علة الشعر
يوافقني صديقي الدكتور طه حسين على أن النثر العربي قد تطور في هذا العصر الأخير إلى حيث قارب أن يكون صالحًا لأداء حاجات النفس، وإن كان ما يزال في حاجة إلى معالجة وإلى صقل وإلى زيادة في ثروة ألفاظه؛ ليصل إلى ما وصلت الكتابة في الأمم الغربية صاحبة المدنية الغالبة اليوم؛ وعلى أن الشعر ظلَّ حيث كان الشعر في الأيام القديمة حين كان مجد العرب وكانت الحضارة الإسلامية في أبهى عصورها العباسية والأندلسية، وهو يعزو تطور النثر وجمود الشعر إلى مطالعة الكتاب واتصالهم بحضارة العصر في كل مظاهرها العقلية والنفسية، وإلى اكتفاء الشعراء بما قرءوا في شعر العرب، وإلى كسلهم العقلي بعد ذلك، وعدم تغذيتهم أرواحهم ونفوسهم وعقولهم بما تفيض به الأرواح، وتشعر به النفوس، وتنتجه العقول من الآثار في العصر الحاضر. كما يعزو جمود الشعر إلى أنَّ الشعراء قد جعلوه بعض ما تتزين به حفلات التكريم والتأبين، وافتتاح البيوتات المالية، وما إلى ذلك نما لا يتصل بالشعر.
ولنقف عند هذه الأسباب قبل أن نبحث عن غيرها مما أدى بالشعر إلى الجمود تاركين نسبة الكتاب دون الشعراء الذين يتجهون إلى القراءة وإلى الاتصال بحضارة العصر حتى لا نتهم بمحاباة طائفة على الأخرى. فأما كسل الشعراء وعدم اطلاعهم وما لذلك من أثر في شعرهم، فقد يكون فيه بالقياس إلى أكثرهم جانب من الحق، وإن يكن لهؤلاء عنه كذلك جانب من العذر. فهم يقرءون بدء صباهم حين تتحرك ربة الشعر أول ما تتحرك في نفوسهم، وبعضهم يقرأ الشعر العربي القديم؛ لأنه لا سبيل له إلى الاطلاع على الشعر ولا على الأدب الغربي، وبعضهم يتصل بهذا الأدب الغربي فإذا استوى لهم الشعر العربي، واتسقت لهم قوافيه وبحوره شعروا بحاجة ملحة إلى التبحر في اللغة العربية وفي الشعر العربي بنوع خاص، لكي يجدوا فيه حاجتهم من غذاء متصل لموسيقى النظم في نفوسهم مما لا سبيل إلى ابتغاء العوض عنه في غيره من أدب غربي أو من موسيقى أو من أدب حديث، وهم سرعان ما يصلون في ذلك إلى إنضاج اللغة في نفوسهم، وما أكثر ما يتيسر لهم بذلك الوقوف على الألفاظ التي تحتاج إليها قوافي الشعر وأوزانه. فإذا اندفعوا في هذه الناحية من نواحي البحث لم يقف أمرهم فيها عند حاجتهم إلى نضج اللغة وإلى ثروة القوافي، بل تأثروا بالشعر القديم أشد التأثر، وأخذوا عنه في كل شيء، واندفعوا بحكم ميل النفس إلى دعةِ الحياة لمحاكاته ومعارضته، ولقد كانوا إلى زمن قريب يشعرون بما في ذلك من شهادة بسبقهم وتفوقهم، حتى أخرجتهم ضجة القديم والحديث في اللغة والأدب من سُباتهم، وجعلت المبرزين منهم يفكرون في جدة الشعر باقتحام ميادين مما اقتحم الشعر الغربي، ومحاولة محاكاة هذا الشعر الغربي في اقتحامه إياها. لكن هذه المحاولات ما تزال في بداءتها، وأجرأ هذه المحاولات ما وضعه شوقي من روايات لم يمحص النقد حتى اليوم قيمتها الصحيحة.
