تمهيد
أصابتهم كلهم في عين الوقت الحمى الإسبانيولية، وعادهم الطبيب، فما كاد يقع بصره عليهم حتى دهش: قاعة واحدة، اصطفت فيها خمسة أَسِرَّة «عيار بوصة وربع»، أحدها بجانب الآخر، وخزانة واحدة كخزانة الخطاطين، مخلوعة إحدى عارضتيها، فيها ثيابٌ على كل لونٍ ومقاس، وبعضها ملابس «بوليس» رسمية بأزرار نحاسية. وآلة موسيقية عتيقة بمنفاخ، «هارمونيكا» معلقة بالحائط.
– «أعنبر» في ثكنة؟
ولكن الطبيب واثق من أنه دخل منزلًا، وما زال يذكر رقمه وشارعه، ودنا أخيرًا من السرير الخامس، فلم يتمالك؛ وابتسم: لم يكن هذا سريرًا، إنما هو مائدة الطعام الخشبية، انقلبت فراشًا لأحدهم.
وقف الطبيب لحظة يتأمل المرضى الراقدين صفًّا، وفي النهاية تقدم وهو يقول:
– لا، دا مش بيت، دا مستشفى.
ثم فحصهم، الواحد بعد الآخر، وفرغ من عمله وهمَّ بالانصراف، ولكنه عاد فنظر إليهم من جديد في شيء من العجب، وهم محشورون في تلك الحجرة، ماذا يحملهم على هذا الحشر، وفي الشقة غرفة أخرى، حجرة الاستقبال على الأقل؟ وسألهم في ذلك فأجابه صوت ارتفع في أعماق السرير:
– مبسوطين كده.
لفظت هذه العبارة بلهجة ساذجة صادقة؛ بل عميقة، يدرك المتمعن فيها سرورًا داخليًّا بهذه المعيشة المشتركة، ولو استطاع أحد لقرأ على وجوههم الباهتة ضوء سعادة خفيَّة بمرضهم معًا، خاضعين لحكم واحد، يعطون عين الدواء، ويطعمون عين الطعام، ويكون لهم عين الحظ والنصيب.
وانتهت عيادة الطبيب واستعد للذهاب، وبلغ عتبة الباب. غير أنه وقف كالمفكر، واستدار للمرضى الراقدين، وقال:
– يظهر أنكم من الأرياف!
وخرج الطبيب دون أن ينتظر جوابًا، وقد ارتسمت في مخيلته صورة الفلاحين، وطفق يقول في نفسه:
ليس غير الفلاح يستطيع هذه الحياة، هو وحده الذي — على الرغم من رحب داره — لا بد له أن ينام هو وامرأته وعياله، وعجله وجحشه في قاعة واحدة.