الفصل السادس
عاد محسن إلى قلقه؛ فقد مضت أيام دون أن يصل الخطاب الموعود، واشتد به الضيق أن زهد في كل ما حوله، وكأن عينه أصبحت لا ترى شيئًا، ولا يرجى منها شيء، وكره الإقامة، وود لو يعود إلى مصر توًّا، وكلما ذكر «سنية» خيل إليه أن فراقه عنها كان أعوامًا لا بضعة أيام، وعجب كيف يمكث هنا، وكيف يستطيع الابتعاد عنها أكثر من ذلك؟ فقام إلى والدته يعرض عليها رغبته في السفر، لكنه ألفى البيت قائمًا على قدم وساق. وسمع جلبة أوانٍ وأطباق وتهيئة موائد وتجهيز أطعمة، فسأل عن الخبر، فقيل له هي «عزومة» يقيمها والده لمفتش الري الإنجليزي، ولأحد كبار موظفي الآثار الفرنسيين؛ بمناسبة تشريفهما المديرية.
وتفقَّد والده، فعلم أنه ذهب بالعربة إلى «دمنهور»، ليأتي بالضيوف، وكانت والدته منهمكة في ملاحظة الاستعدادات، فلما رأته ابتسمت، وقالت وهي تشير إلى الخروف «الأوزي»، والطباخ يزينه بالورد والعنبر والزهر: شايف يا «محسن»، بكرة يقولوا عزومتنا أحسن من عزومة المدير.
ودخل عندئذٍ ناظر العزبة يرتدي «غزليته» الممتازة، ويحمل «قفة» بها بضعة أزواج من الحمام والدجاج، فنظرت إليها الست ثم قالت شزرًا: بس دول اللي لقيتهم في العزبة؟
فأجاب الناظر في خشية وتأدب: الفلاحين فقراء مساكين يا ست.
فقالت السيدة بجفاء: فقراء مساكين، لو كنت شغلت الكرباج كنت جبت قد دول مرتين، لكن انت ناظر غشيم.
فسكت الناظر، ثم رفع رأسه، وأشار إلى الضأن «الأوزى» مبتسمًا وقال مراضيًا السيدة: ما هو الخير كتير يا ست، دا الواحد منا بلا قافية يا فلاحين ما يدوق اللحم إلا من الموسم للموسم.
فلم تُجِب، واقترب منها «محسن» وقال: يا نينه، الأكل ده كفاية علشان ضيفين.
فقالت: أنا عايزة عزومتنا تكون أحسن من عزومة المدير.
ثم التفتت إلى الناظر، ونظرت إلى ملابسه، ثم قالت منتهرة: امشي يا راجل يا فلاح، البس أحسن ما عندك!
فأطرق الرجل خجلًا، ولم ينبس بحرف، وقد احمر وجهه قليلًا، ولاحظ «محسن» خُفيةً ذلك، فتأثر له.
ورأت الست وجومه، فأعادت الكرَّة بقوة هذه المرة: الله! عجايب! واقف ليه؟ مستنظر إيه؟
فأجاب الرجل بصوت ضعيف متلعثم، وابتسامة الحائر الساذج الخجل، وهو ينظر إلى الأرض: ما هو ده يا ست أحسن ما عندي.
وسكت قليلًا مطرقًا، ثم رفع رأسه، وقال في بساطة واعتقاد وهو يتناول طرف ثوبه ويريه للسيدة: ودي «شينة» يا ست؟ وحياة راس النبي دي غزلي؟
فلم «تتنازل» السيدة إلى رؤية ثوبه، وأدارت ظهرها، ومشت إلى عمل تلاحظه، وسار خلفها «محسن» وهو يود لو يخلو إليها ليرجوها أن تخفف من وطأتها على هؤلاء القوم، وليفهمها أن هؤلاء الفلاحين المساكين لا يعرفون الأبهة.
•••
ما قاربت الساعة الواحدة ظهرًا حتى نبح كلب العزبة دليل قدوم غريب، وبدا عفار العربة بخيلها المطهمة عند الجسر، ومرت تحت الجميزة، ودخلت جرن العزبة، ونزل منها إفرنجيان بالقبعات، ثم البك صاحب الدار.
