الفصل الحادي عشر
كان اليوم التالي يوم جمعة … نهار راحة وسعة … و«حنفي أفندي» ورفاقه «أفراد الشعب» بالمنزل طول ذلك اليوم، في انتظار أكلة مهمة؛ كما هي العادة في هذا اليوم المفتوح؛ لذلك ما كاد «الرئيس حنفي» يسمع صوت المؤذن يدعو لصلاة الجمعة «حي على الفلاح»، فوق مئذنة مسجد السيدة زينب، حتى وضع كفه على معدته وصاح مظهرًا الجوع. ولم يمضِ قليل حتى حذا «سليم» اليوزباشي حذوه، ثم «محسن».
بقي «عبده» وحده لا يريد — في عناد — الاعتراف بالجوع … بل إنه جعل يقاوم رفاقه ويهديهم باللين، ويحضهم على التمسك بأهداب الصبر، خاطبًا فيهم؛ كأنه خطيب الجمعة، أن يتحلوا بالقناعة إذا أرادوا أن يبقوا أحياء يرزقون حتى آخر الشهر!
وسكت «الشعب» قليلًا، وظل «حنفي أفندي»، يسير في المسكن داخلًا في حجرة خارجًا من أخرى، يسلي جوعه، وأخيرًا قال فجأة: فين «مبروك» يا جماعة؟
فأجاب «عبده» في ثقة واطمئنان: في المطبخ.
ثم أردف قائلًا للرفاق: ربما رايحين ناكل النهارده عدس بجبته.
فقال «حنفي» وهو يدلك بطنه ويتأوه: بجبته وقفطانه؟
فأجاب «عبده» على الفور في شيء من الحدة: أيوه يا سيدي، بقفطانه وجبته وعمته، أمال عايز إيه حضرتك؟ أظن ناوي تعشم نفسك في ديك رومي محمر، في أيام زي دي؟
فأسرع «اليوزباشي سليم»، وقال وهو يضع يده كذلك على معدته: هس … ممنوع كلمة ديك رومي دلوقت، خطر، اسحبها. تف من فمك الديك الرومي!
وسكتوا قليلًا مرة أخرى، ثم عاد «حنفي» فضحك ساخرًا، وقال: والله مش باين لنا أكل النهارده.
وأردف «سليم» قائلًا: صحيح، أنا مش سامع صوت طبق ولا حلة ولا هون، ولا ريحة طالعة.
فقال «عبده» في غضب: قلت لكم عدس.
فأجاب الرئيس «حنفي»: والله المطبخ لا فيه عدس ولا ديك ولا «مبروك»!
فقال «عبده» في قلق: إزاي؟! … «مبروك»، مش في المطبخ؟
وفي الحال نهض الجميع في غير نظام ولا ترتيب وكبسوا المطبخ، ودهش الجميع إذ لم يجدوا أحدًا قط … وبحثوا بعدئذٍ في كل الحجرات، وفي حجرة النوم الكبيرة، وتحت أسِرَّتها الخمسة المصفوفة وتحت المائدة والكراسي. فلم يعثروا على رائحة «لمبروك» ولم يروا بالبيت غيرهم وغير «زنوبة» التي في حجرتها، لا تتدخل منذ اعتزلت مقاليد البيت والمطبخ.
وتساءل «سليم» في غيظ: يعني راح فين؟ … دلوقت غدا وساعة جمعة؟
فحك «عبده» رأسه بيده، وقال وهو يفكر: يمكن راح يصلي الجمعة.
فقال «سليم» في غيظ: ما شاء الله! … يصلي الجمعة واحنا ناكل بعضنا هنا، المغفل ده يصلي قبل ما يطبخ؟ … ونبقى نتغدى بصلاته؟
فقال «حنفي»، في تهكم: يمكن راح يدعي لنا المولى سبحانه وتعالى يحدف علينا صحنين طبيخ.
ولكن «عبده» صاح فجأة، كمن وجد شيئًا: هس! … اسمعوا … فهمت خلاص … أنا عارف «مبروك» راح فين … بقا هو ربما وجد الطبيخ يكلف مصاريف، طبعًا الطبيخ يكلف مصاريف، دا شيء بديهي؛ مثلا يشتري كبريت بإيه … و.
فقال «حنفي»، متهكمًا: بقى يعني هي علبة الكبريت أم مليم اللي عطلت الدنيا؟
فأسكته «عبده» بإشارة عنيفة واستطرد: قصدي الطبيخ غالي والسلام … دا شيء بديهي، ولذلك «مبروك» شخص ذكي يفهم … لاحظ كده، ونوى النهارده مثلًا يغدينا أكلة فسيخ، إيه رأيكم في الفسيخ! مش فكرة مدهشة؟
فقال «حنفي» مستفهمًا: دا استنتاجك انت بصفتك باشمهندس … والا.
وأردف «سليم» متممًا: والا أكيد راح يشتري.
ولم يختم عبارته لأن باب الفسحة فتح في تلك اللحظة، وظهر «مبروك» … فالتفت إليه الجميع بسرعة واستقبلوه قافزين؛ كمن يستقبل رسولًا من السماء.
غير أنهم لم يلبثوا أن لفظوا جميعًا صيحة واحدة: «مبروك» خالي الوفاض، بادي الأنقاض، لا يحمل لا عدس ولا فسيخ … شيء واحد فقط يحمله «مبروك»: نضارة جديدة «لنج» يضعها على عينيه.
وقف «مبروك» لحظة في مكانه ينظر إلى «الشعب» المأخوذ من خلال منظاره الجديد، ثم فجأة تقدم إلى «عبده» وبسط يده إليه بمبلغ ٤٥ قرشًا صاغًا وقال: أنا فكيت الجنيه اللي سلمته لي إمبارح، وآدي الباقي … خدوا فلوسكم بقا … أنا رفعت إيدي من الشغلة دي … المسألة مش نافعة يظهر من هنا لآخر الشهر … لكم رب اسمه الكريم.
بهت «عبده» وفتح فاه، ولم يجب بحرف، وجعل ينظر طويلًا إليه. ثم التفت إلى رفاقه، ثم عاد فالتفت إلى «مبروك»، وقال أخيرًا وهو ينظر إلى المبلغ الباقي من الجنيه: إيه الكلام اللي بتقوله ده؟
«محسن» وحده هو الذي فهم الموقف وتذوقه، فنظر إلى نظارة مبروك الجديدة وابتسم، ثم همس له: دلوقت «عمدة بنضارة»!
ظل «عبده» في دهشة، وهو يسدد عينيه تارة إلى النقود القليلة، وتارة أخرى إلى «مبروك»، حتى نبهه «سليم» بغمزة من ذراعه، وضرب بيده على كتفه قائلًا في تهكم: ما العن من ستي الا سيدي! … آدي حكومتك وميزانيتنا!
فهز «مبروك» كتفيه لهما، وقال في استخفاف: أنا لا كان ابويا حكومة، ولا أمي حكومة؛ ولا قلت لكم اعملوني حكومة، آدي فلوسكم. واعتقوني وابروا ذمتي، كرامة «لام هاشم».