الفصل الأول
ركب «محسن» القطار التالي، وما كاد يستقر في مقعده بركن «الديوان» قرب النافذة، حتى انعزل عن بقية المسافرين، وانطلق إلى نفسه وخيالاته وتذكاراته و«سنية» وموقف الأمس … إلخ … إلخ.
وذهب عنه صخب المحطة وقلق الانتظار، وشغل السفر واستعداداته وتمهيداته. وها هو ذا الآن أمام الواقع، وقد ابتعد به القطار عن مصر المحبوبة، وقد ترك «حنفي أفندي»، على الرصيف يجري خلف القطار، ويشير إليه بعلامات الوداع، ويصيح في سذاجة مؤثرة: «مع السلامة يا محسن».
هذا «الرئيس حنفي»، الذي كان «محسن» ساخطًا عليه منذ قليل.
ما أطيبه نفسًا! لقد حمل له «الطرد»، والحقيبة، حتى أدخلهما عربة الدرجة الثانية، وهو يتصبب عرقًا.
أهو في حقيقة؟ … أغادر مصر حقًّا بهذه السرعة؟ وأعمامه الرفاق «الشعب»، و«حنفي» «الرئيس شرف»، أسيبيت الليلة في بلد آخر وفي سرير آخر؟ … تأثر «محسن» قليلًا، واكتأب ولم يرفه عنه إلا تذكُّره أن سفره لمدة قصيرة، وأنه سيحظى بخطاب «سنية»، ذلك الخطاب الذي ينتظره من الآن ولما يبرح بعد … والذي سيكون أثمن ما يملك في الحياة.
ثم … شيء آخر سيعزيه عن مصر: رؤية والدته العزيزة ووالده.
التفت «محسن» بعدئذٍ إلى من معه من المسافرين، فإذا هم عديدون: ما بين معمم ومطربش، وقد امتلأ بهم «الديوان» حتى لم يبقَ فيه محلٌّ خالٍ، وكانوا إلى تلك الساعة ساكنين، غير أنهم كانوا يترامقون؛ كأنما هم لا يطيقون الصمت والعزلة، ويودون لو يهم أحدهم بالكلام.
ولم يلبثوا أن أطل عليهم رجل ضخم الجسم، يلبس قفطانًا من الجوخ. ويحمل «صرة» … وأخذ يتفرس في وجوههم، كأنما يسألهم محلًّا خاليًا وكانوا قبل ذلك يرونه في ممر العربة المستطيل، جيئة وذهابًا بصرَّته، باحثًا عن مقعد، فتناظروا لحظة، ثم أفسح أحدهم بجانبه شبرين، حاشرًا الباقين عن يمينه وعن يساره حشرًا صارمًا، وقال للرجل: تفضل يا حضرة، كلنا مسلمين نساع بعضنا.
فدخل الرجل بصرَّته وجلس … وعندئذٍ مال أفندي من «ركاب الديوان» على جاره، وحادثه بصوت بدأ خافتًا خاضعًا، وانتهى بعد لحظة جهوريًّا علنيًّا؛ كأنما يريد به إشراك الباقين في الإصغاء إلى ما يقول، وأخذ الباقون حقيقة يحولون الأنظار إليه في لذة وانتباه، كأنما هم ينصتون إلى خطيب في مسجد أو واعظ في كنيسة.
وشجع المتكلم إقبال الحاضرين، فاندفع يتسلسل من موضوع إلى موضوع. وكان قد استهل كلامه بمناسبة إفساح المحل للراكب الجديد، فذكر في إعجاب، عواطف الارتباط والتضامن القلبي، بين أهل مصر، وقال: لو أن هذا حدث في أوروبا لما تحرك أحد من المسافرين، ولو كانت تجمعه والقادم صلة معرفة أو صداقة؛ فهو لن ينقص من راحته لأجل أحد مهما يكن.
ثم أردف قائلًا على ذكر أوروبا إنه كان مرة راكبًا قطارًا في إحدى بلدانها.
وهنا قاطعه أحد الركاب المعممين في إكبار ساذج: حضرتك رحت بلاد بره؟
فأجاب «الأفندي» بابتسام وتواضع.
– رحت بلاد النمسا وبلاد الإنجليز وفرنسا؛ لأنه كان لي أشغال تجارية.
وعاد «الأفندي» إلى موضوعه، وقال إنه كان مرة راكبًا القطار في أوروبا، وقضى فيه يومًا وليلة دون أن ينبس ببنت شفة لا هو ولا أحد من جيرانه المسافرين معه في ذات الديوان، كأنما كل فرد منهم ابن كوكب غير كوكب الأرض، لا أنهم كلهم بشر لهم قلب واحد، وعواطف واحدة.
فتنحنح شيخ في ركن الديوان، ثم قال: بلاد مافيهاش إسلام!
