الأدب القومي
عرفتُ بباريس في ربيع سنة ١٩١٠ فتاةً من كندا نزلت هي وأمها بالنزل الذي كنت به وأقامت فيه أسبوعين، ثم غادرته هي وأمها إلى ألمانيا في واحدة من تلك الرحلات التي يعكف أبناء أمريكا عليها حتى لأحسبهم يعتبرونها بعض واجبات الحياة، وكنا أهل النزل جميعًا نقضي ما بعد العشاء في صالون بغرفة المائدة، نتحدث أو تعزف صاحبة النزل لنا بعض قطع البيانو أن كانت تجيد هذا العزف إلى حد البراعة فيه، وقد وثَّقت هذه السويعات بيني وبين الفتاة الكندية أن كنت أقدر الحاضرين على التحدث إليها بالإنجليزية؛ لأنها لا تجيد الفرنسية، وكنت يومئذ أكتب «زينب»، وكانت لي يومئذ في الأدب وما أرجو أن أجدد فيه من آثار أوهام طويلة عريضة، وعرفت مس شلزك كاسلز ذلك من أمري، وعرفت مما كان يرد إليّ من صحف مصر أني أكتب في بعضها. فلما كانت الليلة التي اعتزمت مغادرة باريس فيها، وجعلنا نتحدث بعد العشاء خاطبتني في ذلك المستقبل الذي كنت أرجو لنفسي ككاتب قصصي، فقالت: كم أود لو استطعت أن تكتب تاريخ مصر في صورة قصصية كما صنع سير والترسكوت بتاريخ إنجلترا. إنني وإن لم أعرف مصر أشعر بأن فيها شيئًا كثيرًا جميلًا، وأن تاريخها وآثارها جديران بالكشف عنهما وتقريبهما للناس في الصور القصصية المحببة إلى النفس، ولعلك إن فعلت تجعل إهداء أولى هذه الروايات التاريخية لي.
ولم أفعل، ولم أقم بأكثر من محاولة لم تتم يتبينها القارئ في الفصول الأخيرة من هذا الكتاب. لكني أشعر من يومئذ كما كنت أشعر من قبل ذلك بأن حياة الأدب إن لم تتصل بنفس الأديب وروحه، وإن لم يظهر وحيها في آثار حياته، كان الأدب فاترًا ضعيفًا؛ لأنه لا يصف الواقع ولا يجلو الحقيقة، وخير ما يكفل وضوح ذاتية الأديب في أدبه أن يتصل ما يكتب بقلبه وعقله وكل حياته، وليس ذلك بمستطاع على أكمل وجوهه إلا حينما نصف حياتنا وحياة آبائنا والبيئة التي أنبتتنا والوراثة الكامنة فينا، فنصل بذلك حاضرنا بماضينا، ونصور بذلك حياتنا وحياة قومنا ووطننا، وكل ما توحيه هذه الحياة للعقل والقلب والحس والشعور مما لا تستطيع حياة أخرى أن تلهم أو توحي.
وعدت من باريس إلى مصر في سنة ١٩١١ بعد ستة وعشرين شهرًا أقمتها بها وجست أثناءها خلال أوربا، وعدت عن طريق سويسرا وإيطاليا، وركبت البحر من برندزي إلى بورسعيد، وكانت هذه أول مرة رأيت ذلك المرفأ المصري، وما أزال حتى اليوم أذكر ما أثارته موازنتي بينه وبين مدن أوربا من رغبة عنه وحرص على مغادرته. فلما ركبت القطار إلى قريتنا، ونزلت منه في محطتها، وامتطيت الجواد نحو نصف الساعة بينها وبين منزلنا، وسرت على هذه الطرق وبين هذه المزارع التي شهدت طفولتي واستمتع بها صباي، نسيت أوربا وريفها وأهلها وكل ما فيها، وشعرت بقلبي يتفتح ونفسي تنتشر في أرجائها السعادة، ووجودي يكاد يطفر من فرط الطرب، وأحسست كأني عدت أختلط بكل فرع بل بكل ورقة من هذه الأشجار، وبكل قطرة من هذا الماء المتقلب في الترعة، وبكل ذرة من هذه الهواء، هواء قريتنا الصغيرة الجميلة. فلما انتهيت إلى بيتي وأهلي لم أستطع أن أحبس إحساسي فتركته يطفر فرحًا سعيدًا، وشعرت بما في ذلك كله من وحي صادق لمن أراد الكتابة عنه.
