الفصل العاشر
مر الوقت دون أن يشعرا به.
وما كانا يغنيان، وما كانت هي تضرب على «البيانو»، بل كان الاثنان صامتين مطرقين؛ وكأنما يشغل باليهما في تلك اللحظة … وكانت على وجه «سنية» ملامح الجد والاهتمام، وكانت تنتاب «محسن» عوامل مختلفة من التردد والخوف!
لم يكن السبب في كل هذا تلك القصة التي سردها «محسن» عن أيام طفولته، فإن تلك القصة، وإن سرَّت «سنية» حقيقة، فهي لا يمكن أن تكون سببًا في شغل بالها هذا واهتمامها!
السبب أن «محسن» بعد أن فرغ من حديثه عن أيامه الأولى تشجع وأخبرها في غير مناسبة وباندفاع عن أمر منديلها الحريري، قائلًا لها إنه لم يضِع ولم يحمله الهواء بعيدًا، وإنه موجود، وفي حوزة إنسان، يحمله دائمًا ويحافظ عليه ويعتز به، وكتم عنها اسم ذلك الإنسان، وعلى الرغم من إلحاحها الشديد ظل ساكنًا لا يجيب وهو بين التردد والخوف، ويئست هي منه فأخذت تفكر فيمن يمكن أن يحتفظ بمنديلها، وبين آنٍ وآنٍ تنظر إلى «محسن» نظرة رجاء، وقد وقعت في حيرة، وهو الذي أوقعها وتركها فريسة لحب الاستطلاع، وأخيرًا رفعت رأسها في قوة، وقد أعياها الأمر، وصاحت به: مش عايز تقول لي منديلي مع مين؟
ولطفت من حدتها قليلًا، وأردفت في لهجة تأنيب ساحرة: ليه مش عايز تقول لي؟ إخص عليك؟
فلم يُجِب «محسن».
فاستطردت: إنت تعرفه طبعًا؟
فارتجف الفتى، وقال على الفور في لعثمة: مين هو؟
لكنها لم تلاحظ اضطرابه، وقالت وهي تفكر: إنت قلت لي دلوقت مش ضروري يكون المنديل وقع على سطحكم!
فهدأ «محسن» وابتسم لأنه ضللها، وقال في تخابث: أيوه، مش ضروري.
فقالت؛ وكأنما تخاطب نفسها: طيب، يكون بقا وقع على سطح مين؟
وفي الحال برق في رأسها خاطر، فنهضت بسرعة، واتجهت إلى الشرفة، ونظرت منها، ثم همست لنفسها وقد تفرَّست في قهوة «الحاج شحاتة» أمامها: يجوز … مستحيل … ليه؟ … لأ!
ثم أدارت نظرها إلى المنزل المجاور، ولكن إلى الدور الأسفل وهمست لنفسها: الدور اللي تحتهم له بلكون.
وتبعها «محسن» بنظره، دون أن يفهم معنى حركتها هذه، وقيامها إلى الشرفة، غير أنه أحس شعورًا كالانقباض.
وفي تلك اللحظة ظهرت «زنوبة» بباب الحجرة.
وينبغي أن تكون قد ذهبت حقيقة إلى الخياطة، أو أنها ذهبت إلى أي جهة أخرى بعيدة؛ كي تقضي كل هذا الوقت الذي مر من ساعة خروجها، وينبغي كذلك أن تكون قد أخفقت في خطتها التي اعتزمتها؛ لأن «مصطفى بك» وما زال جالسًا بقهوة «الحاج شحاتة»، ولم يغادرها قيد أنملة.
لمحت «زنوبة» وهي بالعتبة «سنية» تطل من نافذة الشرفة، فلم تتمالك أن صاحت بها منتهرة في لهجة غريزية شاذة خشنة: بتعملي إيه عندك في الشباك؟
فالتفتت «سنية» دهشة مبغوتة، ورأت «زنوبة» بعتبة الحجرة، فقالت كالمأخوذة: إنتي يا أبلا رجعتي؟
وتمالكت «زنوبة» نفسها، وفطنت إلى تلك الخشونة التي بدرت منها، فمشت وقالت بصوت هادئ، وهي تخلع إزارها، وتضعه على مقعد: خلاص درس «البيانو»؟
فأجابت «سنية» وهي تعود من الشرفة، وتجلس على كرسي: كسلنا عن الدرس النهارده، الوقت راح كله في الكلام، وانتي يا أبلا، رحتي فين؟
فارتبكت «زنوبة» قليلًا، ولكنها أجابت في الحال باختصار كمن يتحاشى الموضوع: الخياطة.
– طول الوقت؟
– آه …!
إلا أن «زنوبة» ذكرت في الحال تلك النصف الساعة التي طرحتها من الحساب، نصف ساعة ملعونة قضتها في «شارع سلامة» ذهابًا وإيابًا أمام القهوة، ومع ذلك فإن هذا الأحمق الأعمى لم يبدُ عليه أنه لاحظها.
صمت الكل لحظة، وأخيرًا التفتت «سنية» إلى «محسن» وقالت في رقة: واقف بعيد كده ليه يا «محسن بك»؟
وكان «محسن» متكئًا على طرف البيانو، لم يتحرك منذ ذلك الحوار بينه وبين «سنية»، وكان لا يفتر يفكر ويسأل نفسه عما تراها فهمته من كل حكاية المنديل هذه، وعما جناه هو أو استفاده من إخبارها به؟ وما هو الأثر أو النتيجة لكل ذلك عندها؟ … ثم حركتها الأخيرة وقيامها للشرفة … ما معناه؟ إن هناك أشياء مغلقة عليه، وقد بدأ يحس الخوف من غموضها هذا.