وأما أن الشعراء يجعلون شعرهم بعض ما تتزين به حفلات التكريم والتأبين وافتتاح البيوتات المالية وأمثال هذه الأغراض البعيدة كل البعد عن المعاني والصور الشعرية، فصديقي طه على حق فيه. فالشعر ظاهرة نفسية لقائله، يشدو به حين تفيض نفسه بإحساس من الإحساسات، أو بمعنى من المعاني لا تستطيع أن تكتمه، ولن يصدق أحد أن ينبعث هذا الفيض عن دعوة تدعوها جماعة لشاعر كي يقول في غرض معين، كحفلات التكريم والتأبين وإنشاء النقابات والمصارف.
على أن لشعرائنا في غير هذه الأغراض، ولهم فيما تلهم المعاني الشعرية الصحيحة، ما يثير في النفس الإعجاب، وإنك لواجد شعرًا صحيحًا في المقطوعات الوجدانية التي قالها إسماعيل صبري، ولواجد شعرًا صحيحًا في كثير من قصائد البارودي عن الأنفة وعن الحرب وعن الحنين إلى وطنه وهو في منفاه، ولواجد كذلك لشوقي معاني شعرية ذات روعة في قصائده عن الماضي وفي تحنانه إلى مصر أيام كان الأندلس، ولغير هؤلاء شعر هو الشعر بكل معناه، لكن ذلك الشعر قليل من هذا الكثير الذي خلفوا، والذي يستظهره الناس ويجدون فيه روعة وجمالًا، وإنما نظم الشعراء أكثر شعرهم في هذه الأغراض التي ليست من الشعر في شيء، وللشعراء عن ذلك عذرهم، وليس هذا العذر مقصورًا على عدم القراءة وعلى الكسل العقلي، بل هو أعمق من ذلك بكثير، ولعلهم لو قرءوا وأجهدوا في القراءة أنفسهم وأعصابهم، لما وصلوا من الشعر إلى أكثر مما وصل رجال الدين من الدين؛ فرجال الدين يدمنون قراءة كتب العقائد والأصول والفقه وما إليها مما يتصل بالدين بأي نسب. لكن هذه القراءة لم تغير منهم شيئًا، ولم تهذب من نفوسهم وطباعهم كثيرًا ولا قليلًا، ويخيل إليّ أنهم لو قرءوا تاريخ العقائد وتطور الأديان، بل لو أنهم رجعوا إلى الأساطير وتقصوا ما كان يدين به قدماء المصريين وما أخذه موسى عنهم، من التوراة إلى الكتب الأخرى المقدسة من صور العقائد والمعاملات، إذن لما غير ذلك من أذهانهم شيئًا؛ ذلك بأن المسألة ليست مسألة قراءة فحسب، بل هي مسألة تدبر وشعور شخصي، فكري أو نفسي، يتأثر بملامسة مظاهر الحياة من مرئيات ومسموعات ومحسوسات للأعصاب الإنسانية المهذبة تهذيبًا خاصًّا يجعلها قابلة للتأثر والإحساس، ويجب أن نعترف، ونفوسنا يملؤها الحزن والأسى، أن تربيتنا وتهذيبنا لم يعدّا كثرتنا لهذا التأثر الفردي والإحساس الذاتي. فهما لا يرسمان أمامنا مختلف صور الحياة، ويتركان لحسنا ولفكرنا أن يميزا من هذه الصور ما يأخذ بهما ويلفتهما لفتاتٍ خاصة؛ بل هما يجيئان بصور الحياة مصبوبة في قوالب قررتها الجماعة من عصور سالفة فيطبعانها في حسِّنا وفكرنا طبعًا يقيدهما بهذه القوالب، ويكرههما على الخضوع لها والإيمان بها، وكما أن حرية الفكر هي أساس النشاط العقلي المنتج، وأساس ما يترتب على هذا النشاط العقلي من سمو في الكتابة بلغ الكتَّاب بعضه، فحرية الحس هي أساس نشاط الذهن والخيال، وما يفيض عن هذا النشاط من شعر هو الشعر حقًّا، لا ما يصدر عنه من عبارات منظومة يسميها الناس من باب التجوّز شعرًا.
