ثقافة الأديب
هل الأدب العربي قديمه وحديثه يكفي وحده لتكوين الأديب؟ هذا سؤال طرح، وكان موضع بحث ومناظرة، ويجب قبل الجواب عليه أن نطرح سؤالًا آخر وأن نجيب عليه: فما الأدب ومن الأديب؟ وإذا نحن وفقنا للإجابة عن هذا السؤال، واتفق رأينا عليه لم يبق لخلاف ولا لمناظرة محل.
وعندي أن الأدب فن جميل، غايته تبليغ الناس رسالة ما في الحياة والوجود من حقٍّ وجميل بوساطة الكلام، والأديب هو الذي يؤدي هذه الرسالة. فكل ما ينتجه فنُّ الأدب الصحيح في أية لغة من اللغات لا غاية له غير هذه الغاية، وكل أديب يكتب في أي باب من الأبواب إنما يريد بلوغها كلها أو بلوغ جانب منها، والأدب العربي لا يخرج عن أدب سائر اللغات في هذا التعريف.
ما هي وسائل عرفان ما في الحياة من حق وجميل؟ ما نحسب هذا محلًّا لإثارة أي خلاف. فوسائل هذا العرفان: العلم والفلسفة. العلم هو الوسيلة الأولى والأساسية والمستغنية بذاتها عن غيرها، والفلسفة هي الوسيلة الثانية المعتمدة على العلم لبناء مذاهب إدراك الحياة والوجود، وما فيهما من حق وجميل، وكذلك كانت الفلسفة وكان العلم في كل العصور، وكذلك كان العلم وكانت الفلسفة عند العرب كما هي عند سائر الأمم.
الأدب من الفلسفة ومن العلم كالزهرة الجميلة، وكالثمرة الناضجة، وكالخضرة النضرة من الشجرة الضخمة شجرة الفلسفة، ومن الجذور التي نبتت عليها هذه الشجرة والتي هي بمثابة العلم من الفلسفة. فلكي تكون حديقة الأدب جميلة، ولكي يكشف الأديب للناس عما في الحياة من حقٍّ وجميل، وليؤدي الرسالة العظيمة الملقاة على أدباء العصور جميعًا، يجب أن يتغذى ما استطاع من وِرد الفلسفة ومن وِرد العلم، وهو كلما كان أكثر غذاء من هذين الوردين كان أقدر على أداء الرسالة، وكان أديبًا حقًّا.
ولهذا كان العرب يقولون: إن الأدب هو الأخذ من كل شيء بطرف، وكانوا إذ يذكرون العلوم الواجب على الأديب الوقوف عليها لا يقتصرون على ذكر علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة، بل كانوا يضيفون إليها علومًا كثيرة من سير العرب وأخبارهم، أي من التاريخ، ومن مواقع بلاد العرب، أي من الجغرافيا، وهلم جرًّا.
فن هذه غايته وذاك مداه يتسع لصور لا تتسع لها الفلسفة ولا يتسع لها العلم بمعناه الضيق. ففي الحياة وفي الوجود من صور الحق وألوان الجمال الشيء الكثير، وقلَّ أن تيسر الأجيال للإنسانية الرسول القوي الصادق الذي يستطيع خلال السنوات القصيرة التي يحياها الإنسان، وإن امتد به العمر — أن يبلغ هذه الإنسانية رسالة الحق والجمال كاملة؛ لذلك كان الأدباء الخليقون حقًّا بهذا الاسم هي الملهمون الفحول الذين يطبع كل منهم عصرًا في تاريخ الإنسانية، ويبقى فلذة خالدة برغم موت صاحبها من هذا التراث العظيم الذي تتوارثه الإنساينة جيلًا بعد جيل. هؤلاء الأدباء إنما يبلغون الإنسانية رحيق الفلسفة والعلم جميعًا على نحو ما تمثلت نفوسهم الفلسفة والعلم، وكلما انحدرت بعد ذلك لتطلع على ما خلف الأدباء العظام، فالأدباء الكبار، فالأدباء، فالمتأدبون، رأيت ضياء الحق والجمال يخبو رويدًا رويدًا حتى يصل إلى الأديب أو المتأدب الزائف الذي لا حياة ولا نور فيما يكتب؛ إذ ليس فيما يكتب حق ولا جميل، وإنما هي ألفاظ مرصوفة لا يقصد بها إلى معنى خاص شأنها شأن تلك «البذلة» التي توضع في «فترينة» التاجر على مثال خشبي سُوّي وجهه بالألوان، لا يقصد بهذه البذلة إلى الاستعانة على الحياة، ولكن يقصد منها إلى عرضها بضاعة في انتظار أن يتناولها من يستطيع أن يستعين بها على الحياة، وأن يبعث إليها شيئًا من هذه الحياة.