وفي سنة ١٩٣٢، أي بعد أكثر من عشرين سنة من ذلك التاريخ، وكنت أتنقل في ربوع الشام، إذ مررت بمعرة النعمان ولم أقف عندها، ومع ذلك تمثل لي في تلك الساعة هذا الشيخ أبو العلاء، وارتسم أمامي تمثاله، وفصلت أمام بصيرتي آدابه وحكمته وفلسفته، وألفيت قطعة من شبابي ترتسم أمامي بقوة ووضوح، وشعرت كأن هذا البلد الذي لم أر من قبل قط يحتوي شيئًا من حياتي. إذ ذاك سألت نفسي: إذا كان هذا شأني ولم أدرس أبا العلاء دراسة بحث ممحص، ولم أقرأ عنه قراءة متصلة غير كتاب صديقي الدكتور طه حسين «ذكرى أبي العلاء»، فماذا تكون الحال بالقياس إلى من يدرسون تاريخ أسلافنا جميعًا في سائر البلاد التي تتكلم العربية دراسة تصل بين نفوسهم وهؤلاء الأسلاف وعصرهم وحضارتهم؟ أوَلا يكون ذلك مصدر إلهام لهم أصدق الإلهام، ووحي في التاريخ والأدب أسمى ما يكون الوحي؟! والإلهام يكون ولا ريب أسنى كلما كان أوثق اتصالًا بوطن الإنسان وقومه، والأدب الذي يصدر عن الإلهام يكون لذلك أروع وأقوى إذ يكون أدبًا قوميًّا صادقًا.
وكما يسمو وحي الوطن بالكاتب في الأدب القومي، فإن هذا الأدب يخلع على الوطن في نفوس أهله جميعًا جلالًا وبهاء يزيدانهم له حبًّا وبه إيمانًا وتقديسًا وإياه إعزازًا، ولقد كان للأدب القومي وللفن القومي في كل الأمم أعمق الأثر من هذه الناحية، وضعف أدب مصر وفنها القومي له الأثر المقابل لذلك من هذه الناحية أيضًا.
ولأدلك على ذلك أذكر أنني زرت روما غير مرة، وكنت ككل مقيم بروما أو زائر لها أتخطى «نهر التبر» مرات، وفيما أنا أتخطاه يومًا ذكرت أبياتًا من الشعر الإنكليزي حفظناها حين كنا بالمدارس الثانوية، فيها قصة لبطل لم يحضرني اسمه كما لم يحضرني اسم الشاعر صاحب القصيدة، ولست أذكر أكان هذا البطل قد أحيط به فاضطر إلى أن يلقي بنفسه في النهر؟ أم كان أراد مهاجمة خصوم لروما في الجانب الثاني من «التبر» فرمى فيه بنفسه ليعبره سابحًا، ولم يعنني من أمر القصة كلها شيء، ولم أجهد ذاكرتي لاستظهار شيء منها، وإنما عنتني الأبيات التي قالها البطل ساعة ألقى بنفسه في الماء، وعنتني فيها نغمة المتعبد المقدس إذ يقول: «أيها التبر، يا أبانا التبر، ومن يسبح الرومان بحمده، إليك حياة روماني وعدة حربه خذهما اليوم في رعايتك». ذكرت هذه الأبيات وألقيت على النهر نظرة طويلة، وجاهدت كي أجد فيه ما يبعث لنفسي مثل القداسة التي كانت وما تزال تلك الأبيات التي حفظت صغيرًا مبعثها عندي، وأعترف أني لم أصل من جهادي إلى شيء؛ لأني لم أحاول إجهاد ذاكرتي لأستظهر ما عرفت من تاريخ الرومان، ولأجد فيه هذه القداسة التي أشاد البطل الروماني بها على لسان الشاعر الإنكليزي. لكني مع ذلك ما أزال أرى في هذه الأبيات نفسها قداسة تجذبني إلى ناحية التبر، وتدعوني إلى أن أستشف من مجراه ومن تاريخه ما أوحى للمئين من الشعراء والكتّاب القصائد والصحف الخالدة.