ووقف الضيفان لحظة يتأملان ما حولهما، وينظران إلى الحقول المنبسطة خضراء كالبحر، ووقف أمامهما وبين أيديهما الناظر، و«الشيخ حسن» بأدب في انتظار أمر أو إشارة، فأبدى الضيف — مفتش الري الإنجليزي — رغبته في الجلوس خلال المزارع لحظة؛ ليرى المصارف، ويتأكد من تطهيرها، ويشاهد فتحات الري ومقاسها ونسبتها إلى الترعة والأطيان؛ فسار الجميع إليها، وقد أومأ البك إلى الناظر والشيخ فأسرعا يتقدمان، ويدلان على الطريق، وفرد البك مظلته البيضاء ذات اليد الذهبية، ورفعها فوق رأسَي الضيفين وهو يصف لهما طريق الري والصرف في هذا الربع الشرقي الذي يمرون به، والضيف الفرنسي يبتسم معجبًا بانبساط «الأرض» ولونها الزبرجدي، ويدهش أن مصر كلها كذلك؛ كأنما الآلهة الأقدمون قد بطحتها خصوصًا، وهيأتها لسكان مصر الطيبين.
فالتفت إليه البك، وسأله في سذاجة: «أليست أرض فرنسا كذلك؟»
فأجابه الضيف: «فرنسا كلها منحدرات ومرتفعات، وقلما تجد فيها بقعة منبسطة هذا الانبساط.»
ثم نظر إليه ضاحكًا: «فرنسا لم يسعدها الحظ أن تكون يومًا موطنًا للآلهة، يدحونها كما فعلوا بأرضكم.»
فلم يفهم البك قوله جيدًا، غير أنه أجابه: صدقت يا جناب المفتش؛ أرضنا زراعية من قديم الأزل.
وأدرك الفرنسي من هذا القول معنًى أبعد مما يقصده البك، فقال: نعم، نعم، إنكم شعب عريق الحضارة لا كشعوب أوروبا الوصولية.
فلم يُجِب «البك»، وعندئذٍ انحنى الإنجليزي على الأرض وتناول منها قبضة من التراب، فركها بين أصابعه، وهو يتمتم خافتًا معجبًا بخصوبة التربة: «ذهب، ذهب!»
ثم أومأ بالرجوع، فرجع الجميع إلى البيت، حيث مُدت المائدة، ووقف الخادمان النوبيان بثيابهما البيضاء النظيفة، وحزاميهما الأحمرين … وقُدم الطعام.
•••
كان «محسن» في هذه الآونة بجانب والدته، في «الدهليز» الذي بين المطبخ وحجرة المائدة، الوالدة تلاحظ ترتيب الأصناف والألوان، وترتب بنفسها ما تجده ناقصًا قبل أن تسمح للخادم بالدخول به على الضيوف، و«محسن» واقف ينظر، وقد سال لعابه جوعًا، وهو يعلل نفسًا بالضأن «الأوزي»، وينتظر عودة ما يفضل منه بعد الضيوف، ووالدته تصبره قائلة: إن الواجب يقضي بأن يأكل الضيوف أولًا، وبعد ذلك يبدآن هما الاثنان، غير أن والدته في تلك الساعة كانت مشغولة البال منهوبة الخاطر تجري هنا وهناك، تلاحظ وهي مضطربة، طالبةً من الله أن تتم الوليمة على خير وأن يذهب الضيفان مسرورين معجبين، وهي تود لو تعلم ما يقولان الساعة عن الأكل والتنظيم، فكانت أحيانًا تترك «محسن» وتذهب في أثر الخادم محترسة، وتقترب خُفيةً من الباب مختلسة البصر، مسترقة السمع، علها تلتقط كلمة إعجاب من أحد الضيفين.
وفرغ المدعوان من الأكل ولم يبقَ غير الحلو والفاكهة، ودخل الخادمان بأطباق الحلو، وعندئذٍ خرج البك يجري من قاعة الطعام، وذهب إلى زوجته توًّا يسألها هامسًا في سرعة وخطورة: فين الجبنة؟ قوام الجبنة.
فتجهمت زوجته، ونظرت إليه ساهمة بلا حراك: جبنة؟ … جبنة إيه؟
– أيوه، قوام، طالبين جبنة، يختموا الأكل بجبنة.
– جبنة؟ … بعد الأكل ده كله؟
– أيوه خلصينا، إعملي معروف.