والتحلل من جمود هذه القيود ليس أمرًا يسيرًا. بل لقد يتململ منها الرجل في نفسه ويراها عبئًا ثقيلًا وسخرية وهزؤًا. لكن نفسه التي ألفتها في الماضي والتي ترى في اطراحها ما يثير الخصومة بين الجماعة وبينها، تؤثر ما سماه طه كسلًا عقليًّا، مع أنه قد يكون شيئًا آخر. قد يكون هو الملال وضعف الرجاء في الانتصار على جمود الجماعة، والاضطرار لذلك إلى النزول منها منزلة تمليق مشاعرها الجامدة حتى حين هياجها، وتمليق إيمانها المتعصب الثائر على كل تسامح، ولعل هذا هو علة تقلب شعرائنا بين مديح شيء وهجائه، لا لأنهم انتقلوا من التسليم بجماله، وبما فيه من خير إلى إنكاره والاعتقاد بضرره، بل لأنهم أشد حرصًا على طمأنينتهم منهم على شعور قلق ليس ناشئًا عن فيض روحي لا سبيل إلى كبحه، وإنما منشؤه النظر إلى الحياة ومصالحها نظرة منفعة لا شعر فيها ولا إيمان بها. فالتحدث عن أثر هذه النظرة حديثًا منظومًا إنما يرضي به الشاعر سامعيه قبل أن يمر بخاطره إرضاء نفسه.
ألم يواجه الكتاب ما واجه الشعراء من الملال وضعف الرجاء في الانتصار؟! أم هم من طينة غير طينة الشعراء وأعدهم تهذيبهم لألوان من التأثر الذاتي والإحساس الفردي غير ما أعد تهذيب الشعراء إياهم؟ أعتقد أن الأمر متعلق بالظروف التي أحاطت بالكتاب والشعراء أكثر من تعلقه بتهذيب هؤلاء وأولئك مما يشترك الكل فيه على سواء. فقد كانت الكتابة جامدة جمود الشعر إلى ما دون نصف قرن مضى، وكان الكتاب يقلدون أساليب الأقدمين، ويحتذون أنواع كتاباتهم في المقامات والرسائل وما إليهما، ويغرمون بالسجع والبديع غرامهم، ويعتبر أحدهم أكبر فخره أن يكون معارض الجاحظ أو عبد الحميد، وفيما هم في سكينتهم إلى أدبهم تسللت إلى مصر وإلى الشرق ثورات سياسية واجتماعية متأثرة بالثورة الفرنسية، وبما أصاب أوربا من هزات عنيفة في أعصابها، فقام دعاة لمثل هذه الثورة، بعضهم في السر وبعضهم في العلن، واتخذوا الخطابة والكتابة وسيلتهم إلى إعلان ثورتهم، ولم يكن أسلوب ابن المقفع، ولا لغة ابن قتيبة، ولا صناعة المبرد، هي التي تكفل تحريك الجماهير لقبول هذه المبادئ، ولا كانت هي التي تكفل حسن صياغة هذه المبادئ والدعوة إليها؛ لذلك لم يكن بد من أسلوب جديد، ومن لغة جديدة: أسلوب ولغة لا ينبوان عن العربية الصحيحة ولا يستعصيان على إدراك الجمهور، ولا يقفان دون تمثل مبادئ الحرية والإخاء والديمقراطية، ودفعها إلى نفس الجمهور؛ ليستطيع هو أن يسيغها، وأن يتمثلها، وأن يتأثر بها ويتحرك لتحقيقها، وكذلك لم يكن بد من أن تساير ثورة الاجتماع والسياسة ثورة في الخطابة والكتابة. أما الشعراء فظل أكثرهم بمعزل عن هذه الحركة، ولم يفكر أحدهم في أن يبدع في الشعر جديدًا يقربه إلى الجمهور ويقرب الجمهور إليه، واعتبروا مثل هذا السعي جناية على الشعر بوصفه فنًّا جميلًا. من ثم أقام الشعر في سماواته الأولى لا ينزل للناس ولا يرفع الناس إليه، وخطا النثر بأكتاف قوية عريضة