وليس نهر «السين» في اختراقه باريس أكثر بهاء من التبر في اختراقه روما. لكني إذ أقرأ ما يكتبه شعراء فرنسا وأدباؤها عنه أشعر في أعماق نفسي بما يجعلني أشارك هؤلاء الشعراء في محبة نهر باريس وإجلاله؛ ذلك أني عشت إلى جوانب السين سنوات، وعرفت من مجراه وتاريخه، وكان لي فوق لجته ما يجعل له في حياتي أثرًا يدعوني إلى الاشتراك في شعور الشعراء والكتاب والمصورين نحوه، وإلى التلذذ الصحيح المتجدد بكل ما أقرؤه عنه من شعر ونثر، وبكل ما تقع عليه عيني من صور لأماكن فيه، وبخاصة إذا كنت قد قرأت عنها شيئًا يجعلها في حكم ما عرفته بنفسي.
وشهدت في سويسرا جمالًا وروعة جعلاني أقرأ ما كتب عنهما لازداد لهما تذوقًا وبهما سرورًا، وأشهد لقد كنت، كلما تزايد ما قرأت، أشد لجمال سويسرا وروعتها حبًّا، وليس في شيء من هذا كله أي عجب؛ فكلنا أكثر بالجمال في مختلف صوره استمتاعًا كلما كان معنا رفيق يشاركنا في المتاع، والمتاع يزداد كلما كان الشريك أكثر للجمال قدرًا وبدقائقه معرفة. فأنت في صحبة شاعر أكثر استجلاء لما في منظر من مناظر الطبيعة أو في حادث من الحوادث من شعر، وأنت في صحبة موسيقار ترى بعينيك أنغامًا يثيرها في الجو جمال الصور، وأنت في صحبة مصور تحس بما في الشعر وما في الأنغام من صور رائعة واضحة الحدود. ما بالك إذا كان ما تقرؤه في قصيدة من القصائد أو كتاب من الكتب عن نهر التبر أو السين أو عن منظر من مناظر سويسرا الساحرة يجتمع فيه الشعر والموسيقى والتصوير وتلتقي فيه الفنون الجميلة كلها! أنت إذن تود لو تعود إلى هذه المناظر، وأنت إذا عدت إليه واجد ولا ريب فيه حديثًا أشهى وأعذب من حديثه إليك قبل أن تقرأ عنه ما قرأت، وقبل أن تسمع من تاريخه ومن روعة جماله ما سمعت.
وعدت إلى مصر من روما في العشرة الأخيرة من أغسطس سنة ١٩٢٩ وأتيح لي يومئذ أن أشهد فيها منظرًا لم يتح لي المتاع به منذ سنوات، ذلك منظر النيل في فيضانه، وأتيح لي أن أشهد هذا المنظر في أروع صوره وأكثرها مهابة وجلالًا. فلم يبلغ فيضان النيل من العظمة والرهبة منذ عشرات من السنين ما بلغه ذلك العام، وما كادت عيني تقع على النهر حتى تحركت في نفسي كل عواطف الإكبار والتقديس، وحتى ذكرت من مناظر النهر التي شهدتها بالأقصر وأسوان والسودان ما زادني بجماله وجلاله وروعته شعورًا، وما وصل بهذا الشعور بين نفسي ونفوس أجدادنا الفراعنة الأقدمين الذين كانوا يرون في «البحر الأعظم» معبودهم الذي أتاح لهم الحياة، وأمتعهم معها بكل ما فيها من خير وبركة، ولذلك جعلت كلما سنحت لي الفرصة أذهب إلى شواطئه أملأ ناظري وقلبي وجوانحي إعجابًا به وتقديسًا له ودعاء أن يكتفي من فيضانه بما يغمر البلاد من خصب ونعمة دون أن يحل بها غضبه فتكون هي وأهلها من المغرقين.
