الفصل الثامن عشر
انتهى «مبروك» الخادم من أمر «الطرد»، ووضعه جانبًا، واقترب يسأل عما يلزم بعد ذلك تأهبًا لسفر «محسن»، فنهضت «زنوبة»، في نشاط واهتمام؛ كأنما تتملق محسن الآن وقد قرب سفره؛ كي يذكرها بالخير لدى أهله الموسرين، وأمرت «مبروك» في الحال أن يصعد إلى حجرة السطح ويأتي بحقيبة «محسن»، وأشارت للفتى أن ينهض أيضًا ليدلها على ما يأخذه معه من حاجاته وما يتركه في حفظها حتى يعود، وهكذا أخذا يجردان ويفرزان الملابس والحاجات، وإذا «مبروك» بأعلى السلم يصيح «بزنوبة» مناديًا، فهرعت إليه فأخبرها أن «سنية» على سطح منزلها تريد محادثتها. فصعدت «زنوبة» وظل «محسن» وحده، وقد دق قلبه وتساءل عما تريد قوله الآن، ومر نحو ربع ساعة، ونزلت «زنوبة» تستأنف عملها، فنظر إليها «محسن» بأعين المستفهم، ولكنها كانت ملتفتة إلى جلباب له في يدها تثنيه؛ لتضعه في الحقيبة، وهي تقول: إياك تنسى الجوابات يا «محسن»، اكتب لي أنا رخره، مش بس تفكر في اعمامك وأنا لأ، زي السنة اللي فاتت!
فأجاب «محسن» بلطف: السنة اللي فاتت عمي «حنفي» كتب لي رديت عليه، وبعت لك السلام … مش اللي يكتب لي أرد عليه؟
فقالت «زنوبة» على الفور: يا عيني عليَّ … بس لو كنت أعرف اقرا واكتب؟ يا ما غلبت السنة اللي فاتت اقول لاعمامك يكتبوا لي جواب وهم ساعة يكسلوا، وساعة يقولوا بعتنا من طرفنا، بزيادة … هي سيرة جوابات! … لكن السنة دي والنبي لازم يوصلك مني جواب خصوصي … «سنية» اسم الله عليها رايحة تكتب لي.
فاضطرب «محسن»، وقال مندفعًا: «سنية»؟
فهزت رأسها إيجابًا، وقالت له إن «سنية» نادتها الساعة لتستعجلها في الذهاب إليهم كسابق وعدها، ولكنها اعتذرت بانهماكها في تجهيز أمتعة «محسن»، فلما جاء ذكر «محسن» قالت «سنية» لزنوبة في رقة: ألا تنسى تذكر سلامها وسلام والدتها كلما كتبت إليه. فأخبرتها «زنوبة» أنها في حيرة؛ إذ إن إخوتها لا يكتبون لها أي جواب إلا بالإلحاح المضني؛ ففي الحال عرضت «سنية» أن تقوم هي بكتابة ما تمليه عليها «زنوبة»، وأنها مستعدة أن تكتب لها إلى «محسن» كل ما تريد: خطابًا، خطابين، ثلاثة … فشكرتها «زنوبة»، وفرحت حامدة الله إذ أغناها عن الاعتماد على مثل «حنفي».
غير أن فرح «زنوبة» لا يقاس إلى جانب فرح الفتى «محسن» الداخلي، وهو يتصور خطابًا يصله مكتوبًا بيد «سنية» … ورقص قلبه رقصًا، وجعل من الآن يرحب بالسفر، لا لشيء سوى انتظار هذا الخطاب المحبوب.
جاء الليل والتف «الشعب» حول «محسن» قبل أن ينام، يودعونه ويذكرونه بما يطلبون من الأرياف من هدايا يأتيهم بها عند عودته؛ فالبعض يطلب «برام أرز بالحمام»، والبعض يطلب لبنًا «رايب» و«بتاو» … إلخ … إلخ.
ودخل «محسن» سريره فرحًا وهو يوصي «حنفي» بسرعة الاستيقاظ في الصباح؛ إذ إن السفر في أول قطار، وكان على «حنفي أفندي» مهمة مرافقة «محسن» إلى المحطة وقطع التذكرة له بصفته رئيس الأسرة المسئول.
ولم ينم «محسن» تلك الليلة؛ فقد ظلت صور يومه اللذيذة تتعاقب في مخيلته، وظل يرقب الصبح بفارغ الصبر اغتباطًا بالسفر حيث يرى أهله بعد طول غياب، ويرى الريف، وبالأخص ينتظر الخطاب الموعود.
