الفصل الثاني
وصل القطار أخيرًا إلى محطة «دمنهور»، فأطل «محسن» على الرصيف، ووجد بانتظاره البربري «السفرجي» والأوسطى «أحمد الحوذي»، وما كادا يتعرفانه حتى تعلقا بمركبة القطار وصاحا: حمد الله على السلامة يا بيه!
– شيل العفش يا «بلال» واسبق.
– والبيه الصغير؟
– أنا أوصل البيه الصغير؟ … تفضل يا بيه.
وهكذا نزل الفتى وسار بين الخادمين كالمستغرب، وكلمة «بيه» ترن في أذنه رنينًا غريبًا. غير أنه لم يكره ذلك هذه المرة، وشعر بشعور غريب من الخيلاء، وود لو أن «سنية» كانت حاضرة لترى وتسمع.
وركب العربة ذات الجياد، تتهادى به وسط هذه المدينة المتواضعة، والناس على جانبَي الطريق في المقاهي والدكاكين ترمقه، وكأنها تتساءل عن هذا الفتى الراكب عربة الوجيه المعروف. وبلغ المنزل وإذا والدته تنتظره بأعلى السلم، فما إن رأته حتى فتحت ذراعيها، وما إن رآها حتى اندفع إليها في حركة غريزية، وإذا هما متعانقان والأم تلمع في عينيها دموع التأثر والفرح. وكلما فرغت من عناقه عادت إليه.
وأخيرًا أخذت تفحصه من رأسه إلى قدميه، وتجسه، وتلمس أعضاءه؛ كأنما تتفقدها عضوًا عضوًا، وفي النهاية ابتسمت، وقالت له: بسم الله ما شاء الله … إنت سمنت يا «محسن».
ثم أدخلته إلى الردهة وأجلسته بجانبها، وطفقت تسأله عن «مصر» وعن عمته وأعمامه، وعندئذٍ دخل أبوه، فنهض «محسن»، وهرع إليه يقبل يده، ثم وقف حتى جلس أبوه فجلس. وحينئذٍ سأله أبوه: إيه يا «محسن»؟ … إزاي امتحان وسط السنة؟
فتململ الفتى قليلًا، وقال: مفيش السنة دي امتحان وسط السنة، لغوه.
فقال أبوه في شيء من الدهش والأسف: لغوه؟ إزاي! مالهمش حق أبدًا.
وطفق بعدئذٍ يسأله عن الدروس وعن أساتذته، وعن امتحان الكفاءة الذي سيتقدم إليه «محسن» هذا العام، إلى أن تدخلت والدته قائلة لزوجها منتهرة: يا باي عليك! مش تصبر عليه لما ياخد نفسه؟ أيوه اسأله الأول عن صحته وعن صحة اعمامه، إيه قلة الذوق بتاعتك دي؟
ثم نظرت إلى حذاء زوجها وقالت: برده لابسها؟ مش قلت لك اقلع جزمتك دي؟ … مايليقش بمقامك أبدًا تلبس جزمة زي دي، إنت عندك جزم كتير … ليه بقا تلبس دي؟ إنت مركزك مش صغير في البلد.
فأجابها الزوج وهو يخلعها: أنا نسيت، حاضر يا هانم، ماتزعليش.
– يا علي … يا علي!
فلبى نداءه بربري آخر، غير الذي رآه «محسن» بالمحطة، وكان لابسًا قفطانًا أبيض، ومتمنطقًا بحزام أحمر، فأمره البك الكبير بإحضار حذاء آخر على عجل.
وجعل الفتى «محسن» عندئذٍ يجيل النظر فيما حوله من طنافس غالية، ورياش فاخرة، ونقل بصره في أدب إلى والدته، ونظر إلى ما عليها من ملابس ثمينة.
وكانت والدته في تلك الأثناء تنظر إليه هي الأخرى، فما لبثت أن قالت: لبسك مش عاجبني يا «محسن».
فغمغم الفتى بكلمات مبهمة، واستطردت الأم تقول: إنت ماطلعتش زيي أبدًا.
وهنا تنحنح أبوه، وقال: ولا زيي.
فالتفتت الزوجة إلى زوجها، وقالت في تهكم: من إمتى يا حضرة العمدة الفلاح … إنت تنكر إني أنا اللي مدنتك، وعلمتك الأبهة؟
فأجاب زوجها متقهقرًا: الله … وأنا قلت حاجة؟ طبعًا انتي يا هانم تركية بنت أتراك.
فسكتت قليلًا، ثم انصرفت عنه إلى «محسن» وقالت: صحيح شيء غريب … «محسن» ماطلعش زيي، من صغره كان يبكي ويصرخ نهار ما نبعت له العربية الملاكي على باب المدرسة … فاكر؟
فقال أبوه وهو يشد جواربه الحريرية الغالية: فلاح … تقولي له إيه؟
فأطرق «محسن» لدى سماعه هذه الكلمة، وقد أحس عاطفة كالازدراء، لا يدري ألنفسه أم لغيره؟
•••
مُدت مائدة العشاء، وجلس إليها «محسن» ووالدته ووالده، وجعل «بلال» البربري و«علي» البربري — وكلاهما بملابسه البيضاء وحزامه الأحمر، كأنهما من برابرة «فندق شبرد» يتنقلان بالصحاف والأواني ذات الألوان المتعددة والأطعمة اللذيذة، ومع ذلك كان «محسن» فاقد الشهية للأكل، يتناول من كل لونٍ لقمة، كأنما يقضي واجبًا عليه، ولاحظت والدته قلة أكله، فسألته في ذلك قائلة: ما لك يا «محسن»؟ … الأكل مش عاجبك؟ … عند اعمامك الأكل أحسن؟
فكاد الفتى يضحك؛ إذ ذكر قصعة الفول النابت، وورك الإوزة، الذي قذف به «عبده» من النافذة، ومع ذلك فقد كان هذا الفول النابت لذيذًا في فمه، لذيذًا وهو يلتهمه، وبجواره «مبروك» الخادم، يرشف نصيبه وعيناه اللامعتان ترمقان الدخان المتصاعد، وخياشيمه تستنشقه في شهية قوية، ثم «حنفي الرئيس شرف»، وباقي الجماعة، وهم مجتمعون حول هذه القصعة كأنها كعبة.
ما أسعد الجماعة! وما أحسن تلك الحياة مع الشعب! نعم لهذا كان يأكل، ولهذا سمن مع سوء الغذاء وقلة الألوان.
•••
وجاء ميعاد النوم، وقادوا «محسن» إلى حجرته الخاصة، حجرة جميلة غالية الفرش، وأغلق عليه الباب، وقد أوى كل إلى مخدعه، فتأمل «محسن» ما حوله فإذا سرير واحد، وإذا هو وحده، بمفرده، وإذا الهدوء شامل، والسكون كأنه سكون الموت، فاكتأب لهذه الوحدة وأوحشه المكان وحن إلى سريره بجوار أسرَّة أعمامه في تلك الغرفة «العمومية» ذات الخمسة الأسرَّة، ينحشر فيها «الشعب» بأجمعه حشرًا، واشتد به الحنين ولما تمضِ به ليلة، حتى أدرك أنه كان هناك في نعيم، وأن هناك إنما هي الحياة، وما كانت أهنأها حياة، حياة الجماعة تلك … حتى في متاعبها ولحظاتها الشقية!