وأفضيت يومًا بخوالج نفسي إلى صديق من الذين زاروا أوربا، وتنقلوا في مختلف نواحيها، وتذوقوا جمالها في تباين صوره واختلاف أوضاعه، وذكرت له عميق شعوري بجلال النيل مما لم أشعر به حتى حين الشباب وتحفز العواطف لاستجلاء الجمال وروعته أثناء بدائع سويسرا فوق موج بحيراتها الهادئ وبين شوامخ جبالها الساحرة السفوح، والقمم المغطاة بالنبات والشجر والثلج غطاء يزيد في روعة جلالها بما يجعلها دائمة التغير والتموج كلما تغير الجو وتموجت السحب، وتبسم صاحبي ضاحكًا من قولي معتقدًا أني أمزج، ثم كرر هذه الأنشودة التي نسمعها دائمًا وقد نكررها أحيانًا: وماذا في مصر من جمال؟ وماذا لطبيعتها من روعة وهي ليست إلا مسطوحًا من الأرض يُملك تشابهه الذي لا يعبس ولا يبتسم ولا يقطب جبينه ولا يقهقه ضاحكًا؟، وكيف تقرن هذا الوادي المحصور بين الصحاري الجدباء المحرقة إلى سويسرا جنة الله على الأرض، أو إلى إيطاليا مهد الفن والجمال، أو إلى أي بلد يكفيه دلالة على جماله أن ألهم الشعراء والكتاب ورجال الفن، في حين لم تلهم مصر أحدًا؛ إذ ليس في تشابهها ما يلهم شعرًا أو يقيم فنًّا!
ليس صاحبي هو وحده، مع شيء كثير من الأسف، الذي يفكر هذا التفكر أو ينظر إلى بلاده تلك النظرة الخاطئة المملوءة غرورًا وعقوقًا؛ بل إن الأكثرين من رجالنا وشبابنا المتعلم ليزهون بإعجابهم بما رأوا وما لم يروا من بدائع الجمال في أوربا زهوهم بما تبعثه مناظر بلادهم إلى نفوسهم من ملال. ثم إنَّ كثيرين ممن لم تُتَحْ لهم أسفارهم وقراءاتهم المفاخرة بهذا الزهو ليحدثونك في أبلغ الإعجاب بجمال صحراء العرب، وما أنجبت هذه الصحراء من حب وحماسة وكرم تجلى في الشعر العربي القديم، وليزهون بهذا زهوهم بإملال بلادهم إياهم، وهؤلاء وأولئك هم الطائفة التي تسمى جماعة المتعلمين في مصر، وقد يكون لهؤلاء وأولئك من العذر أنهم ليسوا شعراء ولا كتَّابًا ولا رجال فن، وأنه لم يحرك أحد في نفوسهم صور الجمال الظاهرة والكمينة في نهرهم وواديهم وفي صحارى بلادهم وواحاتهم المنقطعة النظير في بهر روعتها وسحر جمالها وقداسة جلالها. لكن العجب من أولئك الذين نسميهم شعراء مصر وكتابها ورجال الفن فيها. هؤلاء كذلك يشعر أكثرهم إزاء ما في بلادهم من جمال مثل شعور هؤلاء الذين يسمونهم جماعة المتعلمين في مصر. فقلَّ منهم من تهتز عاطفته لمشهد هذا الجمال إلى حد يهز شاعريته أو خياله أو فنه اهتزازًا يخرج من نفسه صيحات صادقة كلها تأليه هذا الجمال وعبادته وتقديسه، ويستثير من أوتار شاعريتهم أو حيالهم هذه الأناشيد التي تدفع بالفارس إلى أن يلقي بنفسه في غمار التبر متغنيًا: «أيها التبر، يا أبانا التبر، يا من يسبح الرومان بحمده، إليك حياة روماني وعدة حربه خذهما اليوم في رعايتك».
بل إن أحدهم ليحس أحيانًا بأن من الواجب عليه أن يتحدث عن بلاده وعن تاريخها وعن جمالها، فإذا قرأت حديثه وجدت فيه من جمال العبارة ما يخلبك، ولكنك تجده خلوًا من الشعور الصادق والإحساس العميق، وكل شعر وكل أدب وكل فنٍّ ليس صادرًا عن شعور صادق وإحساس عميق لا حياة فيه ولا بقاء له.
