتأ النار تزيده ثورانًا. لذلك لم تطل مقاومتها ابن عم لأبيها، له ما لابن عمه من مظاهر التقى، وللناس به من الثقة أن كانوا يأمنونه على أموالهم وأعراضهم.
ومرت أسابيع بدأ فيها على صحة الفتاة من التغير ما أدخل الريبة إلى نفس الشيخ حسن، فحاول بادئ الأمر أن يقنع نفسه بأن ما بابنته من علة لا صلة له بعفافها. لكن للنساء في القرى ألسنًا طوالًا، وما هي إلا أيام حتى كان هذا الحديث موضع همس أهل القرية رجالًا ونساء، والهمس إذا عم صار حسيسًا، وصار له صوت وكيان، وأحس الأب البائس هذا الصوت، بل رآه رأي العين في نظرات كانت توجه له وفي بعضها من الإشفاق عليه وعلى ورعه وتقاه ما هو أشد قسوة من نظرات الحقد والكراهية؛ لذلك انقطع عن معاشرة الناس وعن الذهاب إلى المسجد، وارتسمت على جبينه تجاعيد الهم والألم، واضطربت نظراته، وغارت عيناه وغاض لونه، وضعفت حركته، فكأنما شل الهم أعصابه وأخمد سلطان حركته، حتى قعد به عن أن يريد أو أن يعمل.
وكان أول ما قام بنفس الشيخ حسن، حين هزم اليقين منها كل هواجس الشك فرسم أمامه صورة ابنته عارية، وأراه رأي العين كل عرق منها وكل نسيج من أنسجة بشرتها القمحية المتوردة تجري فيه لذائذ الإثم والعار، أن يذهب إليها ويقتحم الباب عليها ويقتلها ويدفن معها عارها وإثمها، ولم يك ذلك منه عن روية أو عن تفكير. بل إن سلطان الوسط، وفطرة الجماعة التي يعيش بينها وقد تكونت على الزمان من عقائد وعادات توارثتها أجيال بعد أجيال، هما اللذان دفعاه إلى ما أراد القيام به؛ لذلك لم يكن في حاجة إلى وقت يتدبر فيه أمره أو يقدر فيه نتائج فعلته. بل غلا الدم في عروقه، وثار ثائر نفسه، وملكته فطرة القضاء على هذه الأثيمة المجرمة، وتم ذلك كله في أقل من لمح البصر، وهمَّ بالتنفيذ، لكنه لم يلبث أن بلغ باب غرفته حتى أمسكت به قوة عاقت حركته، تلك عاطفة الأبوة التي جاش بها قلبه وهزت أعماق وجوده. أتراه يقتل ابنته الوحيدة التي وقف عليها حياته، ووقف على سعادتها وجوده؟ ابنته الوحيدة الباقية ذِكرًا لزوجته المحبوبة ولأيام سعادته وهناءته؟ ولو قتلَها أتراه يطهر من إثمها ومن عارها؟ وهل ترى الناس ينقطعون عن أن يوجهوا إليه نظرات الإشفاق القاتل والحقد البغيض؟
وقف عند الباب برهة زلزلت فيها عاطفة الأبوة فطرة الجماعة، ثم عاد إلي مخدعه، وارتمى إلى جانب وسادة كان يتخذها متكأً بعد عوده من الصلاة وحين تسبيحه، وانحط مهدود القوى عاجزًا عن التفكير وعن الإرادة لا يرى شيئًا مما أمامه، ولا يدرك الوقت ومروره، ولا الأشباح التي تبدو من خلال نافذته، وظلَّ في ذهوله حتى بدأت الشمس تنحدر نحو الغروب، ثم دخلت عليه أخته تسأله: ألا تذهب إلى المسجد لصلاة فرضي المغرب والعشاء؟ وكأنما أزعجه صوتها من حلمه الأليم، فما يدري أيهما أشد لنفسه وخزًا: أهذا الحلم المبهم الذي نهكه، والذي نسى فيه الحياة ونسى الألم، أم هذا الصوت الذي نبهه إلى الحياة وآلامها، وأعاد إلى نفسه ذكر أخته، وذكر ابنته، وذكر عاره الذي لا يمحى!