وفي الحال نادت الست خدمها همسًا، وسألت عن الجبنة، فقيل لها: لا يوجد قط سوى جبنة «قريش» منغمسة «بالمش» في القدر؛ فلطمت وجهها وهي تتساءل عن المخرج من هذا المأزق، وزوجها يصيح همسًا: جبنة «قريش بالمش» مايمكنش أبدًا! … خواجات ياكلوا «مش»؟ مش ممكن نوكلهم «مش بدوده» مش ممكن أبدًا.
فقالت الست بصوت مختنق يأسًا: يا مصيبتي! … ونعمل إيه دلوقت؟ أعمل إيه بس يا اخواتي دلوقت.
فقال لها زوجها في لهجة المؤنب: إنتي مش عارفة أن العزايم يبقى فيها جبنة؟
فعاودت الست عزة نفسها وكبرياؤها، ووضعت يديها في خصرها، وصاحت بزوجها: بتقول إيه بسلامتك؟ … العزايم؟ أنا واحدة أفهم الصورة إيه، ومتربية في بيوت باشوات، وأعرف الأكل العثمانلي، مين يقول إن بعد الخروف المحشي بالزبيب والبندق والصنيبر، والفراخ والحمام اللي بالتربية والشركسية، والألنجى ضلمه، حد يأكل جبنة؟
أهم طالبين جبنة … نعمل إيه دلوقت؟
فرجعت الست إلى الحيرة واليأس، وأخذت تسأل الخدم من جديد، وتلح، وتتوسل، وأخيرًا ظهرت خادمة وصاحت بفرح أن توجد قطعة جبنة «رومي» عثرت عليها في «الكرار»، وما كادت تذكر ذلك حتى هرعت الست نحوها، وهرع الجميع؛ كأنما وجدوا لقيا، وانقلب اليأس فرحًا واطمأن البك فترك زوجته وأسرع يلحق بضيوفه، بعد أن أكد على زوجته بسرعة تقديم تلك القطعة. وأخيرًا جاءت الخادمة بقطعة الجبن «الرومي» من الكرار فإذا هي سمراء اللون من القِدم، واتضح للجميع أن سبب ترك هذه القطعة في الكرار منذ زمن، هو استعمالها طعمًا للفيران وتعمير مصيدة الفيران بها، فترددت الست قليلًا وعاد إليها الغم، ولكنها صممت أخيرًا على الأمر وقالت للخدم: فيران والا قطط، أهي أحسن من بلاش والسلام، یعني هم راحين يعرفوا؟
وتناولتها بيدها في حرص، وذهبت بها إلى الحنفية كي تغسلها وتزيل ما عليها من لون القِدم ومن القذارة، وتبعها كل أهل البيت من بطانة وخدم، وهم ينظرون إلى قطعة الجبن في يد الست؛ كأنهم ينظرون إلى قطعة من الجوهر الثمين … ولفرط اهتمام الجميع بتلك القطعة النادرة، أرادوا أن يساعدوا الست فأحاطوا بها: بعضهم يفتح الحنفية، والبعض يقترح غسلها «بالليفة والصابونة» حتى تعود بيضاء ناصعة. والبعض يرى خطر الغسل عليها، ويقول بمسحها بخرقة مبللة فقط، وآخر لا يرى الغسل ولا المسح، ويقترح الكشط: أي كشط السطح المتسخ بسكين حاد … وبينا الجميع في هذه الاقتراحات وهذا الاهتمام إذا بالست القابضة على القطعة تصيح فجأة؛ ذلك أن القطعة انزلقت من يدها لفرط حرصها. وسقطت في «البلاعة» فبهت الجميع لحظة وقد دهاهم الأمر، ثم صحوا لأنفسهم. وانقضُّوا على «البلاعة» جميعهم دفعة واحدة، وأخرجوا قطعة الجبن «الرومي» منها بعد جهد واستماتة، ولم يروا بدًّا من غسلها هذه المرة، وما إن وُضعت في الطبق وقُدمت للضيوف حتى رفعت الست رأسها، وتنفست الصُّعَداء.
انتهى الضيفان من الطعام … وقدمت لهما القهوة. وإذا البك يظهر مسرعًا في الدهليز، ويسأل عن «محسن»، فأقبلت نحوه الست، وكان أول ما فاهت به أن سألته عن نتيجة الوليمة، وعما قال الضيفان في الأكل والتنسيق، ولكن البك لم يجبها، بل سألها في عجلة: فين «محسن»؟ … فين محسن؟ عايزين يشوفوه.
وأراد أن يخبرها بأنه قال إن له ولدًا في الكفاءة يعرف الإنجليزية، وأن جناب المفتش الإنجليزي ودَّ لذلك أن يراه.