بين الجماهير يهزها ويحركها، ويلفتها إلى ناحية النور الجديد، ويلهمها فضل الآراء الحديثة، وكلنا يذكر جهاد الكتاب في سبيل التحلل من قيود الماضي، وما قاساه قاسم أمين ولطفي السيد وغيرهما، ويذكر أنه لولا شهوات السياسة، ومس الحاجة إلى الإصلاح الاجتماعي، وعجز من سوى هؤلاء المجددين من الكتاب دون الاضطلاع بأعباء هذا الإصلاح وبتوجيه تلك الشهوات، ثم لولا تغلب المدنية الحاضرة، مدنية العلم والمعرفة وعجز من سوى المجددين دون رفع لواء هذه المدنية، إذن لبقي النثر كما بقي الشعر في جموده، ولبقينا مقيدين بالصور القديمة نكتبها لا لنعبر بها عن شعور يمرّ بخواطرنا، وعن فكرة تنضجها أذهاننا، ولكن لنجاري بها الجاحظ أو عبد الحميد أو بديع الزمان، ثم ليكون أقربنا إلى محاكاتهم أبرعنا في الكتابة؛ لأنه يكون صدى أولئك الذين تبوءوا بحقٍّ مكان الزعامة الكتابية في زمانهم، والفونوغراف الذي يحكي بدقة، وإن يك من غير شعور، ما ألقى به إليه.
على أن ثورة النثر لم تصل من تحريره إلى كل ميادينه، ولم تقرَّ للأدب حريته في كل صوره؛ بل وقفت عندما أبدت الظروف مسيس الحاجة إليه، وما أحسب واحدًا من الكتاب يحدث نفسه بأن الكتابة بلغت من مثلها الأسمى الذي تصبو إليه غاية المدى، أو أصبحت لا يحول بينها وبين دقة الأداء عن كل ما يجول بخاطر الكاتب إلا قصور ألفاظ اللغة وأساليبها. بل لا يزال بيننا وبين الكمال مدًى واسع غير إتقان الصناعة ودقة الصياغة، وإذا كنَّا قد اقتحمنا بعض الميادين التي كانت من قبل أقداسًا لا ترتفع إليها العين ولا تسمح لنظرة منها بخلسة، فإنا ما نزال أمام بعض الميادين الأخرى مقيدين كالشعراء سواء، وربما كنا كذلك أمام أكثر الميادين الشعرية التي تتعلق بالحس والعاطفة. فأين منا من هوى قلبه إلى ألوان غير مألوفة من الجمال تمددت فيه وانتشرت فملأته ففاض به هواه فعبر عنه تعبيرًا صادقًا؟ وأين منا من ساور الشك نفسه أن رأى النور القديم الذي اهتدى به أسلافنا قاصرًا عن هدايتنا، كما صارت الأنوار القديمة التي كانت تنير دياجير الليل فاترة ضعيفة أمام لألاء الكهرباء، فانبعث يلتمس نورًا جديدًا، واندفع إلى ذلك بحرارة إيمان كلها عاطفة، وكلها شعر، وكلها فيض وإلهام؟ وأين منا من سما للكمال بعاطفة فبكى للمذنب ذنوبه، ورأى فيه أخًا أحق برحمة الله ممن لم يجترح في الحياة إثمًا! وأين منا من اهتزت كل أعصابه من الألم أمام مآسي القدر يفجع بها الأبرياء كل يوم فثار على القدرة ثورة الجبابرة! أوليس واجبًا علينا، وذلك شأننا من ثورتنا لحرية الأدب، أن نكون رحماء بهؤلاء الشعراء الذين لا يرون بنات الشعر؛ لأنها مغللة ملقاة في غيابات الماضي، والذين لا شيطان لهم يستمعون إلى وحيه؛ لأن شياطين الشعر لا تلهم إلا أحرار الحس والشعور والخيال! أو لا يجوز لغيرنا إذا رأى ما بينت من حالنا أن يهيب بنا: رفقًا بالقوارير، وأن يذكر بكلمة السيد المسيح: «من كان منكم غير ذي وزر فليرمها بحجر!».