وارتدى الشيخ جبته ولبس عباءته وعمامته ومركوبه، وخرج قاصدًا المسجد. لكنه ما لبث حين اقترب منه أن شعر كأن شيئًا يصده عنه. فقد خُيل إليه أنه إذا تخطى بابه فسيحدجه من فيه جميعًا بنظرات الإشفاق أو الازدراء أو الحقد، وستبدو هذه المعاني في حدق تلك العيون المتجهة نحوه واضحة ناطقة تحترم نياط قلبه، وتنفذ إلى أعماق نفسه. فكر راجعًا كأنما يريد العود لداره. لكنه عرج بدافع من وجدانه لا شعور له به، ولا حكم له عليه عند أول منعطف يسير به بين المزارع، وهل في الدار إلا الإثم والعار؟ وهل الدار أقل إيلامًا له من نظرات المصلين؟ وحملته قدماه إلى شاطئ غدير قامت حوله أشجار كسا المغيب أوراقها الخضر ثوبًا قائمًا لا يخلو من بهجة، فانعطف والشاطئ حتى بلغ مصلى بعيدًا عن السكة العامرة بالناس والدواب، وهنالك ألقى بنفسه فوق الحلفاء المفروشة بها أرض المصلى، وعاد إلى مثل ما كان فيه في الدار من ذهول.
وظل في ذهوله، حتى إذا اقترب موعد صلاة العشاء تنبه إلى فرض ربه، وليس من كان مثله في ملك نفسه بل هو في ملك دينه وإيمانه، وهل أصابه إلا ما كتب الله له! وهل كان ما حل به إلا من عند الله، ولله الشكر والحمد على السراء والضراء! فقام فتوضأ وصلى المغرب ثم صلى العشاء، ثم رفع أكف الضراعة إلى الله أن يهديه سواء السبيل.
عاد الرجل إلى داره بعد ذلك يحميه ستار الظلام من أعين الناس ونظراتهم، وإن لم يحمه من هجمات جيوش الهموم والآلام، وذهب إلى غرفته وحاول أن ينام. لكن الهم والنوم لا يلتقيان في نفس قبل أن يذيبها الهم ويضنيها الألم. فبات يتقلب في مضجعه إلى ما قبيل الفجر، إذ أسعدته سنة ساورته أثناءها فظائع الأحلام؛ لكنها كانت مع ذلك مسعدة أن جددت له بعض قواه، ومكنته من القيام بعدها مبكرًا؛ ليؤدي الله فرض الصبح، ويستغفر من عظيم ذنبه.
وتعاقبت الأيام بعد ذلك، والرجل يزداد كل يوم نحولًا، وأعصابه تزداد ضعفًا، وقل أن كان يفكر، بل كانت نفسه ميدانًا لحرب مرعبة قائمة بين فطرة الجماعة وعاطفة الأبوة. فطرة الجماعة تناديه أن لا سبيل للخلاص من العار إلا بالخلاص من ابنته، وعاطفة الأبوة تحول دون ارتفاعه ليطهر بالدم المراق دنس العار ورجسه.
وفي الأوقات القليلة التي كان يفكر فيها كانت عاطفة الأبوة تتغلب عنده على فطرة الجماعة، وكانت تعاوده هزات حنان وإشفاق على نفسه، وكان لا يرى جرمًا في التحدث إلى بارئه يسأله ماذا جنى لتحل به نقمة الله، ولتفجعه فيما هو أعز من السعادة ومن الحياة ومن الشرف؟! في عرض ابنته الوحيدة التي كان يرجوها ملك طهر وعفاف، فأبى القدر القاسي إلا أن تكون شيطان رجس وفسوق!!
وجعل المسكين يفتش في ماضي حياته عما اجترح من إثم ومعصية؛ إذ من المحال أن يقضي عليه أعدل الحاكمين بغيًا بتلك النكبة النكراء، ولم يزعزع من إيمانه أن كان يرى ماضيه طاهرًا نقيًّا، بل كان أكبر ظنه أن نفسه الأمارة بالسوء دفعته يومًا إلى كبيرة لم يفطن لها أن زين له الشيطان سوء عمله وجعله يراه خيرًا، ولم يدر بخلده لحظة أن رحى القدر الطحون تدور فتخطف الأطفال الأبرياء من أحضان أمهاتهم وما جنوا إثمًا، وترمل نساء من أزواج كانوا ملائكة حب ورحمة، وتيتم أبناء من آباء وأمهات كانوا مصدر بر وعطف وحنان لا يفنى، وهي في دورتها وفي طحنها هذه الذرات الإنسانية التافهة في حياة الوجود العظيم ليست أكثر عناية بها منها بحجر أو بنبات أو بحشرة كالنملة أو كالدودة شأنًا، وكيف يدور ذلك بخلده وهو يقيس عدالة السماء التي يؤمن بها بعدالة الأرض التي يعيش عليها، ويتوهم أن عدالة السماء تخضع لما تخضع له عدالة الأرض من عقائد وعادات، ومن أوهام وترهات، ومن أباطيل وخرافات.