ودخلت عندئذٍ الخادمة السوداء تخبر بقدوم «مبروك»، وما كادت تلفظ اسمه، حتى كان حاضرًا أمامهم في الصالون بقفطانه الرسمي.
فحدجته «زنوبة» بنظرة استهزاء، وقالت: وانت بسلامتك جاي تعمل إيه هنا؟
فانخذل «مبروك» قليلًا، بعد أن كان داخلًا منفوشًا، وتنحنح، ثم أجاب في لهجة خطيرة: جاي علشان أقول لكم!
فقالت له «زنوبة» في تهكم لاذع: تقول لنا إيه يا ادلعدي؟
فسكت «مبروك» قليلًا، وقد أحس الخجل، ونظر إلى «سنية» في مسكنة، ثم نظر إلى الأرض، ثم أخذ ينظر حوله في حيرة كالبله.
وجعلت «زنوبة» تتأمل حركاته لحظة، ثم قالت فجأة: يا باي، یاختي ما له عامل زي الأهبل في الزفة؟! … ما تنطق!
فاعتدل «حنفي» في الحال، والتفت إليها وتنحنح، ثم قال: جاي علشان أقول لكم.
فلم تتمالك «زنوبة» وصاحت: ياختي … سمعنا دي ألف مرة.
فتجلد «مبروك»، وقال محتجًّا: مش تصبري عليَّ لما أقول؟
فقالت «زنوبة» في تهكمها: طب قول يا ادلعدي الخبر المهم … قول.
فسكت «مبروك» لحظة … ونظر إلى «سنية»، ثم إلى «زنوبة»، ثم تنحنح وقال بلهجة من يعلن أمرًا ذا خطورة: العشا.
فرنَّت عندئذٍ ضحكة سخرية من «زنوبة»، تصبب لها جسد الخادم عرقًا باردًا، وقالت في برود: هو ده الخبر؟ … يا دهوتي على كده؟ … بقا حضرتك جاي لابس قفطان الطلعة ومتهيأ أربعة وعشرين قيراط علشان تقول لنا الكلمة اللي لا طلعت ولا نزلت؟
وأرادت «سنية» الضحك، غير أنها رأت «مبروك» قد ارتبك، وصار في موقف الحرج، فلم تشأ أن تزيد إحراجه، أو أن تخجله أكثر من ذلك، بل إنها أرادت عندئذٍ أن تسري عنه، وتخلصه مما هو فيه فقالت مجاملة: والله «مبروك» في قفطانه، كأنه عمدة تمام.
فتقدم «مبروك» الخادم خطوة نحو «سنية» وتنحنح في كمه الواسع، ثم قال في جد: تصدقي بالله يا ست «سنية هانم» أنا كنت في زماني عمدة.
فلم يتمالك «محسن» من الضحك، برغم ما هو فيه.
ورفعت «زنوبة» رأسها، وألقت على «مبروك» نظرة سخرية، وقالت: في زمانك امتي يا نور عينى؟
فغمزها «مبروك» بطرف عينه متوسلًا إليها أن تسكت … ولكنها لم تسكت … لعله انتقام منه … واستطردت: إنت في زمانك كنت فلاح في الدوار، تنام وتقوم مع الجحش والعجلة والجاموسة، واحنا اللي جبناك البندر وهيأناك ومدِّناك، وعلمناك سكن البيوت، وبقيت بني آدم.
فوقع «مبروك» في إفلاس، وبدت عليه هيئة أضحكت منه الجميع. غير أن «سنية» بعد أن ضحكت، عاودتها في الحال الرأفة به، فقالت في حلاوة ساحرة: لا يا أبلا، ماتقوليش كده، والله «مبروك» يشبه تمام العمدة اللي في بلد بابا، بس عمدة بلدنا على عينيه نضارة.
فأحس «مبروك» بعودة اعتباره إليه بعد هذه الكلمات، فالتفت إلى «سنية» وقال: طب و«سيدنا الحسين» أنا عندي بلا قافية نضارة.
فضحك الجميع، وقالت «زنوبة» في الحال في لهجة لاذعة: نضارة! … اسم الله … تعمل بها إيه؟! لو كنت تعرف تقرا وتكتب كنا قلنا تقرا بها الجرانيل، دا انت حتى عليك عينين تندب فيها رصاصة.
فلم يجبها «مبروك» بل نظر إلى «سنية» وقال: یا ست «سنية هانم»، صدقيني أنا، وحياة دقن النبي أنا كنت عمدة بنضارة.
حتى «سنية» في هذه المرة لم تستطع كتم ضحكها، فانفجرت، واقترب «محسن» من «مبروك»، وقال له: يا مغفل … عمدة من غير نضارة أحسن، ما دام عينيه سليمة من الأصل.
ولكن كان عبثًا إدخال ذلك في رأس «مبروك».
بل إن «مبروك» لم يشأ قطعيًّا أن يصغي إلى هذا الكلام، والتفت إلى «سنية» وأشار لها بيده إشارة معناها: «ماتصدقيش إلا كلامي أنا».