النثر والشعر
كلما أراد الإنسان أن يعبِّر عن إحساس حقيقي رأى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنه قال شيئًا عاديًّا أقل مما كان ينتظر، ووجد أن أحسن ما في نفسه بقي فيها مختفيًا … لتصوير إحساس كامل، وتمثيل أثره في صورة مطابقة للواقع يلزم استعمال ألفاظ غير المتداولة، ألفاظ غير العتيقة البالية، يلزم اختراع ألفاظ جديدة.
هذه الأبيات من حافظ إبراهيم، وتلك الكلمة من قاسم أمين، صيحتان صريحتان بالشكوى من حال الكتابة العربية نثرًا وشعرًا، وكل الفرق بينهما أن كلمة قاسم أمين قيلت من ربع قرن أو أكثر، وإن شكوى حافظ لما تمض عليها بضع سنين، وليس مقام حافظ في الشكر بمنكر، وقاسم من المُقدِمين في تجديد الكتابة العربية، بل أولهم وأكثرهم جرأة وإقدامًا. على أن هذه الشكوى لا يقف أمرها عند حافظ أو قاسم، بل هي تجيش بنفس كل كاتب قوي الشعور دقيق الحس واسع الاطلاع، وبنفس كل شاعر سمت شاعريته عن أن تقف عند ترديد الأشعار القديمة بقوافٍ جديدة، وعند سبك الصور والأفكار والمشاعر القديمة في قوالب ربما فاقت القوالب الأولى بهجة، ولكنها ليست لذلك ذات فضل؛ لأنها في الواقع ليست إلا محاكاة وتكرارًا، ومحاكاة الإنسان للإنسان لا تحتاج إلى نبوغ وإن احتاجت إلى ذاكرة، ولا تصل إلى مقام العبقرية وإن خلبت الأنظار فجأة بلألاء بريق سرعان ما يخبو إذا تعرض للنقد الصحيح.
وإنما يقدر ملاحظة قاسم أمين أولئك الذين لم تحبسهم معارفهم وثقافتهم في حدود هذا الماضي الذي أشار إليه حافظ إبراهيم، والذين اطلعوا على مختلف صور تفكير العالم، ووقفوا على أدب الأمم المختلفة، هؤلاء يرون أن المدارك والإحساسات الإنسانية ليست جامدة، ولا يمكن أن تكون كذلك؛ لأنها خلق البيئة المحيطة بالإنسان، وقد كانت هذه البيئة في الماضي ضيقة محصورة في حدود القرية أو القطر من أقطار الأرض الذي يعيش فيه الكاتب أو الشاعر. أما وقد أصبحت الإنسانية كلها بيئة واحدة للعالم أو الكاتب، وأصبح من اليسير أن يطلع كل مثقف على آثار الفكر والشعور الإنساني في الأمم المختلفة فقد اتسعت المدارك ودقت درجات الشعور، وأصبحت ترى بين الميل لشخص ومحبته، وبين العطف على شخص والإشفاق عليه، وبين النفور والكراهية، وبين الخجل والخوف، وبين التردد والجبن … درجات متميزة في الإحساس تدركها النفس إدراكًا دقيقًا، وتعبر بعض اللغات عن كل منها تعبيرًا يحددها لك تمام التحديد. ثم ترى نفسك مطالبًا بأداء ذلك في اللغة التي تكتب بها وهي اللغة العربية، فشعر بالعجز، وترى بعد طول الجهد وكثرة الكلام أنك قلت شيئًا عاديًّا، وأن أحسن ما في نفسك بقي فيها مختفيًا. بهذا الإحساس يشعر الذين يقرءون ثمرات العلم والأدب الحديث في مختلف اللغات، سواء وقفوا عليها في كتبها الأصلية أو مترجمة إلى اللغات التي صُقلت حتى صارت تتسع لكل ألوان الفكر وصور الشعور، وأنت أكثر ما يتولاك العجب حين ترى جماعة من أكابر الكتاب الضليعين في اللغة العربية الواقفين على آداب الأمم الأخرى وهم يعالجون العثور على اللفظ العربي المقابل للفظ أجنبي يعبر عن فكرة أو إحساس فلا يجدونه، بل لا يجدون جملة مركبة تفيد بالدقة المعنى الذي يقصدون إلى تصويره.