وسنظل معشر الكتَّاب قاصرين دون التعبير عما يجول بخواطرنا حتى تنحل القيود التي تربطنا، وتتفتح أمامنا الميادين التي ما تزال مقفلة كما تفتحت إلى اليوم ميادين أباحت لنا أن نصل فيها إلى تطور الكتابة تطورًا يسّر لنا التعبير عما يجول بخواطرنا بعد تلك القورة القوية التي قام بها الذين سبقونا، والتي ما تزال إلى اليوم مستمرة تريد أن تفتح من الأبواب ما لا يزال مغلقًا.
ولا سبيل إلى جدة الشعر إلا أن تؤدي إليها ثورة كالتي أدت إلى جدة النثر، وليست الثورات السياسية ولا الانقلابات الاجتماعية أدوات هذه الثورة في الشعر ما لم يكن لها أساس عميق سنده الشعور الإنساني الصحيح لا المصالح الحاضرة والشهوات الوقتية، وما للشعر وهذه المصالح والشهوات؟! إنه لا يلبث إذا تناولها أن يسمو بها إلى مراقيه التي تحلِّق فوق وضيع المطامع، ويكسوها هالة من جمال وجلال، ويستصفي الخالد من آثارها ويتغنى به ويخلده. انظر إلى الشعر الغرامي. ليست «جوليت» وليست «ليلى» وليست «هلويز» لذواتهن شعر الشاعر، إنما الشعر ما في جمال أولئك وما في عاطفتهن من خالد ينتقل على الأجيال، فيشدو به الشاعر، ويسبغ عليه كل ما واتاه به العلم والفن والخيال من مشاعر وصور، وكما أن الحب عاطفة تحرك الشاعر فالإيمان عاطفة تحركه، والشفقة كذلك عاطفة تحركه، ونفوسنا في حاجة إلى غذاء من الإيمان كحاجتها إلى غذاء من الحب، ولن يكون إيمانها شعرًا إذا هو كان إيمانًا مطمئنًا، كما أن الحب لن يكون شعرًا إذا كان حبًّا مطمئنًا. بل لا بد، في الحب وفي الإيمان وفي الإشفاق وفي الحرية وفي مختلف مظاهر الطبيعة وفي كل ما تتأثر به النفس، من مجال لمطمح إلى غاية تكون مثلًا أعلى وأملًا ساميًا؛ لتفيض به النفس شعرًا، وليكون لهذا الشعر على الزمن بقاء. فأما دون ذلك من أثر هذه العواطف في النفس فالشعور به مشترك بين الناس جميعًا، وليس في الإفضاء به شيء من الشعر، وإن أمكن أن يكون فيه نظم وكلام فخيم وفصاحة وبلاغة وبيان بديع.