فلم يُجِب «الأفندي»، وتغير لون وجهه قليلًا، ومد يده متشاغلًا ينفض تراب السفر عن طربوشه، في شيء من الخجل والامتعاض.
وعندئذٍ لاحظ أحد الركاب في معصمه علامة الصليب، فأيقن أن الشيخ قد فاه عن حسن قصد بكلمة أسيء فهمها، فتدخل مصلحًا بلطف: قصدك يا سي الشيخ بلاد مافيهاش قلوب … مش زي بلدنا سواء أقباط أو مسلمين … كلنا إخوان.
ولاحظ أيضًا راكب آخر ذلك، وكان من المتنورين، فدخل في الحديث وأخذ يستدرك الكلام بكياسة حتى وصل إلى إفهام الحاضرين، أن كلمة «إسلام» الشائع استعمالها وترديدها في مصر بين بعض الأوساط ليس لها في الحقيقة أي صبغة دينية أو طائفية؛ وإنما معناها ومغزاها عاطفة الرحمة وطيبة القلب وارتباط الأفئدة، عواطف يجدها الإنسان في مصر ولا يجدها في أوروبا، حيث فشا في نفوس الإفرنج سم النفعية، وعم التكالب على المصالح الشخصية الفردية.
فتأمل الجميع من معمم ومطربش هذا الكلام وهذا التفسير؛ وكأنه كشف لهم عن حقيقة كانت من قبل متوارية تحت لبس تلك الكلمة، واستحسنوا الكلام وأعجبوا به، وختم الموضوع.
وجاء واحد من الحاضرين، يريد العودة بالأفندي، المتكلم الأول، إلى حديثه، فقال له: بقا يا حضرة الافندي في بلاد بره يطيق الواحد مايكلمش جاره في الوابور؟
فدخل آخر قائلًا: طيب دا الواحد منا، ولا مؤاخذة، يركب قطر السكة الضيقة نص ساعة ينزل عارف اللي راكبين كلهم.
وقال ثالث: وليه نروح بعيد، أدحنا لسه ماوصلناش بنها، وحلت لنا البركة بحضراتكم.
ثم أخذ يجيل بصره فيهم فردًا فردًا مبتسمًا؛ كأنما يحييهم.
وأخيرًا وقع نظره على الفتى «محسن» قابعًا منزويًا، ولم يحس أحد وجوده … فوقفت عنده عيناه قليلًا؛ كأنما استغرب سكوته وقد تكلم الجميع؛ وكأنه أراد إخراجه من عزلته، فانحنى عليه بأدب، وقال له بلطف: مش كده والا إيه يا افندي يا صغير؟
فالتفت إليه الفتى حائرًا، وتمتم في حياء بضع كلمات، ثم أدار وجهه إلى النافذة، عائدًا إلى سكوته وعزلته، فانصرف عنه محدثه ولم يلح، ونسب ما رأى منه إلى صغره وخجله وأدبه أن يتكلم وسط من هم أكبر منه سنًّا.
وعاد الجميع إلى الكلام في شتى الموضوعات حتى بلغوا محطة بنها، فأطل بعضهم من النافذة واشترى كعكًا وبيضًا وبرتقالًا ويوسفافانديًّا، وفرش بعضهم منديله في حجره وهو يعزم على الحاضرين: تفضلوا معانا.
فيجيبون: عشت.
وتحرك القطار وغادر «بنها»، واشتغل الركاب برهةً بالأكل، إلا «الأفندي» المتكلم أولًا، عاد يقول ملاحظًا: بمناسبة «تفضلوا معانا» يبقى الراكب من دول في أوروبا يطلع السجاير، وياكل ويشرب، ولا يقول لجاره انت فين!
فاستغفر الحاضرون مستنكرين، وأخذ كلٌّ يبدي رأيه في ذلك واستطرد «الأفندي» يقول مفاخرًا: أهل مصر شعب أصيل عريق، فين ٨ آلاف سنة واحنا في وادي النيل، وكنا نعرف الزراعة والفلاحة، ولنا قرى ومزارع وفلاحين وقت ما كانت أوروبا لسه ماوصلتش حتى لدرجة التوحش.
فقال الرجل ذو «الصرة»، بعد أن بصق بصقة كبيرة من النافذة: صدقت … الرك على الأصل يا سيدنا «الافندي».
وهنا قال «الأفندي» المتنور؛ كأن فكرة بدت له: لك حق يا افندم، إحنا من غير شك شعب اجتماعي بالفطرة. والسبب هو اننا شعب زراعي من قديم الأزل، في الوقت اللي كانت فيه الشعوب الأخرى تعيش عيشة الصيد والتوحش والانفراد، كل قبيلة أو كل أسرة في مكان … لكن احنا من قبل التاريخ، كانت القرى، وكان العمار ساكن وادي النيل، الاجتماع في دمنا، والحياة الاجتماعية طبيعة نشأت فينا من أجيال.