وسر هذا الجمود في تقدير جمال بلادنا ضعف الإيمان في نفوس شعرائنا وأدبائنا وكتابنا وذوي الفن فينا بالجمال، وسبب ذلك: أنهم يستمدون شعورهم بالجمال من الكتب لا من الحياة. فالجميل هو ما تغنَّى به غيرهم على أنه جميل. أما ما لم يقفوا على أن غيرهم تغنى به فلا يمكن أن يكون جميلًا، وما دامت قرون قد انقضت بيننا وبين أجدادنا الذين كانوا يحبون جمال بلادهم، ويقيمون لهذا الجمال أعياده، ويقدمون له فيها قرابينه، وما دامت الكتب التي فيها تلك الأغاني قد أصبحت في غير متناول الأكثرين منا، وأصبحت قراءتها لا تلذ، فبحسبنا أن نقرأ ما تعودنا قراءته تلاميذًا عن جمال صحراء العرب، وأن ننتقل بعد ذلك لقراءة ما تعودنا قراءته طلابًا عن جمال أوربا وروعة تاريخها. فأما ما بين ذلك فليس أمره ميسورًا، وليست قراءته مستحبة، ومصر وجمالها تقع كلها فيما بين ذلك من فترة، وإذن فمصر لا جمال فيها، وهي بلاد مسطوحة متشابهة كل ما فيها مملول وليس فيها ما يشبع النفس أو يلهمها آيات الفن والأدب.
ولعلك إن سألت الشعراء والكتاب عن سرِّ بقائهم على التقليد وحبسهم نفوسهم على ما سبقهم إليه غيرهم، رأيتهم يجيبونك بأن لا جديد تحت الشمس، وكل ما تحت الشمس قد دوِّن وحوته المكاتب، وأنهم لهذا يكفيهم أن يقلدوا سابقيهم وأن ينقلوا عن معاصريهم من أهل البلاد الأخرى. هم في ذلك متورطون في أفحش الخطأ، وأي خطأ أفحش من إيمانهم بأن لا جديد تحت الشمس؟! بلى! إن كل ما تحت الشمس جديد؛ لأنه دائم التجدد، والشمس نفسها تتجدد مطلع كل نهار ومغيبه، وكل إنسان منا جديد، وهو كل يوم متجدد، وكلما ازداد بما حوله من صور الحياة امتزاجًا ازداد بهذا الامتزاج حياة وازدادت بذلك تجددًا، وإذا كان حسنًا وواجبًا أن يمتزج الإنسان بالماضي وأن يجد هذا الماضي طي الكتب، فأحسن منه أن يمتزج بالحاضر في كل مظاهر هذا الحاضر؛ ليجمع بين الماضي والحاضر كاملين، وليجدد بذلك للمستقبل صورًا أقوى ما فيها من المظاهر الجديدة شخصيته هو الدائمة التجدد، وأنت أكثر ما تكون قوة على الامتزاج بالحاضر وبالماضي، وعلى التجديد فيهما تجديدًا تبرز فيه شخصيتك قويةً ظاهرة إذا كان هذا الماضي ماضي بلادك، وكان هذا الحاضر حاضر بلادك، بلادك نفسها بما فيها من حياة وجد وجمال. فإذا استطعت بعد ذلك أن تتصل بغير بلادك؛ لتتمثل ما فيها من جمال وتجليه على غيرك، أو استطعت أن تكون أوسع مدى فاختلطت نفسك بنفس الإنسانية كلها، وترنمت عن إيمان صادق بأناشيد الخلد في وحدة الوجود، فقد بلغت الذروة من مراتب الإلهام. لكنك على كل حال لن تجد في قصرك نفسك على الكتب إلهامًا صحيحًا ولا وحيًا صادقًا. إنما الإلهام الصحيح والوحي الصادق في اختلاطك بالحياة، وامتزاجك بمظاهرها، واجتلائك ما فيها من جمال هو الأساس الأول لكل إيمان صحيح.
وكيف لإنسان بالغة ما بلغت قدرته أن يعبر عن جمال لم يصل إليه عن طريق حسه هو، وإنما وصل إليه من طريق حس غيره! كيف له أن يعبر عن جمال لم يجتله ولم يحسه، وإنما هو يذكره لأن غيره ذكره، ويحس به لأن غيره أحس به. إن العواطف لتختلف مظاهرها، وإن اتفقت في النفس مصادرها، باختلاف الوسط الذي تبدو فيه، وعاطفة الحب نفسها تتجلى عند أهل الصحراء على صورة غير التي تتجلى بها عند أهل الشمال، ولذلك تختلف أناشيد الحب من بلد إلى بلد ومن عصر إلى عصر. ما بالك بالصور التي يقع عليها الحس ويتأثر بها في صور تختلف باختلاف الأشخاص أنفسهم؛ لأن الأشخاص يختلفون في قوة كل حاسة من حواسهم، وحس من إحساسهم، وعاطفة من عواطفهم.
