الفصل الثالث
استيقظ «محسن» في اليوم التالي، ضيق الصدر، ضجر النفس. وجعل ينتقل في أرجاء المنزل الرحب، ويتأمل ما يقابله من أثاث أنيق، ومقتنيات فاخرة، تأمُّل غير المكترث. إلا أنه ذكر «سنية» فجأة فتغير شأنه، وانتعش فيه شيء من الزهو، فأقبل ينظر إلى ما حوله من جديد في اهتمام. وجاءت والدته إليه ترفل في ثوبها الجميل، فنظر إليها «محسن» معجبًا، وود لو أن «سنية» رأت والدته هذه … ومر أبوه في بذلة غير بذلة الأمس، وفي يده عصا ثمينة ثقيلة، عليها نقوش ذهبية بديعة، فذكر الفتى في الحال كلمة والده بالأمس.
– فلاح … تقولي له إيه!
فخجل قليلًا من نفسه، واستغرب كيف أنه ابن لهذين الوالدين، ولا يكون مثلهما. ووطَّن نفسه على التشبه بهما من الآن؛ فهو ليس بعدُ صغيرًا، وعليه أن يفهم حقيقة مركزه، وارتاح لهذه الفكرة، فراح يتقرب إلى والدته، ويتمسح بها، كأنما يطلب إليها أن تطلعه على أسرار حياة الأبهة هذه أو أن تُفهمه أو تجعله يتذوق تلك الحياة.
ولكن هذا كله كان وهمًا، وما كاد اليوم الأول ينصرم حتى عاد الملل يقتل «محسن»، وذهبت عنه الحماسة والنشوة، وذهب الخيلاء.
وأحس تلك الحقيقة في قرارة نفسه، إنه غريب بين أهله، وإن شيئًا لا يستوضحه يفصل بينه وبين والديه، وإنه مهما صنع فلا بد من تلك الكلفة والغموض بينه وبينهما، فليدعواه فلاحًا ما شاءا؛ فهو لن يستطيع أن يعيش كما يريدان. إنه في حاجة إلى تلك الحرية، وذلك الهواء الطلق الذي كان يستنشقه بين أعمامه السذج المتواضعين ومهما كان من أمر هذا المنزل بخدمه ونعمه؛ فهو يغل نفسه بأغلال ثقيلة لا طاقة له بها.
وانشرح صدره لهذه الخواطر فأمعن فيها بروح ثائرة، لم يعهدها فيه من قبل. وكانت كلمة فلاح التي لفظها أبوه أمس ما زالت تذل نفسه، فثار في سره على أبيه وجعل يستعرض في ذهنه شخصية أبيه ونشأته. أليس هو فلاحًا أيضًا قبل كل شيء؟ أولم يكن فلاحًا من ذوي الأطيان ولا يزال؟ ما الذي غيَّره؟ أهي ملابسه وعصاه الثمينة وأحذيته وجواربه وخواتمه الماسية!
أليس هو التقليد؟ أليست هي والدته التركية الأصل التي أثرت في أبيه باسم التمدن؟ … نعم، ولكن بأي حق يزدري الآن الفلاح؟! ألأن الفلاح فقير؟ وهل الفقر عيب؟!
وهكذا ظل «محسن» يقلب في رأسه أفكارًا من هذا النوع، وهو يتبرم بالمكان ويستوحش هذه الحياة، ولا يتصور كيف يقيم كذلك عشرة أيام وهو المتبرم باليوم الأول. وحن إلى منزل أعمامه حنين السمكة إلى مائها، وخطر له أن يتذرع بحجةٍ للسفر، والرجوع من حيث أتى … غير أنه ذكر خطاب «سنية» الذي ينتظره، فسكت وأذعن وذكَّره ذلك بوجوب الكتابة إلى أعمامه يخبرهم بوصوله، فنهض لفوره إلى المكتب وأخذ يكتب لهم خطابًا يصف فيه شوقه الصادق. ثم أفرد خطابًا خاصًّا لعمته «زنوبة» يسلم عليها فيه ويرجو منها تبليغ سلامه إلى «سنية هانم» بعبارات غاية في الرقة؛ وكأنه يتوقع أن تطلع «سنية» على هذا الخطاب، فكتبه، كأنما يكتبه لها.
•••
لاحظت والدته سأمه، فأشارت عليه بالنزهة في العزبة بضعة أيام حيث الأرض الآن يكسوها البرسيم كالبساط الأخضر. فوافق «محسن» مبتهجًا، وأمرت والدته بالعربة فهُيئت وأُعد ما يلزم للإقامة ببيت العزبة.