وهذا هو ما يجعل لصديقي طه كل الحق حين يأخذ على الشعراء أنهم يجعلون شعرهم بعض ما تتزين به حفلات التكريم والتأبين وافتتاح البيوتات المالية، وما يجعل كل إنسان على حقٍّ حين يعيب شعر المناسبات، وحين يعيب أكثر الشعر العربي الحديث؛ لأن أكثره شعر مناسبة، والأمر كذلك في شعرنا الحديث بنوع خاص، أن كانت المناسبات التي تلهمه ليست مناسبات تحرك نفس الشاعر وتهزها من الأعماق فتدفعها إلى الإفاضة بمكنون ما فيها، حتى لتجدك ما تكاد تتخطى بعض الأبيات المتصلة بالمناسبة حتى ترى إلهام الشاعر من مجموع الحياة قد تجلى، وقد غمر المناسبة، وسما فوقها، واتصل بحياة الوجود كله على نحو ما حركت الثورة الفرنسية نفس جيتي أو ما حرك زلزال لشبونة نفس فولتير، وإنما هي مناسبات تافهة أغلب أمرها كالمناسبات التي توحي ما يلقى من الشعر في الحفلات. فإذا هي بلغت من القوة والسمو ما يحرك نفس الشاعر ويثيرها، ويذكي فيها أقوى المعاني، وأروع الذكريات، رأيت ذلك قد وقف من إلهام شعرائنا عند قصائد لا تتجاوز الأربعين أو الخمسين أو الستين بيتًا، ورأيت سمو الإلهام لا يتصل في هذه الأبيات كلها فياضًا متدفقًا آخذًا بعضه برقاب بعض ناقلًا إياك معه إلى السماوات التي ارتفع الشاعر إليها، بل ترى سمو الإلهام هذا قد وقف عند أبيات منثورة هنا وهناك خلال القصيدة من الشعر كلها رصينة النظم واللغة، لكن الإلهام فيها لا يعدو أن يكون بروقًا خاطفة تأخذ النظر كلما أنارت، ولكنها ما تلبث أن تخبو؛ لتحل محلها الصنعة في الشعر والتجويد في النظم، وإذا كان مرجع ذلك في المناسبات العادية إلى أن شعر المناسبات ضعيف بطبعه؛ لأن الإلهام فيه ينطبع في النفس من حوادث خارجة عنها، في حين أن الإلهام في الشعر الصحيح داخلي يصدر عن النفس ذاتها، ويهتز له كل وجود الشاعر؛ لأنه الفيض المضيء لدخيلة حياته ولكل إيمانه ولكل عواطفه وكل وجوده، فإن قصور المناسبات الكبرى عن إلهام شعرائنا أكثر مما ألهم زلزال مسينا حافظ إبراهيم، وموقعة أدرنة وانتصار الأتراك بعد الحرب الكبرى شوقي قصائده في هذه الحوادث، إنما يرجع إلى ضعف ثورة النفس وإلى هذه السكينة المطمئنة التي أشرت إليها، وإلى الاكتفاء بمحاكاة السلف ومعارضتهم والنسج على منوالهم.
وإلى أن تحدث هذه الثورة سيظل الشعر في جموده، وستظل المعاني الشعرية الصحيحة نادرة، وستظل الأوزان الشعرية واقفة وقوف الموسيقى والغناء، وسبيل هذه الثورة أن تظمأ النفوس لحرية الإحساس والعاطفة كما ظمئت من قبل لحرية الفكر وحرية التعبير عنه، ولست أرجو أن يكون هذا الظمأ شأن السواد، وإن رجوت أن يتقرر حقَّه فيه. لكنما أرجوه للأفذاذ الذين يحملون على عواتقهم أعباء النهضات الكبرى التي لا طريق لها غير الثورة. هؤلاء الأفذاذ يجب أن يكونوا في حلٍّ من كل قيدٍ للذهن أو للحس أو للشعور؛ لكي يهديهم إلهامهم المهذب بكل ما أورثنا الماضي، وما يحيطنا به الحاضر من آثار الفكر والفنّ، إلى المستقبل المستور بحجب الغيب، والذي لا يتفتح إلا لهؤلاء الأفذاذ الذين ينظرون ببصيرة الشعر فيه. فإذا وجد الأفذاذ ودفعهم الظمأ للحرية إلى تحطيم القيود التي ما تزال تربط الشعراء في أكثر نواحي حياتهم، وسموا هم بشخصياتهم الممتازة فوق عواطف السواد وشهواته، وحلَّقوا ابتغاء إرضاء نفوسهم وعواطفهم وأذهانهم — إذا كان ذلك آن للشعر أن تتجدد معانيه وأوزانه وقوافيه، وصار أداة صالحة للتعبير عما يجيش بالنفوس وتضطرب به الخواطر.