على أن هذه الأوقات القليلة التي كان يفكر فيها، والتي كانت تُغلِّب عاطفة الأبوة على فطرة الجماعة في نفسه، لم توجه فكره لحظة نحو ابنته وما قد يكون لها من عذر في إتيان ما أتت. بل صارت أبوته وصار إشفاقه سببًا في عطفه على نفسه ورثائه لحاله. فإذا تخيل فاطمة ارتسمت أمامه صورتها ساعة ثورة معاني الخصب والتخليد في جسمها الشاب البديع. هنالك يغيض تفكيره، وتتوارى عاطفته، وتلبسه عقائد الجماعة فتملأ وجوده، وتتحكم فيه، وتجعل منه شخصًا مفترسًا يريد أن ينقضَّ على هذا الإثم الذي خرجت به ابنته على شرائع الجماعة ونظمها، والذي يوشك أن يثمر نغلًا لا تعرف الجمعية له أبًا، ولا تطبق عليه قوانين الحضانة والنفقة والميراث. ثم يزيد في حيوانيته وفي افتراسه هذه المئات بل الألوف من العيون التي امتلأ بها الفضاء حوله، والتي تنظر إليه نظرها إلى أبي فاجرة لطمت وجه الطهر والكرامة، وأحلت الشهوات الدنيئة منها محل العفاف والشرف.
مرت الأيام والأسابيع والشيخ يزداد نحولًا، وأعصابه ضعفًا وفكره ذهولًا، وقد جالت بنفسه مرات فكرة الانتحار فرارًا من هذا العار الذي لحقه، ولكي لا يقتل ابنته فيأثم في حق بارئه بأن يقتل نفسًا حرم الله قتلها إلا بالحق لكن هذه الفكرة انهزمت كما انهزم غيرها من الأفكار، وكان الرجل كلما زاده الهم نحولًا صار أضعف تفكيرًا، وأكثر خضوعًا لفطرة الجماعة، وامتثالًا لها في خلايا ذهنه وفي شعاب قلبه وفي ثنايا نفسه ودخائل فؤاده. عند ذلك بدأت هذه الإرادة التي شلها التردد بين الفطرة والعاطفة تتحرك بدافع الانفعال وحده، كما تتحرك إرادة السبع والنمر وكل حيوان مفترس، وبدأت شهوات الرجل تنتبه للطعام وللشراب تقوي فيها هذه الحيوانية التي أخضعت كل قوى الإنسان وحسه وشعوره، وتحكمت فيه فكرة ثابتة كان يؤمن بها ويخضع لها، تلك أن لا سبيل لمحو العار إلا بمحو مصدره، وخلقت هذه الفكرة الثابتة لنفسها منطقًا، وسلحت الرجل بكل وسائل تنفيذها. فهذه البنت الفاجرة لا يمكن أن تكون ابنته وهو التقي الورع القوي الإيمان بالله البعيد عن مواتاة الرذيلة والنقص، ومن يدري! فلعل أمها خانته في غفلة منه، فكانت الأثيمة الفاجرة ثمرة الخيانة والإثم. بل لا شك عنده في هذه الخيانة التي أورثتها الأم ابنتها؛ فما كان الله ليقتص منها فتموت شابة في قوتها وفي نضرتها لولا أن ارتكبت معه معصية في حق الله. لكن البنت تنسب إليه، وقد أسبغ عليها من نعمة العيش ما كفرت به حين أسلمت نفسها لهذا الإثم فكان من كفرها ما جعل الناس ينظرون إليه هذه النظرات القاتلة.
وهب البنت ابنته وأمها كانت طاهرة نقية، فذلك مما يزيد في جريمة فاطمة ولا يخف منها. هي زانية فنصيبها القتل جزاء وفاقًا، وإذا كانت القوانين التي سنها الناس غير شرع الله تبيح لهم التمرغ في حمأة الشهوات وهم من القصاص بمنجاة، فما كان لمؤمن بالله وشريعته أن يدع الآثام التي حرَّم الله أن ترتكب وهو عنها لاهٍ ولها مطمئن. أو لم يقل الرسول — عليه السلام —: «من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطبع فبقلبه، وهذا أضعف الإيمان»، وهذه البنت قد أصبحت منكرًا يراه الشيخ تحت سقفه ويحسه في أعماق نفسه، فوجب أن يزيله بيده، ويومئذ يكون قد أدى لله وللفضيلة وللأبوة حقًّا مقدسًا، ويومئذ ينظر إلى هؤلاء الناس الذين يزدرونه اليوم فيرد إليهم ازراءهم، ثم هم يكونون بورعه وتقواه أشد إيمانًا.