على أن الكتاب الضليعين في العربية والواسع إطلاعهم في اللغات الأخرى، ما فتئوا إلى اليوم، ومنذ قاسم أمين وقبل عصره، يجاهدون لما أسماه قاسم: «اختراع ألفاظ جديدة» وإن كانوا قد سلكوا سبيلهم إلى هذه الغاية بإحياء ألفاظ قديمة وإلباسها أثوابًا جديدة تعبر عن الأفكار والإحساسات الجديدة، آخذين في ذلك مأخذ كل الأمم، قانعين من التجديد — بمعنى الخلق دون البعث — بالألفاظ الأجنبية التي لا رجاء في وجود مقابل لها في العربية، لا أن يكره لفظ قديم على تحمل الصورة الجديدة إكراهًا سخيفًا، ولقد عالج بعض أنصار القديم من الكتاب هذا الإكراه فأخفقوا فيه؛ لأنه منافٍ لطبائع الأشياء، فمقضيٌّ عليه بالإخفاق لا محالة.
على أن هؤلاء المجددين المجاهدين في سبيل إحياء اللغة العربية حياة صحيحة إن لم يكونوا قد وصلوا بعد إلى الكمال فهم قد قطعوا في سبيله شوطًا بعيدًا، وحسبك مقنعًا بهذا أنك لا ترى كاتبًا منهم يعارض في أسلوبه أو في تفكيره أو تعبيره عن الشعور والإحساس واحدًا من الكتاب الأقدمين، والناس إذ يتحدثون اليوم عن هؤلاء الكتَّاب لا يتحدثون عن معارضة العقاد للجاحظ، ولا طه حسين لابن المقفع، ولا مصطفى عبد الرازق لعبد الحميد الكاتب، ولا غير هؤلاء من كتاب العصر الحاضر لواحد من كتَّاب العصر القديم، وإنما يتكلمون عن أسلوب العقاد ورأيه، وأسلوب طه حسين ونظراته، وأسلوب مصطفى عبد الرازق ودقته وظرفه؛ بل إن من لا يزالون يسمون أنفسهم أنصار القديم من الكتاب، أمثال مصطفى صادق الرافعي وصادق عنبر وغيرهما، قد أثرت في أسلوبهم وفي تفكيرهم حركة التجديد هذه تأثيرًا عميقًا، حتى أصبح الجديد طبيعة نفوسهم، وأصبح ما يقتفون فيه أثر القديم ظاهرًا فيه التعمل والصناعة والتكلف، فما يكاد الواحد منهم يترك نفسه على سجيتها حين يكتب حتى تراه يعيش في هذا العصر الذي نحن فيه، يكتب بأسلوبه، ويفكر بتفكيره، ويرى ما يراه من ألوان الإدراك والحسّ المختلفة، ونحسب أنه لولا بقية من الحرص على ماضٍ امتازوا فيه على غيرهم من الكتاب حين كان تقليد الأقدمين امتياز شعرائنا في الحاضر امتيازًا يرونه مجدهم وفخرهم، إذن لرأيت الرافعي وغيره من أصحاب مذهبهم انخرطوا في سلك المجددين انخراطًا، ولعل لهم عن ذلك من العذر أن الإنسان لا يستطيع، وإن حاول، أن ينسى ماضيه أو أن ينكره.
وليس عجيبًا أن يتأثر أنصار القديم بحركة التجديد، بل العجيب ألا يكون ذلك. فالحياة دائمة التطور، والجديد هو آخر مظاهرها، وهذا وحده هو السبب في أنه جديد، فإذا انقضى عصره وأحدثت غِيَرُ الحياة جديدًا بعده أصبح هو قديمًا، وما دمت تعيش في عصر فأنت متأثر حتمًا بحياة هذا العصر، متأثر بالجديد الذي يحدث فيه. على أن كل عصر يتصل بما قبله اتصال البنوة بالأبوة والوارث بالمورث، ولن يتحلل الابن من آثار آبائه وإن هو حاول، ولن يستطيع أن يكون صورة مضبوطة منهم وإن هو حاول كذلك؛ بل إن محاولته الأخيرة لتظهره في ثوب أنصار القديم من التكلف والصناعة، كما أن محاولته الأولى — وإن نجح فيها — تظهره في ثوب من التكلف إن اختلف عن ثوب القدماء فهو ليس أقلّ منه استدعاء للسخر، ولعلك لا ترى فرقًا كبيرًا بين ما يتركه من الأثر في نفسك رجل يلبس اليوم رداء الأقدمين ويسير مسيرتهم، وآخر يبالغ في تقليد آخر طراز إنجليزي بالحديث والتحية والعبارة.
