الفصل الثالث عشر
عاده عبده، إلى المنزل قبيل المغرب بعد أن تباطأ في مهمته عند الجيران ما استطاع، ومن رآه عند عودته من أهل منزله ورفاقه أخذته الدهشة؛ فقد كان «عبده» ممتلئًا وداعة وخفة روح وانشراحًا إلى حد لم يعهده فيه أصحابه «الشعب» من قبل، وجعل يخرج من غرفة ويدخل أخرى، وهو يداعب «حنفي أفندي» بكلمات لطيفة، ويريد أن يبعد عنه لحظة تلك الكراريس التي كان مشتغلًا بتصحيحها؛ كي ينصرف إليه ويحادثه، غير أنه لم يجد منه إقبالًا كثيرًا.
فاتجه إلى «مبروك» الخادم يمازحه، مذكرًا إياه بمنظاره الجديد الذي اشتراه بمصروف البيت … حتى «سليم» ذو الابتسامة الصفراء، المتظاهر بالانهماك في قراءة إحدى الصحف ما نسي «عبده» أن يخطف منه الصحيفة بغتة؛ وكأنه يود أن يفاتحه بالكلام، غير أن «سليم» نظر إليه نظرة باردة، وأخذ الصحيفة من الأرض وعاد إلى القراءة، وهو يقول كمن يخاطب نفسه: جرى إيه؟ إيه أصل الهوسة دي؟
وسمعه «عبده»: فقال مازحًا، ولكن في شيء من الامتعاض: نعم يا سي «سليم»؟!
– ولا حاجة، بس يعني شايف إنك مظأطط قوي من غير مناسبة.
– بوجودك، لأن النهارده مانزلتش القهوة زي عادتك.
فلم يُجِب «سليم» وأخذ يطالع وهو يحرك شفتيه شأن المهتم بما يقرأ، دون أي شيء آخر، فتركه «عبده» ممتعضًا، والتفت إلى «حنفي»، فألفاه قد عاد إلى كراريسه يصححها، وكأن حمى العمل قد أنسته ما حوله، فشعر ببرود حوله تضايق له، ولم يجد أمامه سوى «مبروك»، فكلمه كلمتين ثم سئم، وتردد لا يدري ما يفعل.
إنه يحس نشاطًا غير عادي في كل جسمه، يدعوه إلى الكلام وإلى الحركة وإلى الحماسة، ولكنه إذ يبتغي ذلك اليوم لا يجد حوله إلا سكونًا … وإن كان «عبده» بطبعه يكره السكون قيراطًا فهو اليوم يكرهه أربعة وعشرين، ولا يتصور أن يهدأ إلى نفسه ويترك لها عنان الخيال ويبحث عن الوحدة؛ كما بحث عنها «محسن» في ظرف كهذا؛ لذلك مشى «عبده» في البيت لا يدري ما يفعل، وهو يود لو يجد من يصغي له ويثرثر معه.
واتجه أخيرًا إلى غرفة النوم العمومية فوجدها خالية، فأدار ظهره بسرعة يريد الخروج منها، وقد ضاق صدره سأمًا، وأحاط بقلبه الحار المتحمس الهائج غلاف من هذا السكون والوحدة … وقد تمثلت في تلك الأسِرَّة المرصوصة أحدها بجانب الآخر في غرفة النوم، فنظر إليها وقد أحس إحساسًا غريبًا لأول مرة.
أحس إحساس «محسن» تمامًا عندما عاد هو الآخر من منزل الجيران للمرة الأولى، أحس الاشمئزاز؛ إذ يعيشون خمسة في غرفة واحدة، غير أن «محسن» لاحظ ذلك، لأنه يطلب الانفراد والوحدة، كي يطلق لخياله العنان، ولكن «عبده» على العكس اشمأز لأنه شعر فجأة أن هذا الاتصال الوثيق بين خمسة يعيشون في حجرة إنما هو اتصال كاذب، وها هو ذا في وقت ما، يحس الوحدة والسأم؛ ولا يجد من يتحدث إليه ويفهم لغته.
واشتد ضيق «عبده»، وإن شخصًا عصبيًّا مثله لا يطيق طويلًا الصبر على حالة واحدة.
وهكذا غادره سريعًا ذلك المظهر الوديع الدمث المنشرح الذي جاء به الساعة، وعادت إلى وجهه تلك الملامح المقطبة العبوس المعهودة!
وما كان ينقصه إلا حجة بسيطة فينفجر «عبده» العصبي هائجًا صاخبًا كعادته.
•••
مضت بضعة أيام على ما تقدم، قضاها «عبده» قلقًا لا يدري ماذا يفعل بعد ذلك، كي يتصل بالجيران، ويخشى أن يكون ما وصل إليه حتى الآن هو كل شيء، ولم يكن «لعبده» برغم رجولته ونشاطه، ذلك النوع من الجرأة والصفاقة، التي بها يأتي عملًا إيجابيًّا ظاهرًا، بغير أن يهتم لكلام الناس!
لذلك لم يستطع أن يفعل أكثر من سؤال «زنوبة» وتكرار السؤال في كل يوم عما إذا كانت الأسلاك الكهربائية تسير سيرًا حسنًا في بيت الجيران، أو أن بها بعض خلل يستدعي الإصلاح، فكانت «زنوبة» تجيب بأنها على ما يرام، فكان «عبده» يلح في شيء من الجفاء العصبي قائلًا لها: وانتي إيش عرفك؟ مش تسأليهم؟
ولاحظ رفاقه منه ذلك الإلحاح، فكان «محسن» يقول في لهجة باردة جافية: الكهربا ماشية كويس قوي.