وشحذت فكرته الثابتة عزمه، فلم يبقَ إلا أن ينفذه فيزيل هذا المنكر، ويرضي بذلك إيمانه الثابت، ويرضي فطرة الجماعة التي تحكمت فيه، وسواء لديه بعد ذلك ما يكون من حكم شرائع الناس عليه، ولم يرضَ خياله المفترس إلا أن يذبح ابنته ذبحًا، ويشوه وجه البغي تشويهًا، ويقطع أوصالها إربًا إربًا، فلا يبقى بعد ذلك عالقًا بنفسه من إثمها ولا من عارها باقية، وانتظر الشيخ، حتى إذا كان يوم السوق ذهب بنفسه إلى أحد باعة السكاكين، فابتاع سكينًا مرهف الحد لامع النصل متين القبضة وحمله إلى داره، وجلس بقية يومه ينظر إليه ويصور لنفسه الدم يقطر منه، فيبتسم لهذه الصورة، وتبرق عيناه بريقًا شديدًا، ثم يعتريه شيء كأنه المس أو الذهول، فإذا عاد إلى نفسه استعاد منظر الجريمة التي قُدر عليه أن يرتكب، كما قدر على ابنته من قبل أن تخضع لسلطان الهوى، فاغتبط بإثمه اغتباطها يوم سقطتها بإثمها، وشعر بلذة تملأ حواسه حتى لكأن منظر الدم ورائحته وطعمه وصوت تفجر القلب به كان يملأ عينه وأنفه وفمه وأذنه بما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر!
وأرخى الليل سدوله، وسكن كل من في القرية إلى أهله، وذهبت فاطمة إلى مضجعها، وبها من علة الحمل وسقم الهم؛ لما كانت تسمع من عمتها من تقريع وتأنيب ما ذهب بحمرة خدها، وإن لم يذهب بجمالها، ولا بابتسامة خالدة بديعة كانت تطوق ثغرها العذب الساحر، وفيما هي تحتمي بالنوم من علتها وهمها قام أبوها من غرفته وبيده ذلك النصل المرهف، وسار إلى مضجعها بخطوات ثابتة. حتى إذا كان عندها ونظر إلى وجهها شعر كأن قلبه يريد أن يضطرب بنبأة من حنان، فرفع يدًا لم تَخْلُ رغم ثبات جنانه من بعض الرعشة، ثم أغمد النصل بكل قوته في قلب الفتاة التي فتحت عينها تحت أثر الطعنة، فرأت أباها تلمع عيناه بالشرر، ويرتجف جسمه، وتتمتم شفتاه في صوت خفي ولكن بحرارة وقوة: الحمد لله على قضائه!
وأرادت أن تتنصل أو تدافع عن نفسها، لكنه وضع يده اليسرى على فمها، واستل النصل من القلب فانفجر الدم حارًّا قويًّا كله الشباب والحياة، وأحس الرجل أن رشاشًا منه يصيب وجهه ويده فزاده إقدامًا وافتراسًا، وبيد ثابتة ذهبت عنها كل رعشة وزايلها كل خوف حزَّ الرجل عنق المسكينة التي حاولت أن تتخلص بكل ما فيها من قوة اليأس. لكن أباها كان أشد منها يأسًا، وبعد ما انفصل الرأس عن الجسم لذَّ لهذا المخلوق المفترس أن يشوه ذلك الرأس وذلك الجسم، وما يزال دمهما حارًّا تتفجر به شرايين تلك الضحية التي أرداها الجمال والهوى.
وخرج الرجل بعد جريمته مؤمنًا بأنه أدى فرضًا واجبًا عليه أداؤه؛ لذلك ظل هادئ النفس مطمئنًا. فلما سُئل أمام القضاء لم يتردد في الاعتراف بأنه قتل، ونال من إشفاق القضاء عليه بعد الوقوف على أمره أن أعفاه وبرأه.
ولم يطل به المقام بعد ذلك في قريته. فقد بدأت بعد أشهر من عودته تنتابه أطوار غريبة. كان ينقطع إلى خلوة في بعض المزارع البعيدة أحيانًا، ثم يعود إلى معاشرة الناس أخرى، فيراه الناس ذاهلًا تارة، هائمًا تارة، وقد ازداد أكثرهم إيمانًا بورعه وبتقواه بعد الذي رأوه عليه من هذه الأعراض، وآمنوا به وليًّا صالحًا، لكن مدة ولايته لم تطل بعد ما اقترن هياجه بالاعتداء على الناس؛ فقد نُقل إلى مستشفى المجاذيب وهو لا يزال إلى اليوم فيه، وإنك لترثى لحاله حين تراه في ساعة سكونه يذرف الدمع سخينًا على ابنته التي قتل، وزوجته التي اتهم، ويضرع إلى الله أن يبعث إلى قلب رجل من الحنان عليه، والبرِّ به، فيورده حتفه، ويضع حدًّا لآلامه …