وليس جوار المدفأ إلا بعض مظاهر الحياة التي تلهم الشعراء شعرهم في بلاد الشمال. لكن الثلوج وقرّ الشتاء وبداءة الربيع وتفتح الأزهار وكل ما في الطبيعة المحيطة بهم يلهمهم أيضًا، وهو يلهمهم بذاته عن طريق اتصالهم به، وليس إلهامه إياهم مقصورًا على ما يقرءون عنه في الكتب التي سبقهم بها غيرهم. بل ها نحن أولاء تحيط بنا طبيعة ساحرة، ومع ذلك لا يظهر لها في شعر شعرائنا ولا في كتابة أدبائنا من الأثر إلا قليل، ولذلك تظل هذه الطبيعة لا يعرف جمالها أحد؛ لأن الذين ألقت الطبيعة عليهم رسالة الكشف عن الجمال لا يرونه فيها، بل نرى شعراءنا وكتابنا وذوي الفن منا لا يتصلون — كما قدمنا — بالحياة إلا عن طريق غيرهم، ينظرون بعينه ويسمعون بأذنه ويحسون بحسه، وهم في هذا ينسون أنهم القيثارة التي تنقل إلى آذان البشر أنغام الجمال ماثلة في مختلف مظاهر الطبيعة، ويقصرون همهم على محاكاة أنغام سبقهم غيرهم إليها وبذهم فيها، وقضى على كل أمل في أن تكون لهم شخصية قائمة بذاتها حين يشدون هم بها ويحاولون تجديدها، وهم لا يكادون يجدون شيئًا لم يسبقوا به فيما قيل من شعر ونثر في وصف مصر والتغني بسحر جمالها؛ فهم لذلك لا يكادون يذكرون شيئًا من أمرها. فإن هم ذكروا منه شيئًا لم يزد على بريق حسن بدا لهم، فلم يقفوا عنده ولم يحاولوا الامتزاج به، واكتفوا بأن سجلوه في فراره، كأنما ليس له في حياة مصر قرار، ولو أن ربة الشعر والفن والكتابة كانت تلهمهم لآمنوا بأن الفن ليس هو إثبات هذا البرق الفرّار، وإنما هو الوقوف عند الجمال والإعجاب به وأخذه إلى مجامع النفس في مختلف صوره، والعود إليه مرة ثم مرة ثم مرة، والوصول بالنفس إلى حدود الفناء فيه حتى تمتلئ به وتجمع إليه ما تعيه الذاكرة مما سطر الآخرون عنه، فإذا الجمال يفيض عن ذي الفن، وإذا القصيدة أو القطعة من الأدب أو القصة أو اللوحة أو التمثال قد خلعت على هذا الجمال الذي تمثلته نفس إنسانية ممتازة روحًا إنسانية تخالط النفوس كلها، فتشعر في أعماقها بمثل ما شعر به رجل الفن، ويحسّ في الأشياء بجمال ما كان لها أن تحس به لو لم يكشف هذا الرجل عنه ولو لم يخلقه في الحياة خلقًا يجعل للإنسان على الأرض من المجد مثل مجد الله في العلى.
ولنعد إلى النيل، إلى هذا «البحر الأعظم» الذي كان أنشودة العالم منذ القديم، إلى النهر الذي تأله على الدهر وجل في كل العصور وتقدس عند كل الأديان. ألم يكن ربًّا من أرباب الفراعنة يرمزون له بإبيس إله الخير والبركة؟ ألم يذكر المسلمون أن منبعه الجنة، وأنه فيها ينبع من أنهار العسل؟ ما أشك لحظة في أن الشاعر أو الكاتب أو المصور يجد في هذا النهر إذا هو امتزجت به نفسه، واختلط بدمه إجلاله وحبه — وحْيًا لا ينضب وإلهامًا يكفيه مدى حياته، بل يكفي شعراء وكتابًا وأرباب فن على تعاقب الأجيال جميعًا. إن في تبدل مياهه وتغير مجراه في كل فصل من فصول السنة، وفي ارتفاعه بالفيضان جبارًا رحيمًا، يغرق ويسقي ويطغى ويخصب، وفي خضوعه للسابحات من الفلك فوق ظهره تجري بالتجارة حينًا وبالمسرة واللهو حينًا، وفي هؤلاء الذين يتغنون في سكينة مطمئنة حين هو يحملهم في أناة ومن غير عجلة إلى حيث يريدون، وفي تعاريجه وشلالاته وسدوده، وفي انبعاثه من هناك، هناك عند خط الاستواء مارًّا بأقوام يتغير لونهم كلما تقدم هو إلى مصبه، وفي شواطئه المخصبة بطميه الدائمة الشكر للنعمة، وفي شرايين الحياة الممتدة بمصر ترعًا وقنوات والمتصلة كلها به على أنه القلب الكبير الذي يمد بالحياة كل ما حوله، وفي ألف مظهر غير هذه من سلطانه وقوته الدائمي التجدد والجمال — في هذا كله من الشعر ما تقصر عنه ألوف القصائد والكتب والصور، وما لا يكون تاريخ مصر من أبعد عهودها إلى يوم أزلها إلا بعضه؛ لأن مصر وتاريخها ليسا إلا بعض هدايا النيل وأعطياته.