وبدت تباشير الفجر، ثم دق جرس المنبه، وكانوا قد هيئوه البارحة على الساعة الخامسة، فنهض «محسن» قافزًا، واتجه توًّا إلى سرير «حنفي»، وهو يعلم أنه عمل شاق إيقاظ «حنفي».
ورفع عن رأسه الغطاء وناداه فلم يُجِب فكرر النداء مرة … ومرتين … وثلاثًا، بلا فائدة.
وأخيرًا تقلب «حنفي أفندي»، في فراشه وقال متبرمًا: يا سلام! … تقلق منامنا نص الليل! … دا ماكانش سفر!
فصاح به «محسن»: نص الليل ازاي؟ … الشمس طلعت.
فدمدم «حنفي» والنوم ملء جفنيه: هو لسه الجرس ضرب؟
فقال «محسن»، متهكمًا: هوه … هوه … إنت نايم! دا ضرب وشبع ضرب.
فلم يقنع «حنفي»، بادئ الأمر، وطفق «محسن» يقنعه بالكلام، وطالت بينهما المناقشة والجدل في الساعة والمنبه وضرب الجرس، وكلها مماطلة واستفادة وقت ينامه «حنفي» … وسمع «عبده» أخيرًا المجادلة فنهض مغضبًا، وذهب إلى «حنفي» وأيقظه بالطريقة المعهودة قائلًا: إن «حنفي» لا ينفع فيه غير ذلك.
•••
ما انتصفت السابعة حتى كان «حنفي» و«محسن» في محطة باب الحديد، وقد وقف «محسن» و«طرده» وحقيبته تحت ساعة المحطة في انتظار «حنفي» الذي ذهب لقطع التذكرة منذ ربع ساعة ولم يعد … وتململ «محسن» في موقفه ونظر إلى الساعة في قلق، وقد رأى المسافرين يهرعون أفواجًا إلى القطار الواقف … ومضت دقائق أخرى، وبقي على تحرك القطار خمس دقائق ولم يظهر «حنفي».
ودق الجرس الأول فالتفت «محسن» يمينًا وشمالًا مضطربًا باحثًا بعينه، ولكن «حنفي» لم يبد له أثر … ومر الوقت، والناس المتأخرون يجرون نحو القطار، والحمالون يصيحون أن لم يبقَ غير دقيقة، وأخذ الفتى في يأس ينظر إلى عقرب الساعة الكبيرة فوق رأسه، وأخيرًا صاح العامل: «إوعى رجلك»، وصفَّر القطار وتحرك رويدًا رويدًا، ثم غادر المحطة، حتى اختفى عن الأنظار، كل ذلك و«حنفي» لم يرجع بعد.
كظم «محسن» غيظه وأراد أن يستدعي حمالًا يعهد إليه بأمر العفش، ريثما يذهب هو للبحث عن «حنفي»، وإذا فجأة «الرئيس شرف» يظهر آتيًا يجري، والتذكرة في فمه وهو يتصبب عرقًا، فلما دنا من «محسن» مد له يده بالتذكرة وصاح به: خذ اركب قوام الا مفيش وقت.
فنظر إليه «محسن» نظرة باردة، وقال له بفتور وغيظ وقد جمد في مكانه: هو فين القطر؟
فالتفت «حنفي» إلى حيث يقف القطار عادة فلم يره، فاطمأن وهدأ وأخرج منديله، ومسح جبينه، ثم قال: لسه ما جاش؟ … مش قلت لك احنا قمنا بدري؟
فاستشاط الفتى، وقال ساخطًا: ما جاش؟! … القطر قام من مدة ساعة.
فأجابه «حنفي» وكأنه غير مصدق: كلام إيه؟ … قام؟ … إنت متأكد؟
فقال له «محسن» ببرود: إنت كنت فين؟ رحت فين حضرتك؟
فأجاب «الرئيس شرف»: يا أخي رحت اقطع لك التذكرة، لقيت الناس زحام كده على الشباك، قمت قلت في عقل بالي اقعد انتظر شوية على الدكة.
– أي دكة؟!
– أنا عارف؟ … دكة خضرة هناك بمسند.
فأضاف «محسن» بسرعة في غيظ مكتوم: قامت راحت عليك نومة!