كتب فيشته الفيلسوف الألماني المعروف عن طبيعة الكاتب ورسالته فقال: «إنه إنما بعث ليقف على ما يستتر تحت ظواهر هذا الوجود من حقيقة؛ ليرى هذه الحقيقة بنفسه، ثم ليرينا إياها، وفي كل جيل جديد تتجلى هذه الحقيقة العليا في لهجةٍ من لهجات الكلام جديدة، ورسالة الكاتب هي الكشف للناس عن الحقيقة بلهجة العصر الذي يُبعث فيه.» ويشتد فيشته حين يقصد إلى التمييز بين الكاتب الأصيل، أو الكاتب البطل، كما يسميه كارليل، وبين آلاف الكتاب الكاذبين غير الأبطال: «فمن لم يكن يحيا لكشف الحقيقة كاملة فليستمتع ما طاب له المتاع بنعيم الدنيا، لكنه لن يكون لذلك كاتبًا، وإنما هو أفّاك مزور لا قدر ولا مقام له».
والحقيقة التي يذكرها فيشته، والحق والجمال اللذان نراهما غاية الأدب بوصفه فنًّا جميلًا، ينكشف للناس من صورهما في كل جيل ما لم يكن معروفًا في الجيل الذي سبقه، أو ما يختلف عما كان معروفًا في الجيل الذي سبقه، وعلى ذلك كان الخلاف في صور أدب الأجيال المختلفة في اللغة الواحدة، وصور أدب الجيل الواحد في اللغات المختلفة؛ ولذلك كان لا مفر لمن يريد أن يكون أديبًا حقًّا، أديبًا أصيلًا غير زائف، من أن يقف على آداب لغته هو وقوفًا صحيحًا، وأن يحيط ما استطاع بعلوم عصره وفلسفته وآدابه في اللغات المختلفة، وكلما كان أكثر إحاطة كان أدنى إلى بلوغ ما في الحياة والوجود من حق وجميل، وإلى تبليغه للناس في صورة أقرب إلى الكمال ممن أوتي مثل مواهبه ولم يؤت مثل علمه.
هذه كلها أوليات ما أحسب لخلاف فيها محلًا، وهي تنطبق على الأدب العربي في عصوره المختلفة، وتدل على أن أدب أية لغةٍ من اللغات قديمه وحديثه، لا يكفي وحده لثقافة الأدب، وعلى أن ذلك أصدق في عصرنا الحاضر الذي قربت فيه المواصلات بين أمم الأرض منه في العصور السابقة، وأنه أصدق بالتطبيق على الأدب العربي قديمه وحديثه منه على آداب الأمم التي لم يصبها ما أصاب الأمم العربية من تحكم فيها واستبداد بها وقفا سير العلم والفلسفة العربية سيرًا كان يجعلنا من علم الأمم الأخرى وفلسفتها في موقف تعاون وتنافس، لا في موقف تعلم ومحاكاة.