وإن نسيت فلن أنسى لهذا النهر الإله كل ما ملأ به نفسي من تقديس وإجلال في كل مرة صحبته فيها، ولن أنسى منظره الذي أشرت إليه حين عج بفيضانه في صيف سنة ١٩٢٩، وحين أخذني إليه أخذًا إثر عودتي من أوربا بعد مشاهدتي التيمس والسين والتبر في مختلف عواصمها في الساعات الثلاث التي قضيت ما بين الإسكندرية والقاهرة وبعد أن تخطينا النهر عند كفر الزيات وامتلأت نفسي بروعة جلاله. يومئذ تحرك في نفسي الفلاح القديم الذي ورث من آبائه وأجداده حب هذا الثرى المقدس، وإجلال هذا النهر المبارك، والإعجاب إلى غاية حدود الإعجاب بجمال ما ينبت من زروع ملأى بحياة كلها البهجة والنضرة. نعم! تحرك الفلاح في نفسي، فصرت لا أبصر إلا بعينه، ولا أسمع إلا بأذنه، ولا أحس إلا بقلبه، ولا أشعر إلا بشعوره، فكنت خلال هذه الساعات الثلاث مأخوذًا بمناظر الوطن المحبوب وجمالها الساحر أكثر مما يأخذني أي مظهر من مظاهر الجمال، وكان تقديسي على أشده لمشهد مياه النيل في فيضانه تتقلب أمواجها الحمراء بعضها فوق بعض في الترع وفي النهر العظيم. يا لها ذات جمال لا يعدله جمال، وروعة تسجد أمام جلالها كل روعة! إني لأشعر أن هذا الماء المملوء حياة وخصبًا يجري في حنايا نفسي ويجري في عروقي مع دمي أكثر مما يجري في النهر وفي الترع المتفرعة منه، وإني ما أزال لذلك أراه أمام نظري وأنا أكتب في غرفتي أمام كتبي. نعم! ها هو ذا يموج حلوًا جذابًا بلونه الطامي وموجه المتدافع في طمأنينة بين حروف الترع المخضرة بالحشائش تتخللها الشجيرات والأشجار، وتنفسح من ورائها المزارع الخضراء المترامية إلى حدود الأفق يكسوها الذرة والقطن، وتقوم فوقها هنا وهناك المنازل الترابية اللون، تأوي إليها اليد العاملة التي تنبت من هذا الماء ومن هذا التراب كل هذه النعم التي يجود الله بها على أهل مصر، وها هو ذا يموج في عظمة وجلال وقوة تدافع في مجرى النهر الذي اتخذ منه أجدادنا الفراعنة إلهًا يعبدونه، والذي جعل من مصر جنَّةً فيحاء بدل أن يذرها تندمج فيما يحيط بها من صحراوات جرداء. أين أنت يا أنهار أوربا وأنهار العالم كله من نيلنا السعيد المبارك الغدوات الميمون الروحات! ومع ذلك يقدس سكان روما التبر، وسكان باريس السين، وسكان برلين الأسبرى، وسكان لندرة التيمس! ما أكبر ما لأجدادنا من عذر عن عبادتهم إياك، واعتبارهم جنة النعيم منابعك الإلهية!