ولكن «سليم» المغتاظ لم يكن يترك الفرصة تمر، دون أن يتهكم بكلمة أو كلمتين قائلًا: يا سيدي الكهربا ماشية عال العال، لازم تنخرب بالزور؟ يا سيد شوف لك شغلة غير دي.
وتضايق «عبده» أخيرًا، فصرخ في وجهه: وانت ما لك يا بارد؟
فقال «سليم» في لهجة مستنكرة، ولكن هادئة: أنا بارد؟
– ستين بارد.
– شاهدين يا جماعة؟
– ما لك تنحشر في شئوني؟
– الله يسامحك، أنا غلطان.
وسكت، وأخذ «محسن» ينظر إليهما، ولم تكن «زنوبة» موجودة؛ فقد صعدت السطح تنشر الغسيل بمساعدة «مبروك» ولم يكن حاضرًا سوى «حنفي» … غير أن «رئيس الشرف» كان في سريره ولم يشأ أن يتدخل بكلمة لإصلاح ذات البين، اللهم إلا أنه قال ضاحكًا من تحت اللحاف: ما هو ده كلام طيب، تزعل ليه يا سي «عبده»؟ حيث إن الكهربا راحت عليها، ابحث لك عن شغل تاني، مش تعرف تصلح مثلًا وابور الجاز واللمض … والشماسي؟
فالتفت إليه «عبده» وقال في ازدراء: نعم! … وانت كمان حضرتك يا ابو لحاف؟! … نام … نام أحسن لك، ماتخلنيش اتكلم.
فأجاب: «حنفي أفندي» على الفور، وهو يجذب لحافه فوقه: أنام؟! … وأنا طايل النوم؟ في المدرسة أدخل الحصة، الفصل يعمل شوشرة، وفي البيت أدخل السرير تحصل شوشرة، غلبت وغلب حماري.
ثم أحكم الغطاء، وأغمض عينيه، وأدار ظهره للجميع: وأعطى الحائط وجهه، وأخذ يغط ناخرًا مستدرجًا النعاس، ولم تمضِ لحظة حتى علا شخيره، فالتفت «محسن» إلى «سليم» في شيء من التودد والثقة وقال كالهامس، مشيرًا إلى «حنفي» النائم، بعد أن نظر إلى «عبده» المبتعد نظرة تحاشٍ وتجافٍ: عمي «حنفي» ده … يا خسارته، ماعندوش غير النوم.
فرد «سليم» في ازدراء ورثاء: أنا عارف ده مدرس ازاي؟ لازم اللي زي ده التلامذة مستغفلاه.
•••
لم يكن «محسن» مطمئنًّا في صلته ببيت الجيران برغم تردده عليهم؛ فهو حتى الساعة لم يفهم دخيلة «سنية» وما زال يرى فيها سرًّا غامضًا عليه؛ وقد أحس لأول مرة شيئًا غريبًا في قلبه نحوها ونحو «عبده»، يوم ذهب هذا الأخير لإصلاح الأسلاك!
فقد لاحظ «محسن» بعض تصرفات من «سنية» لم ترقه، غير أنه لم يظهر على «سنية» أي تغير نحوه مما يؤكد إحساسه الغريب؛ لذلك ما لبث أن فارقت قلبه تلك السحابة، ولو أنه ما زال متخوفًا غير مرتاح «لعبده»، وقد تيقظت في قلبه نحوه مشاعر دنيئة كان يقشعر لها … إن أفعال «سنية» البسيطة ذلك اليوم أوحت إليه ذلك الوحي المرعب … إن النساء قبل كل شيء يهِمن بالرجل القوي الجسم، الممتلئ طولًا وعرضًا، ذي الصوت الخشن، مدفوعات بدوافع خارجة عن إرادتهن … لعلها الغريزة الجنسية، ولعله هو بالنسبة «لعبده» ما زال طفلًا أو غلامًا، لا يوحي إلى المرأة تلك العاطفة، وأخذ «محسن» يتذكر صوت «عبده» وهو يرتفع في صالة الجيران، وساعديه القويين، وهما يضعان السلم الخشبي بقوة على الحائط.
فكان هذا يعذبه في دخيلة نفسه، ولا يعلم ولا يستطيع إبداء علة لهذا الشعور المبهم، الذي يخزه، والذي يحرضه على كراهية «عبده»!
وقد ساعد على تولد هذا الشعور عند «محسن» موقف «عبده» حياله بعد مجيئه من بيت الجيران، فإنه بدل أن يخاصم «محسن» ويغضب ويغتاظ منه؛ كما سبق أن فعل معه مرة، فإنه لم يهتم هذه المرة «بمحسن» ولا بوجوده، بل كانت كل تحركاته زهوًا كمن يشعر بفوزه المطلق … ولم يحسب «لمحسن» حسابًا، وحتى لو كان في فكره أحد يستحق المخاصمة في نظره، فليس هو «محسن» الصغير؛ بل هو آخر جدير بمنازلته في هذا المضمار: رجل مثل «سليم»!
أحس هذا كله «محسن» الصغير بفؤاده الذكي الواعي، فخامره شك في نفسه، وأوجعته وآلمته تلك الفكرة: إنه صغير لا يصلح حتى أن يعد غريمًا ومزاحمًا.