والآن فلنطبق هذه الأوليات على الأدب العربي نفسه في مختلف عصوره: فهل كان الأدب العربي في عصوره الأولى مستقلًّا عن الآداب المجاورة له والمتنافسة معه، وأجلها خطرًا أدب الفرس والرومان واليونان؟
يضيق المقام إذا أردنا أن نستقصي ما أفاد العرب، وبخاصة منذ ظهور الإسلام، من علوم وآداب كانت للبلاد التي اقتحموها فاعتنق أهل الإسلام. على أنه لا يستطيع أحد أن ينكر أنهم في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية أيام الأمويين والعباسيين كانوا مجدين أعظم الجد في نقل علوم الفرس واليونان والرومان وآدابهم من تلك اللغات إلى اللغة العربية، وأن أكبر الكتاب كابن المقفع والجاحظ كانوا متأثرين بهذه الآداب تأثرًا ظاهرًا، وكانوا يعرفون هذه اللغات أو بعضها معرفة صحيحة. بل إن ابن المقفع نفسه كان فارسيًّا ككثير من فحول الأدب العربي أمثال الهمذاني والزمخشري، والجاحظ مشكوك في عربيته وإن تك معرفته للفارسية ليست محل ريبة لما جاء عنها في كتابه البيان والتبيين، وكثير من كتب الفلسفة اليونانية نُقل في عصر العباسيين إلى اللغة العربية، وتأثر علماء العرب وأدباؤهم وكتابهم بهذه الفسلفة تأثرًا واضحًا، ولو أنك رجعت إلى المذاهب المختلفة في التصوف والاعتزال وغيرها لرأيت كثيرًا منها يرجع إلى مذاهب كانت معروفة من قبل في الفرس، وإلى مذاهب كانت معروفة من قبل في اليونان، وكان من أثر هذا النقل للكتب أن حدثت في الأدب العربي شعرًا ونثرًا، صور لم تكن معروفة من قبل، وإن اتسع أفق هذا الأدب العربي سعة لا عهد للمتقدمين بها. لقد تناول التطور، الذي نشأ عن اختلاط العرب بهذه الأمم وبأمم شمال إفريقية وبالأندلس وصقلية أساليب النثر والشعر، فاستحدثت الموشحات الأندلسية واستحدث في النثر شيء كثير، وزادت بذلك ثروة اللغة العربية في ألفاظها وفي علومها وفي فلسفتها وفي أدبها زيادة هي في تاريخ هذه اللغة فخر نفاخر به نحن حتى اليوم.
حدث بعد هذه النهضة الكبرى أن تغلب الترك على غيرهم من الأمم الإسلامية، وأن تقلص ظل الحضارة الإسلامية عن الأندلس، وأن استقل الفرس، وأن خمدت هذه الجذوة المقدسة من ضياء الحق والجمال مما كان ينير آفاق العالم الإسلامي في شؤون اللغة العربية، وفي هذه القرون الخمسة الأخيرة وقف اتصال اللغة العربية والعلوم والفلسفة والآداب العربية بغيرها من اللغات؛ لأن حياة الأمم العربية وخضوعها للترك قضى بوقوف هذا الاتصال، وفي هذه القرون الخمسة الأخيرة كانت نهضة الغرب في العلم والفلسفة والأدب، وكان أن استحدث الغربيون من ذلك الشيء الكثير، وأدخلوا على آدابهم من ألوانه ما لم يتطلع أهل هذه الأمم العربية الخاضعة للنير التركي إلى الاتصال به. فتدهور التفكير العربي، وصار الأدب العربي القديم هو وحده الأثر الخالد لهذه الحضارة الإسلامية العظيمة التي سار في ضوئها وعلى هداها عدة قرون، ولولا ما في اللغة العربية لذاتها من قوة قدّسها القرآن الكريم وزادها جلالًا وإعجازًا، ولولا ما كدست الحضارة الإسلامية من ثروة لم تنفد ولا سبيل إلى نفادها، إذن لرأيت اللغة العربية وقد أصابها ما أصاب اللغات اليونانية واللاتينية والعبرية والآشورية والهيروغليفية، ولأصبحت اليوم لغة تاريخية مستقلة عن وجود هذا العالم وحياته، لغة ندرسها للعلم بعصر من عصور التاريخ الإنساني وكفى.
لكن قوة اللغة العربية وثروة أدبها التي تكونت منذ الإسلام وعظمة الحضارة الإسلامية قاومت أحداث الدهر ودفعت عن اللغة هذا المصاب، حتى دار التاريخ دورته، وآن للغة العربية أن تنهض نهضتها من جديد، وكان طبيعيًّا أن تبدأ النهضة بنشر اللغة، وإحياء آدابها القديمة، وتعليم الناس أصول التعبير بها؛ ليمكن بعد ذلك أن تنبعث حياتها قوية، وأن يكون فن الأدب العربي بحيث يحيط بالحياة والوجود وما فيها من حق وجمال، حتى تبعث الأقدار الأديب العربي الذي يؤدي لأهل كل عصر بلهجة العصر رسالة الأدب، ويرجع الفضل في هذه الخطوة الأولى لشيوخ الأزهر بمعونة من أرسلهم المغفور له محمد علي باشا إلى أوربا؛ للاتصال بموارد العلم فيها، ولرجال مدرسة دار العلوم التي أنشأها علي باشا مبارك منذ أكثر من نصف قرن؛ للقيام ببعث اللغة العربية بعثًا جديدًا.