ووسيلة الشعراء إلى كسب حرية الشعور والعاطفة والتعبير عنهما ميسورة لمن أراد بلوغ هذه الغاية السامية، تلك أن يطلب الشعراء الكمال لذاته لا رغبًا ولا رهبًا، وأن يسموا فوق مطامع المادة ومزالق الذلة والخضوع لوضيع الشهوات، وأن يجاهدوا للتحلل من رق الإسار الذي ارتبطوا به مع الشعر العربي القديم، ولعلهم إذا رجعوا إلى تطورات الشعر الغربي في العصور الأخيرة كان لهم فيه مثل. فقد أعلن رنسار مذهب بعث الأدب اليوناني والروماني في القرن السادس عشر، ووجد هو ومن تابعه في هذا الأدب فيضًا ظل يلهمهم قرنين كاملين، لكنهم كانوا في ذلك ينقلون ذلك الأدب القديم من لغاته إلى لغتهم، فتبدو له جدة عند الجمور الذي لا يعرف اللاتينية ولا اليونانية. فلما كان القرن الثامن عشر انقض الشعراء في أوربا على هذه القيواد القديمة، وأعلنوا حرية الشعور والشعر، وساروا به الخطى الواسعة التي بلغت الشأو الذي أدركه اليوم، وها نحن أولاء قد مضت علينا أجيال ونحن مقيدون بالشعر العربي القديم معاني وأوزانًا. أفما آن لنا أن تكون لنا شخصية مستقلة، وأن يعلن شعراؤنا حرية الشعور والشعر، وأن يقولوا بوحي نفوسهم وإلهام حياتهم لا بوحي الأقدمين وإلهامهم؟! أوما آن لشعرائنا أن يرتفعوا فوق ذلك المستوى الذي تضطرهم إليه ذاكرة الجمهور اضطرارًا، فيجذبوا الجمهور إليهم كارهًا بادئ الرأي، ثم سعيدًا بما أكره عليه بعد ذلك؟! أما آن لهم أن لا يتأثروا بتمليق الناس وبحاجاتهم المادية، فيكون شعرهم شعر النفس الفياضة لا شعر الظروف التي لا شعر فيها!
ولست كبير الرجاء في مقدرة الشعراء الذين كونهم العصر الماضي على أن يغالبوا ما نشَأوا عليه، وأن يزدروا ثناء الجمهور وتصفيقه ولو كان هذا الازدراء سبيل الكمال. فليس من اليسير على النفس أن تغيِّر من عاداتها ما أصبح منها بمكان الطبع، ولست أدري أيستطيع الناشئون اليوم إبداع هذا الذي أدعو إليه من الاستقلال، ومن البحث في ملكوت الشعر عن المثل العليا على نحو ما يصورها عصرنا الحاضر في الحب والحق والشفقة والحرية والإيمان والشك، ومن إرسال خيالهم يتغذى مما أنبت العلم والفلسفة في هذه الشؤون كما تتغذى النحلة من رحيق الزهر؛ لتخرج للناس شهدًا شهيًّا، وكيف نثق بالناشئين ولما يظهر منهم أحد مستقلًا عن كبار شعرائنا مرسلًا إلى الناس من فيض شعره ما تبهرهم جدَّته، وما تهزهم قوته، وما يرون فيه من الروح ومن الموسيقى غير ما ألفوا، ثم هم يرونه مع ذلك ذا جلالٍ وروعة!