وما جاء العصر حتى كان «محسن» ووالده ووالدته وبعض الخدم في الطريق إلى «العزبة» وهي تبعد عن مدينة «دمنهور» بمقدار قليل. فما بلغت العربة «الجسر»، وجاوزت الجميزة الضخمة القائمة على مدخل «الجرن» حتى نبح كلب العزبة، وظهر خلفه «الخولي»، وشيخ العزبة وبعض أنفار «الوسية»، وسكت الكلب إذ عرف القادمين، وأحاط «الخولي» والشيخ ومن معهما بالعربة، يستقبلون ويخصُّون «محسن» بالترحيب، قائلين وهم يساعدونه على النزول إلى الأرض: يا تلتميت ألف مرحبا بالبيه الصغير، العزبة نورت بجناب البيه الصغير.
وقال «شيخ العزبة» ولحيته البيضاء الوقور تهتز إذ يتكلم: سلامات يا حضرة البيه، «سلامات يا حضرة البيه الصغير» … سلامات يا حضرة الست … سلامات … سلامات كده.
واقترب أحد «الأنفار» من «محسن» وقال له: مش فاكرني يا جناب البيه؟ أنا «عبد المقصود» اللي كنت توصيني أيام مدرسة دمنهور أحضر لك الركوبة يوم الجمعة، ونطلع نصطاد السمك في ترعة «أبو دياب» مش فاكر؟ بالأمارة كنت تركب الجحشة نص السكة، وتنزل تقول لي اركب يا «عبد المقصود» انت كمان، أقول لك يا بيه أنا مش تعبان، احنا فلاحين واخدين على المشي … تقوم تزعل وتقول لازم تركب انت كمان … مش فاكر يا بيه؟
فابتسم «محسن» وسكت … وفي هذه الأثناء كان والد «محسن» ووالدته يحادثان الناظر والشيخ في شئون الزراعة، ويأمران وينهيان، وناظر العزبة يجيب في أدب: كل شيء تمام يا حضرة البيه، والمصارف أجرينا تطهيرها، والربع القبلي قصبناه للدرة، والبرسيم السنة جنابك شايفه ما شاء الله عليه … سنة خضرا بقدوم البيه الصغير.
فالتفت البك الكبير إلى شيخ العزبة، وقال: وانت يا «شيخ حسن»؟ … إيه حكاية «عرجاوي» والغفر البدو؟
– انتهت على خير يا حضرة البيه.
– أيوه. مش عايزين مشاكل بين البدو والفلاحين في العزبة.
– مفيش مشاكل يا بيه، صالحناهم على بعض بحضور وكيل العمدة وشيخ الغفر، والعزبة هادية بدو وفلاحين، صافية لبن.
ومشت الست نحو بيت العزبة، فتبعها زوجها و«محسن» والجميع.
وطفق الشيخ «حسن» يقول في الطريق: شرفتوا العزبة، والله سلامات، سلامات يا حضرة البيه، سلامات يا حضرة الست، سلامات يا بيه يا صغير … سلامات كده.
وضاق صدر الست، فصاحت بالشيخ المسكين: دوشتنا بقا … هي سيرة سلامات … إنتم ليه كده لكاكين يا فلاحين؟
فامتعض «الشيخ» قليلًا، وخجل؛ لكنه قال مبتسمًا: ربنا يطول لنا عمركم، ما احنا يا حضرة الست فرحانين بيكم.
فتأثر «محسن» قليلًا، ولكنه سار خلف والدته ساكنًا مطرقًا. ووصل إلى علم الفلاحات قدوم أصحاب «الوسية»، فحضرن يزغردن، وتقدمت أجرؤهن، تريد أن تتناول يد الست تقبلها. فانتهرتها الست قائلة بازدراء: بعيد … بعيد، حاسبي توسخي فستاني.
فأجابت الفلاحة في حلم وبِشر، ضاحكة الوجه: يوه! … مش ستنا! نبوس إيدها، أمال نبوس إيد مين؟
فأشارت «الست» بيدها علامة الابتعاد، وتدخَّل الناظر ينفذ رغبة الست، فرفع ذراعه في الفضاء مرهبًا كأنما يرهب إوزًا أو دجاجًا، وقال: يالَّا يا ولية انت وهيه … على داركم … على داركم.
فتقهقر النسوة، وتراجعن إلى الوراء نحو دورهن، وهن مستمرات يزغردن.
فاقترب «محسن» من والدته، وقال في نبرة التأثر: ليه يا نينه تطرديهم؟ … حرام.
فأجابت بجفاء وقلة اكتراث، وهي تجتاز باب البيت: حرام إيه؟ … دول فلاحين.