على أن اللغة ما كادت تبعث وما كاد الكاتبون بها يشعرون بالحاجة إلى انتشار فنون آدابها، حتى رأوا إلى جانب الفنون القديمة فنونًا في الأدب جديدة، أحدثها بعث الغرب في القرون الثلاثة الأخيرة لم تكن معروفة عند العرب ولا غير العرب من قبل، ورأوا أن هذه الفنون الجديدة من الأدب تستند إلى فلسفة جديدة في تصويرها أيضًا، وإلى علوم اتسعت دائرتها وعظم نطاقها، وأن لا بد إذن من الاتصال بالعلم والفلسفة في آخر صورهما؛ ليكون الأدب العربي مؤديًا إلى الغاية الصحيحة لأدب أية لغة من اللغات، غاية تبليغ الإنسانية ما في الحياة والوجود من حق وجمال بلهجة العصر الذي تعيش الإنسانية فيه.
وتجلت هذه الرغبة عند المتخرجين في الأزهر وعند رجال دار العلوم بقوة لا تقل عما تجلت به عند غير هؤلاء من المشتغلين بالأدب العربي والمتصلين في الوقت نفسه بآداب اللغات الأخرى، وظهر ذلك في حرص الأولين، وهم ذوو الفضل في الخطوة الأولى من خطى بعث اللغة والآداب العربية القديمة، على الوقوف على اللغات الأوربية وتعلمها، وفي حرصهم على نقل ألفاظ هذه اللغات الغربية وآدابها إلى اللغة العربية في صورة عربية صحيحة، وأمامي من الأمثال على ذلك كثير. فأساتذة كلية الآداب في الجامعة المصرية من الذين يقومون بتدريس الآداب العربية، كلهم من ناشئة الأزهر أو دار العلوم أو القضاء الشرعي، وكلهم قد شعروا بالحاجة، بعد إتقانهم اللغة العربية، إلى دراسة لغات أخرى، ودراسة آداب أخرى، سواء منها ما تُرجم إلى العربية وما استطاعوا استيعابه بلغة غيرها، وها هم أولاء الدكتور طه حسين وزملاؤه الأساتذة: أحمد أمين ومصطفى عبد الرازق وعبد الوهاب عزام، هم جميعًا من أبناء هذه المدرسة — الأزهر — وهم اليوم جميعًا من الذين شعروا بالحاجة الماسة للاتصال بعلوم اللغات الأخرى وفلسفتها وآدابها؛ ليكوِّنوا لأنفسهم صورة صحيحة مما يحتويه الوجود من حق وجمال.
مثل آخر أضربه هو هؤلاء المشايخ الذين بدءوا يكتبون في الأدب الحديث مكتفين بمطالعاتهم في الآداب العربية، ثم إذا بهم لا يجدون منصرفًا عن دفع أنفسهم إياهم لورد آداب اللغات الأخرى. فالمرحوم السيد مصطفى لطفي المنفلوطي بدأ يكتب «النظرات» و«العبرات» متأثرًا إلى حد بما ترجم من القصص الغربي، وإن جاهد ليظل في كنف الأدب العربي القديم. لكنه ما فتئ أن اندفع إلى الاستعانة بالأدب الغربي، فاستعان بمن يعرف هذا الأدب، ويدله على ما فيه من صور الجمال، ثم إذا به ينشر على الناس كتبه «ماجدولين» و«في سبيل التاج» وغيرهما.
والأستاذ الزيات وغير الأستاذ الزيات من الكتاب الذين نهلوا أول حياتهم ورد الأدب العربي القديم خالصًا سائغًا لم يستطيعوا الاستغناء عن الوقوف على ما أحدثه العصر الأخير من الأدب، ولم يجدوا الوسيلة إلى ذلك إلا عن طريق الأدب الغربي وما استصفى من العلم والفلسفة المتحكمين في عصرنا الحاضر.