ولذلك أيضًا أخفق المجددون الذين أرادوا قطع الصلة بين حاضر اللغة وماضيها، ورجع أكثرهم إلى الدائرة التي يعمل فيها المجددون بعقل وحكمة، حتى قطعوا منها في سبيل إحياء اللغة العربية شوطًا بعيدًا. رجع أولئك إلى هذه الدائرة. كما تقدم إليها أنصار القديم خطوات واسعة، والحق أن هؤلاء المستبصرين من الكتاب قد بعثوا اللغة العربية بعثًا جعلها أداة صالحة لحياة الشعوب التي تتكلم بها، ولا حاجة إلى ضرب الأمثال؛ فكتب العلم والأدب التي أبدعوا فيها متداولة في أيدي الناس جميعًا يتلون فيها أسلس الكلام وأصحه وأدقه عبارة في نقل ما استحدثته الإنسانية من جديد صور الحياة، وكل ما كشف عنه العلم من نظريات، وليس يعرف مبلغ العناء الذي يحتمله أولئك الكتّاب ومبلغ الجهد الذي يبذلونه إلا من رآهم يعتصرون أدمغتهم وقلوبهم يريدون أن يصوروا لقارئهم المعنى الذي يدور بخاطرهم أدق التصوير، وأشد عنائهم حين يتصل المعنى بصور مختلفة من ثقافاتِ الشرق والغرب جميعًا تتسع له اللغات التي صقلت في القرون الأخيرة بل توحيه، ثم لا يجد الكاتب نطاقه المضبوط في اللغة العربية. إذ ذاك يجاهد ليبعث الألفاظ القديمة فيصبها في بوتقة التجديد؛ لتبدو في صياغتها الجديدة أكثر مما كانت بريقًا، وأشد دلالة على المعاني التي يراد أن تدل عليها من غير أن يشوبها لذلك كدورة أو اضطراب.
مع هذا الجهاد الذي اقتضته طبيعة حياة اللغة العربية في العصور الأخيرة فما يزال النثر لما يبلغ الشأو الذي نرتجيه له، ولما يصل إلى التعبير عن أفكارنا وعواطفنا وإحساسنا تعبيرًا دقيقًا، وما يزال كثير من الكتاب يعدلون عن تدوين فكرة من أجلِّ أفكارهم، أو رواية عاطفة من أدق عواطفهم وأعمقها، أو تصوير حس من أجمل إحساساتهم وأسماها؛ لأنهم يرون أنفسهم بعد طول الجهد وكثرة الكلام إنما قالوا شيئًا عاديًّا، وأن أحسن ما في نفوسهم بقي فيها مختفيًا. على أن هذا الجهاد قد طوع لهم مع ذلك أن يطرقوا من الأبواب التي اقتضتها حياة العالم في العصور الحديثة ما لم يطرقه الكتاب الأقدمون، وليس من الغلو في شيء القول بأن أكثر ما طرقوا من الأبواب لم يتعرض العرب له إلا عرضًا؛ لأن التجديد لم يقف عند الأسلوب وكفى، بل تناول طريقة البحث وألوان الحس ودرجات الشعور، فصارت شيئًا مغايرًا تمام المغايرة لما كان عند العرب، واقتضت لذلك بناء للنثر جديدًا، وقد أصبح هذا البناء شامخًا، ولكنه ما يزال في حاجة إلى التعهد والصقل والصياغة، وإلى السعة نفسها، حتى يسع كل حاجات العقل والنفس والعاطفة في أبعد مداها ومراميها وأعماقها.