وإنما رجاؤنا أن تصدر الثورة المجددة التي ينبعث أصحابها في طلب الكمال الشعري لِذَاتِهِ عن الجيل الجديد الذي يتلقى العلم اليوم، والذي نجاهد كلنا في سبيل تلقينه إياه على غير تلك القواعد القديمة التي كانت تبعث الجمود إلى الأذهان والقلوب والعواطف، وعلينا إذا أردنا معاونته على القيام بهذا الواجب أن نعاونه على تقرير حرية العاطفة بمقدار ما أَعَنَّاهُ على تقرير حرية الفكر، وأن نوسّع أمامه من آفاق الفن بمقدار ما نوسع من آفاق العلم، وأن نعرض عليه من صور الحياة الماضية والحاضرة ما يسمح له بحرية الاختيار فإذا نحن قمنا بهذا الواجب كان لنا أن نأمل من بين هذا الجيل الجديد في أولئك الأفذاذ الذين يقيمون صرح الشعر على أسس صالحة، والذين يجعلوننا نحس إذ ننشد شعرهم بائتلاف جوانب نغمته مع سائر أنغام الحياة الحاضرة وصورها، بدل أن نرى أنفسنا كمن يشدو بقيثارته وسط الأطلال يريد أن يبعث أمام خياله حياة ليس لها بشيء مما في حياته اتصال.
ومتى وُجد هؤلاء الأفذاذ آمن رفعوا لواء الشعر بأن من الواجب عليهم أن يقتحموا ميادينه بروح جديد؛ روح غير هذا الروح الأثِر الذي يحصر شعراءنا أكثر الأمر في دائرة ضيقة من عواطفهم الوقتية أو تفكيراتهم السطحية أو أخيلتهم القليلة السمو، وأن يقتحموا الميادين الجديدة بروح منبسط قدير على أن يحلق في جو العالم كله ويتصل به، ملقيًا عن كاهله حدود المكان والزمن، مرتفعًا إلى السماوات العلا، متصلًا بالملائكة والشياطين، ثائرًا على كل عتيق بالٍ، متوثبًا في ثورته لينتظم آلهة الإغريق والمصريين القدماء وما خلفت الميثولوجيا في الأمم والعصور المختلفة في تحليقه وسموه، مجاهدًا لينقي ذلك كله ويصهره، ويخلق منه في عالم الشعر خلقًا جديدًا، وأحسب أن اقتحام ميادين الشعر الجديدة بهذا الروح، كما أن غزو الصالح من الميادين القديمة بهذا الروح كذلك، كفيل بأن يدفع بالشعر إلى صدر النهضة، وأن يجعل منه الأداة الروحية القوية التي تحطم الكثير من الأغلال، وترتفع بالإنسانية في سماء الحرية والحب والحق والجمال.
وهذا الروح يجب له قبل كل شيء أن يرتفع بالشاعر عن شعر المناسبات إلى ما يصدر عن وحي الروح وإلهام العاطفة وفيض الفكر، ويجب أن تكون غايته تصوير الكمال في صور تستولي على نفس قارئها وسامعها، وتطير بها على أنغام الشعر الموسيقية؛ لترتفع فوق مستواها ولتبذ نفسها، ولتحس معنى الكمال إحساسًا عميقًا يشعرها بضرورة الدأب للجهاد في سبيله، وتعجلها إذا قرأت شعرًا يصور لها الكمال في الحب، أو الكمال في الحرية، أو الكمال في الأمل، أو الكمال في الألم، أو في أي ما شئت من معانٍ وعواطف وأخيلة أثيرية الحدود دائمة الاتساق والاتساع، شعرت بأن في الحياة معاني غير هذه المعاني التي يحياها الناس ويجعلونها غاية جدهم ومنتهى أملهم، وشعرت بأن وجودها الحي بيننا يقتضي دوام محاولة السمو لدرك هذه الغاية، وكلما تنزهت هذه المعاني عن مناسبات الحاضر، وبلغت في روعة تصويرها ما يرجى للكون كله من كمال — كان الشعر أكثر شعرًا، وأكثر أداءً للغرض المقصود منه، وأكثر تحقيقًا لرسالته السامية في هذا الوجود.