وهذا طبيعي بعد الذي كان من تقدم العلم وتطور المذاهب الفلسفية، وبعد الذي كان من إبداع صور الأدب الجديدة في الغرب، ويطول المقام إذا أردنا تتبع هذه التطورات العلمية والفلسفية والأدبية في القرن الأخير، بله القرون الثلاثة التي سبقته، ومن هذه الصور ما لم يكن له وجود فيه، ونكتفي من صور الأدب هذه بالإشارة إلى القصص والروايات المسرحية. فهذان النوعان لم يكونا معروفين بصورتهما الحاضرة عند العرب، مع أنهما اليوم يتناولان من بسط حقائق العلوم والمذاهب الفلسفية ما يجعلها في متناول القراء جميعًا، ويجعلها كذلك في صورة فنية بالغة الجمال. فهل يتسنى لنا إذا نحن اكتفينا بالأدب العربي القديم، أن نبدع في هذه الأنواع مثلما أبدع الغرب، فنقرب بذلك العلم والفلسفة وما يحويان من حق وجمال إلى نفوس قراء العربية، فنؤدي الرسالة الملقاة على عاتق كل كاتب جدير بهذا الاسم؟
وليست القصص الطويلة والروايات المسرحية هي وحدها ما أبدع مما لم يكن العرب الأقدمون يقدرونه، بل لقد أبدعت آداب اقتصادية كالآداب الاشتراكية والشيوعية، وكآداب المذهب الحر والمذهب الفردي لا سبيل إلى بسط شيء منها لقرائنا إلا إذا وقفنا على ما كتب باللغات الغربية عن المذاهب الاقتصادية من جهة وعلى آدابها من جهة أخرى، وأبدعت كذلك آداب علوم النفس والاجتماع وآداب الفنون الجميلة وغيرها مما لا نجد له مكانة في الآداب العربية القديمة، ومما لا بد لنا، إذا أردنا أن نقف إلى جانب الأمم الأخرى فيه، من الاطلاع على آداب الغرب وفلسفته وعلومه اطلاعًا واسع النطاق.
وما نحسب أحدًا إلا يشعر بالحاجة إلى هذا الاطلاع كما شعر بها أولئك الأساتذة الذين أشرنا إليهم، وكما شعر بها غيرهم. فإذا اطلع إنسان استطاع أن يؤدي رسالة الأدب على وجه صحيح، وكان لذلك أديبًا أصيلًا. أما الذين يقفون عند الاطلاع على الأدب العربي فلن يستطيعوا مجاراة هذا العصر مجاراة تمكنهم من القيام بالرسالة الكبرى الملقاة على عاتق الأديب، وسيظل أدبهم أدب ألفاظ لا تحمل في طياتها سنا المعاني السامية ولا ضياء الحق وبهجة الجمال، وسيظلون أطفالًا في الأدب. ربما يُعجِب بعض الناس زخرف قولهم، ولكن هذا الزخرف لن يعدو جماله أن يكون كجمال الدمية لا حياة فيها وإن أتقن صانعها رسم تقاطيعها.
وهذه الحاجة إلى الاطلاع التي يشعر بها كل محب للحقيقة ليس معناها الانصراف عن الأدب العربي قديمه وحديثه. فنحن في حاجة إلى التضلع من هذا الأدب؛ لأنه هو الأساس الذي نبني عليه ونريد أن نبلغ به الكمال، ولا سبيل إلى هذا الكمال إلا أن نفعل ما يفعله غيرنا من أهل الأمم السابقة اليوم في الحضارة. فإنك ترى قاموس اللغة الفرنسية أو الإنكليزية أو الإيطالية أو غير هذه من الغات يعاد النظر فيه كل عقد من السنين؛ لتحرِّي معاني الكلمات، وهل اتصل بها جديد من المخترعات أو المكتشفات أو الآداب الحديثة، وللنظر في إضافة كلمات جديدة، وكثيرون يعرفون ما دخل في اللغة وفي الأدب الفرنسيين من الألفاظ والعبارات الإنجليزية في هذا الزمن الأخير. فكلمة «جنتلمان» و«سبورت» وغيرهما قد أضيفت أخيرًا إلى القاموس الفرنسي، كما أضيف في العصور المتقدمة إلى اللغة العربية كثير من الكلمات الفارسية «كالورد» و«السلسبيل» وغيرهما، وما دام هذا في طبيعة اللغات وآدابها فلا معدى لنا عن أن نأخذ به، ونحذو حذوه إذا أردنا للغة ازديادًا في القوة، وللأدب تحقيقًا صحيحًا لرسالة الأدب.