•••
هل بلغ الشعر مبلغ النثر في التجديد؟ وهل نستطيع أن نقول إن جهادًا شاقًّا وجه إلى أية ناحية من نواحيه كما وجه إلى نواحي النثر؟ وهل أتاح له هذا الجهاد أن يواتي حاجات الحياة الحاضرة بالمقدار الذي يواتيها النثر به، فإذا انقضت أجيال وعرض أدب عصرنا الحاضر نثرًا أو شعرًا على ناقد دقيق تبين فيهما صورة العصر بمقدار متكافئ؟ يجب قبل أن نبدأ هذا البحث أن نقرر واقعة متداولة على أنها حقيقة ثابتة. تلك أن الشعر العربي في عصور ازدهار الحضارة الإسلامية بلغ شأوًا لم يبلغه النثر ولم يطمع فيه، وأن مكانة الشعر في عصور بني أمية وبني العباس والأندلسيين كانت أسمى بكثير من مكانة النثر وأدنى إلى الكمال، وأن الفلسفة والحكمة والتفكير والعاطفة والحس كانت جميعًا تصاغ في الشعر بخير مما تصاغ في النثر؛ بل إن الشعر العربي كان هو الأدب العربي، وإن النثر إلى جانبه كان مكملًا له غير مستقل عنه، حتى لكان الكتّاب يحلون نثرهم بما يرصعونه به من أبيات الشعر. فإذا كانت هذه الواقعة المتداولة حقيقة بالفعل ألا يكون من الواجب على الشعراء أن يقفوا مجهودهم عند بعث الشعر كما كان في أزهر عصوره؛ ليعيدوا للأدب العربي جدته، وليكونوا قد سبقوا الكتاب إلى إحياء اللغة العربية وأدبها، أو ليكون مجهودهم مساويًا لمجهود الكتاب في التجديد، ليكون حكم الناقد الذي يستعرض أدب عصرنا الحاضر على الشعر مكافئًا لحكمه على النثر في تعبيرهما عن تفكيرنا وحسنا وعواطفنا؟
لا ريب في أن النظر إلى الشعر من هذا الجانب يجعلنا نقر للشعراء بفضل أي فضل. فليس من كبرائهم إلا من عارض أفخم قصائد كبار الشعراء في الماضي، فوفق في معارضته أعظم توفيق، وتفوق في بعض الأحيان تفوقًا لا سبيل إلى إنكاره، وهؤلاء: سامي البارودي، وإسماعيل صبري، وشوقي، وحافظ إبراهيم … وأضرابهم من فحول شعراء العصر الأخير، ولم يكادوا يتركون قصيدة من القصائد العربية الكبرى إلا عارضوها وزنًا وقافية ومعنى، فوفقوا وتفوقوا في أحيان كثيرة، وسينية شوقي الأندسية التي يعارض بها البحتري مشهورة، ومعارضة إسماعيل صبري وشوقي لقصيدة: «يا ليل الصب متى غده» ما يزال الناس يتحدثون بها. أما البارودي فقد عارض كثيرًا من فحول المتقدمين وفي مقدمتهم النابغة، وهذه القصائد وغيرها هي من طراز القصائد التي تعارضها لغة وأسلوبًا بل معاني وصورًا، حتى لكأنها قيلت في تلك العصور التي قال أشباهها فيها البحتري والنابغة والحصري وغيرهم من أكابر شعراء العرب، وإذن فقد بعث شعراؤنا العصريون ذلك الشعر العربي القديم بجزالته ومتانته.
بل لقد افتن شعراؤنا في وصف المنشآت والحوادث بما ليس له مثال في الشعر القديم؛ لأن هذه المنشآت وتلك الحوادث لم تقع عليها أعين الشعراء الأقدمين، أو لم يتعلق بها خيالهم إن لم يتعلق بها شأن من شؤونهم، ولست أنكر أني أتذوق وصف حافظ إبراهيم لقصر الجزيرة الذي أصبح حديقة الحيوان، كما أتذوق قصيدته في نكبة مسينا بالزلزال، وبخاصة حين يقول:
وكما أتذوق هذا الوصف لحافظ أتذوق كثيرًا من شعر شوقي في الوصف، وبخاصة وصفه لتوت عنخ آمون حين تكلم عن صيده وكلاب صيده، ووصفه لقصر أنس الوجود؛ إذ يقول:
ولست أنكر كذلك إعجابي الذي لا حد له بالشعر الوصفي في وجدانيات إسماعيل صبري، وفي حماسيات البارودي، ولكني أعود من هذا الإعجاب فأسائل نفسي: هل هذه القوافي التي ما نزال نحن مرتبطين بها منذ عهد العرب، وهل هذه الصور التي أدت بحافظ إبراهيم إلى أن يقول:
وهل هذه القيود المعنوية التي تقيدنا فتجعل شوقي في إحدى قصائده الفذة يذكر الهودج على أنه مركب أم المحسنين في حين كان مركبها «أوتومبيلها» الفخم — أعود فأسائل نفسي: هل الإعجاب بهذه القوافي والصور والقيود راجع إلى أنها تؤدي حاجات النفس من إدراك وحسٍّ وعاطفة أداء صالحًا؟ أم هو راجع إلى أنها تثير في النفس ذكر ما حفظت أول شبابها من شعر كإعجابك بنغم القيثارة الريفية الساذجة بعد سماعك لألحان عبد الوهاب، بل لموسيقى موزار وبتهوفن؟!