غير أن زوجته قاطعته قائلة: طيب … طيب … المهم قالوا إيه على العزومة؟ قالوا إيه على الجبنة؟ احكي لي.
فانحنى عليها، وهمس في أذنها: مبسوطين قوي.
فانفرجت شفتا الست بالابتسام، وقالت في كبرياء وزهو وخُيلاء: علشان تعرف إني مدنتك ورقيتك يا فلاح يا جعيدي، مش تقول لي بقا كتر خيرك؟
فضحك البك، وقال لها: طيب، كتر خيرك.
فاستطردت تقول، في تعاجب ومباهاة: مش أنا اللي قلت لك اعزمهم؟
– أيوه انتي.
اسمع كلامي دايمًا، وانت تبقى أبهة، بكرة كمان اعزم المدير علشان يعرف.
فحك «البك» رأسه قليلًا، ثم نبس قائلًا في قلق: بس المصاريف.
فرمقته «الست» بنظرة أسكتته في الحال، فلم يعد يفكر في النقود الهائلة التي تضيع في ولائم واحتفالات، منذ سنوات وسنوات.
وأخذ يبحث حوله بارتباك، ويقول: فين «محسن»؟ … فين «محسن»؟
كان الضيفان في تلك الأثناء يرشفان القهوة، وقد غرقا في كرسيين كبيرين، ووجهاهما قبالة نافذة مفتوحة على مصراعيها، تطرح أمام ناظريهما فضاء أخضر لا حد له، وسكون ساعة الظهيرة التام، حيث الفلاحون في دورهم يستريحون، أو تحت ظلال أشجار السنط واللبخ بقرب السواقي، وسكنت البهائم أيضًا، وربض كلب العزبة وأغمض إحدى عينيه … حتى الطيور: من قُبَّر وأبي فصادة؛ كأنها في هدنة قد هدأت على الأغصان فوق رءوس الفلاحين الراقدين، وقد أبطلت زقزقتها وأخذت تشغل الوقت، «تفلي» ريشها بمنقارها بعضها البعض.
وهبَّ عندئذٍ على الضيفين نسيم جميل، فأغلق الفرنسي أهدابه نصف إغلاق، وقد قعس رأسه إلى الوراء، وأخذ يدخن من لفافة في يده؛ وكأنما هو في حلم ساحر، ولكن رفيقه الإنجليزي لم يفقد نشاطه ولم يتراخ، بل دس يده في جيبه وأخرج «غليونه» وأخذ يحشوه بالتبغ، وهو معتدل الجلسة منتصب القامة، متزن الحركة قوي النظرة، حتى فرغ من غليونه، ووضعه في فمه، وأوقده؛ فاستوى واقفًا، وأراد أن يمشي جيئة وذهابًا في الحجرة أو أن يخرج إلى حديقة المنزل، ولكن صاحبه الفرنسي مد يده إليه، وأومأ له بلطف أن يجلس حيث كان، ثم قال له في صوت النائم: إلى أين؟ ألا يؤثر فيك هذا النسيم الرقيق يا «مستر بلاك»؟
فالتفت إليه الإنجليزي، ثم التفت إلى النافذة، كأنما يبحث عن هذا النسيم يريد أن يراه بعينه، وكان الفلاحون عندئذٍ قد بدءوا ينهضون زرافات ووحدانًا؛ كلٌّ يحمل فأسه أو منجله؛ كي يستأنفوا أعمالهم بالحقول.
فقال «الإنجليزي» لرفيقه: لا أرى إلا أسرابًا من ذوي الجلاليب الزرقاء.
فنظر الفرنسي إلى الفلاحين، ثم قال معجبًا: ما أجمل ذوقهم، لون لباسهم كلون سمائهم.
فارتسمت على فم «الإنجليزي» ابتسامة تهكم، وقال: إنك تبالغ إذ تحسب لهؤلاء الجهلاء ذوقًا.
فأجاب الأثري «الفرنسي» بإيمان وقوة.
– جهلاء! … إن هؤلاء الجهلاء يا «مستر بلاك» أعلم منا.
فضحك «الإنجليزي» وقال أيضًا في تهكم: لأنهم ينامون مع البهائم في حجرة واحدة!
فأجاب «الفرنسي» بجد: نعم وبالأخص لأنهم ينامون مع البهائم في قاعة واحدة.