قد يقال: إن الأدب العربي الحديث يكفي لسد هذا النقص الذي أشرت إليه بما استحدث من صور الأدب الغربي التي أبدعت في العصور الأخيرة، ولشد ما وددت أن يكون هذا صحيحًا؛ فهو لو صح لكان سببًا لفخر كثير من أصدقائي الذين أعزهم، ولكني وأصدقائي هؤلاء نشعر بأن في ذلك غرورًا لا يليق بالأديب. فما استحدث في الأدب العربي ليس إلا محاولات لسد بعض الفراغ في تلك الهوة التي تفصل عصرنا عن عصور أدب العرب الزاهر، وهي محاولات شعر أصدقائي وشعرت أنا بنقصها منذ زمان طويل. فإني لأذكر أن مطالعاتي العربية التي تناولت من كتب الأدب العربي القديم الشيء الكثير قد أقنعتني منذ عشرين سنة مضت، وكنت ما أزال طالبًا بالحقوق، بأن أدب اللفظ وحده لا يمكن أن يبلغ بالإنسان إلى أكثر من طفولة الأدب في العصر الذي نعيش فيه، فأكببت يومئذ على دراسات في الكتب الإنجليزية فتحت أمامي آفاقًا جديدة غير ما مهدت له دراساتي. فلما سافرت إلى فرنسا بعد نيل إجازة الليسانس ودرست الفرنسية أكببت على آدابها في نواحيها المختلفة، فإذا آفاق جديدة تتفتح، وإذا بي أطل على صور من الحق والجمال لم أكن أتوهمها من قبل، وكيف يمكن أن يكتب الإنسان عن الفنون الجميلة كالحفر والموسيقى والرسم وقد عفت آثار الموسيقى العربية، وقد كان العرب يُنكرون صناعة التماثيل وينكرون التصوير والرسم! فإذا هو قرأ عن الفنون الجميلة شيئًا من ألوف الكتب التي ألفت فيها استطاع أن يفهم من جمال الحياة ما لم يكن له إلى إدراكه سبيل من قبل، وكذلك الأمر في غير الفنون الجميلة من العلوم والفلسفة الحديثة جميعًا.
وإلى أن ننقل هذه العلوم وهذه الفلسفة إلى اللغة العربية، وإلى أن تكون لنا مذاهب في العلم والفلسفة والأدب تقف إلى جانب مذاهب الغرب — إلى ذلك اليوم لا يمكن أن تكفي الآداب العربية، قديمها وحديثها، لثقافة الأديب، أما في ذلك اليوم فسيشعر أدباء العربية أنفسهم، بدافع المنافسة وحب السبق في الوصول إلى الحق والجمال، أنهم لا يقلون عنا اليوم حاجة إلى الاطلاع على كل ما يظهر في عالم العلم والفلسفة والأدب من جديد.
وستزداد هذه الحاجة كلما يسرت المواصلات اتصال أمم العالم. فإن أمكن أن يتوهم الإنسان مجرد توهم، إمكان استقلال حي من الأحياء، سواء أكان هذا الحي أمة أم فردًا، عن غيره من الأحياء في شؤونه المادية أو العقلية أو النفسية، فإنَّ مجرد هذا التوهم اليوم مستحيل؛ لكثرة الاتصال بين أمم العالم بعضها والبعض الآخر، وهو سيزداد كل يوم إمعانًا في الاستحالة، وسيرى الأدباء يومئذ أن الشاعر أو الكاتب الذي يريد أن يخطو بالأدب العربي إلى مراتب الكمال الفني مضطر ولا بد إلى الاطلاع على أكثر مما اطلع عليه أدباء جيلنا الحاضر جميعًا إذا هو كان جديرًا حقًّا باسم الكاتب أو الشاعر، حريصًا حقًّا على أداء رسالة الأدب السامية بالكشف للناس من طريق اللغة عما في الحياة من حق وجمال، وبالتمهيد بذلك لبلوغ درجات الكمال.