كنت أتحدث في سنة ١٩٢٧ إلى جماعة من أصحابي وبينهم الشاعران الكبيران حافظ إبراهيم وخليل مطران، ونحن على الباخرة النيلية «بريطانيا» في النزهة التي دعت إليها لجنة الاحتفال بتكريم شوقي بك بين مصر والقناطر الخيرية، وتناول حديثنا الشعر وما يحس الكثيرون به من أنه لم يسابق النثر إلى الخطوات التي يستطيع معها التعبير عن كل المعاني التي تجيش بالنفس على صورة تتفق ونغم الموسيقى الجديدة، ولا تقف عند الأوزان القديمة التي يقولون إنها كانت تلائم سير الإبل خببًا وذميلًا، ولم يعترض الشاعران على هذه الملاحظة؛ بل واقفًا عليها، وذكر أحدهما أن السبب في جمود الشعر عند أوزان العرب ومعانيهم: وقوف بعض الشعراء في وجه كل تجديد، وإعلانهم الحرب النكراء على كل مجدد، ولم ينس أحد الحاضرين أن يذكر كيف تطورت الأغاني العامية واتفقت مع الأنغام الحديثة، كما أدمجت — على ابتذالها — كثيرًا من صور الحياة الحاضرة ومستحدثاتها خلال ألفاظها ومعانيها، وما أظن أن أحدًا يرتاب في صحة هذه الملاحظات على الشعر العصري، وعلى وقوفه في قوافيه وأوزانه وفي صوره ومعانيه عن مجاراة أنغام العصر وموسيقاه، بل عن مجاراة الهزات الشعرية التي تجول بالنفس المثقفة بثقافة العصر الحاضر. لقد تقف بين ألوف القصائد التي قيلت والتي تقال على أبيات بالغة الجمال تعبر بأبلغ عبارة عن أدق إحساس وأقواه، لكن هذه الأبيات منثورة في لجج مترامية انتثار الدر في قاع البحر، لا تعثر عليها إلا بعد جهد ومشقة.
وليس القصد من الشعر في رأينا هو هذه الأبيات الفذة، وليس هو محاكاة الأقدمين، وإنما القصد من الشعر إبراز فكرة أو صورة أو إحساس أو عاطفة يفيض بها القلب في صيغة متسقة من اللفظ تخاطب النفس وتصل إلى أعماقها من غير حاجة إلى كلفة أو مشقة، ثم ترتفع بها وترتفع أو تهبط وتهبط وأنت مندفع معها منساق وراءها، متلذذ باندفاعك وانسياقكك تلذذك بصوت المغني أو بنغمة الموسيقي، وكما يسبقك المغني إلى القرار أو السمو الذي تنساق إليه نفسك طائعة مختارة، يجب أن يسبقك الشاعر في فيض الحس أو الشهوة أو العاطفة، وأن يشعرك من ذلك أضعاف ما تشعر به لو أنك كنت وحدك، وكلما بلغ الشاعر من ذلك مدى بعيدًا، وكلما استوت له في ذلك النفوس جميعًا — اقترب من ذروة مجد الشعر، وغرز له فيض بناته وريَّاته.
ولقد حاول بعض الشبان وما زال بعضهم يحاول أن يوفق لجديد في الشعر يلائم بينه وبين روح العصر الحاضر، ويصل به إلى هذا المدى الذي وصفنا، وفي هذه المحاولات جرأة وفيها جمال. لكنها لما توفق للطريق السوي، فتعبر عن مدركاتنا وإحساسنا وعواطفنا بمثل ما وصل إليه النثر من قوة ودقة، وهي لما توفق للخروج بالشعر من هلهلته التي تجعل أكثر قصائده ليس بين البيت فيها وما بعده صلة، حتى لتستطيع أن تغير مواضع الأبيات كما شئت دون خوف. ثم هي لما توفق لأوزان تخرج بها عن سير الإبل خببًا وعَنقًا إلى شيء يتفق وأنغام موسيقى عصرنا الحاضر.
يوم يوفق الشعر لهذا الطريق في تلك النواحي المختلفة، ويوم يؤدي الغاية التي أشرنا إليها، يكون قد وفق لأداء حاجات النفس أداء صالحًا، ويومئذ يسير مع النثر ويجاهد جهاده لصياغة اللغة العربية وصقلها بما يجعلها تواتي الكاتب والشاعر بكل حاجات العصر في غير مشقة ولا عناء. لكن ذلك إنما يكون يوم تزول عن الشعر علته، فما هي هذه العلة؟ وما هو سبب الجمود الذي أشرنا إليه في هذا الفصل؟