أي منظر من مناظر بحيرة ليمان وسحرها البديع يعدل منظر نهرنا في سحره وبهره!! وأي جبال في سويسرا أو غير سويسرا تعدل هذه المستويات الذاهبة إلى الأفق تكسوها زروع مصر وأشجارها، وكلها النماء والقوة والحياة المتدافعة!! أنظر إلى مزرعة الذرة ما تزال في أول صباها زاهية خضرة أوراقها غضة سيقانها، تلتف حولها عُقَلها كأنها قصبات الناي، يثير منظرها في أذنك ألحانًا لا تدري أهي عيدان الذرة ترتلها أم هي أصوات الموسيقى المصرية الحنون تموج على أوتار فؤادك؛ لتكمل في نفسك جمال هذا المنظر المصري الفذ الجميل. ثم أنظر إلى أشجار القطن مناط آمال أهلنا الذين تراهم سمر الوجوه سود العيون حادي النظرات، تلمع عيونهم ذكاء، وتحدث نظراتهم عما جبلوا عليه من جد ومثابرة، وسط هذا الوطن الذي نشأت فيه والذي نسيت معه كل ما رأيت مما سواه، ذكرت أنني أستطيع أن أجوب أقطار الأرض ما شئت، وأشهد من صور الجمال في مختلف مظاهر الفن ما حلا لي أن أشهد، وأن أسمع من موسيقى الغرب كل ما يلذ ويطرب، وأن أقرأ من أدب العرب وأدب الإفرنج كل ما يتسع وقتي لقراءته — أستطيع أن أصنع هذا وأكثر منه من مثله، ثم أبقى بعد ذلك وفوق ذلك مصريًّا وأبقى أكثر من مصري، أبقى فلاحًا قحًّا صميمًا، أقدس كل ما في مصر ومزارعها من جمال، وأقدس النيل الذي حبا مصر الحياة وحباها الجمال.
لو أن رهطًا من الشعراء والكتاب وأرباب الفن استلهموا هذا النيل ودوّنوا وحيه، لرأيت صاحبي الذي هز كتفيه حين ذكرت له إعجابي بالنيل وجماله، أشد بنيل بلاده إعجابًا منه بجمال سويسرا أو أية بقعة ساحرة من بقاع العالم. نعم! فالفن يسكب الجمال حتى في النفوس الجامدة أمام الجمال، وهو بما يصنع من هذا يدفع الناس إلى العمل للمزيد من هذا الجمال؛ ذلك بأنه يحبب إليهم الحياة ويدعوهم إلى زيادة تجميلها وإلى معاونة الطبيعة لاستظهار زينتها وبهجتها، وما أشك في أن سويسرا مدينة بكثير من رواء جمالها لعمل الإنسان بعد أن دلّه الفن وأربابه على مبلغ ما جملت الطبيعة به تلك البلاد، ولو أن الفن كشف للمصريين عن جمال بلادهم؛ لعملوا كل ما في وسعهم لزيادة جمالها جلالًا وروعة، ولرأينا هؤلاء الذين لا يعرفون كيف يستشفون جمال الطبيعة في جلال سهولته وقد رأوه باهرًا بارعًا من خلال ما عمل الإنسان لاستظهاره فآمنوا به إيمانهم بجمال سويسرا، ولقدسوه تقديس ذلك البطل لنهر التبر، بل كان تقديسهم وإيمانهم أقوى وأعمق؛ لأنه تقديس جمال متصل بنفوسهم مجرى الدم في عروقهم.
وليست طبيعة مصر وليس نيلها وواديها هي وحدها ذات السحر والفتنة، بل إنَّ تاريخها القديم والحديث ليحتوي من ذلك أكثر مما يحتوي أي تاريخ غيره، كما سنبين في الفصل التالي، وهذا التاريخ وذاك الوادي ونهره كلها جديرة بأن تكون مصدر الوحي لأدب قومي يصور مصر في ماضيها وحاضرها صورة صادقة قوية تنطبع في نفوس أبنائها وفي نفوس الأجانب عنها ممن يقرءون هذا، فيعرفون مصر كما هي حقًّا، لا مصر التي شوهت تشويهًا بالدعاية الفاسدة لغايات سياسية وغير سياسية، ويومئذ تنتقل النفس المصرية خطوة واسعة في سبيل الاعتزاز بنفسها وبوطنها، وتنتقل كذلك خطوة واسعة في سبيل تمثل الجمال والخير والحق، وتسمو بذلك إلى المكان الإنساني الصحيح الذي ألقى على عاتق الأدب في مختلف العصور أن يمهد له فيعد الإنسانية عن طريقه لبلوغ الكمال.