فالتفت إليه «مستر بلاك» محدقًا مبتسمًا: إنها نكتة ظريفة يا «مسيو فوكيه».
فأجاب «الفرنسي»: بل حقيقة تجهلها أوروبا للأسف … نعم إن هذا الشعب الذي تحسبه جاهلًا ليعلم أشياء كثيرة، لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله. إن الحكمة العليا في دمه ولا يعلم! والقوة في نفسه ولا يعلم! هذا شعب قديم؛ جِئْ بفلاح من هؤلاء وأخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة آلاف سنة، من تجاريب ومعرفة رسب بعضها فوق بعض وهو لا يدري.
نعم هو يجهل ذلك، ولكن هناك لحظات حرجة؛ تخرج فيها هذه المعرفة وهذه التجاريب، فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته! هذا ما يفسر لنا نحن الأوروبيين — تلك اللحظات من التاريخ، التي نرى فيها مصر تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت، وتأتي بأعمال عجاب في طرفة عين.
كيف تستطيع ذلك إن لم تكن هي تجاريب الماضي الراسية، قد صارت في نفسها مصير الغريزة، تدفعها إلى الصواب، وتسعفها في الأوقات الحرجة وهي لا تدري!
لا تظن يا «مستر بلاك» أن هذه الآلاف من السنين، التي هي ماضي مصر قد انطوت كالحلم ولم تترك أثرًا في هؤلاء الأحفاد … أين إذن قانون الوراثة الذي يصدق حتى على الجماد، ولئن كانت الأرض والجبال إن هي إلا وراثة طبقة عن طبقة؛ ولم يتغير شيء من جوها أو طبيعتها؟
نعم إن أوروبا سبقت مصر اليوم، ولكن بماذا؟ بذلك العلم المكتسب فقط، الذي كانت تعتبره الشعوب القديمة عرَضًا لا جوهرًا ودلالة سطحية على كنز دفين، لا أنه هو في ذاته كل شيء.
إن كل ما فعلناه — نحن الأوروبيين الحديثي النشأة — أن سرقنا من تلك الشعوب القديمة هذا الرمز السطحي، دون الكنز الدفين؛ لذلك جئ بأوروبي وافتح قلبه تجده خاليًا خاويًا.
الأوروبي إنما يعيش بما يلقَّن ويعلَّم في صغره وحياته؛ لأنه ليس له تراث ولا ماضٍ يسعفه بغير أن يعلَّم.
احرم الأوروبي من المدرسة يصبح أجهل من الجهل … قوة أوروبا الوحيدة هي في العقل، تلك الآلة المحدودة التي يجب أن نملأها نحن بإرادتنا. أما قوة مصر ففي القلب الذي لا قاع له. ولهذا كان المصريون القدماء لا يملكون في لغتهم القديمة لفظة يميزون بها بين العقل والقلب. العقل والقلب عندهم كان يعبر عنهما بكلمة واحدة هي: القلب.
وسكت «الأثري الفرنسي» برهة، ونظر إلى وجه «المستر بلاك» ليتعرف أثر ما قال فيه، فوجد ملامح جامدة، وشفتين تنفرجان عن ريبة وشك.
فاستطرد «الفرنسي» يقول: نعم يا «مستر بلاك»، هؤلاء الفلاحون لهم ذوق، وذوق جميل، وهم لو سألتهم عن كلمة ذوق لجهلوا معناها، أما نحن فنعرف جيدًا معنى كلمة «ذوق»، ولكن ثق أن فينا عددًا كبيرًا ليس له ذوق، نعم هذا هو الفرق الوحيد بيننا وبينهم: إنهم لا يعلمون ما عندهم من كنوز.
عندئذٍ همَّ «الإنجليزي» بالنهوض، وهو يقول متهكمًا: إنكم معشر الفرنسيين تضحون بالحقائق في سبيل الكلام.
فأجلسه «مسيو فوكيه» بيده، وقال محتدًّا: الحقائق؟ الحقائق معي يا «مستر بلاك»، إنك تعرِّض بضَعف هذا الشعب الآن … أليس كذلك؟
– وأيضًا أخلاق أهله لا تعجبني.
– أخلاق أهله؟
– نعم.
– ثق يا «مستر بلاك»، أن الفاسد من هذه الأخلاق ليس من مصر، بل أدخلته عليها أمم أخرى كالبدو أو الأتراك مثلًا، ومع ذلك فلا يؤثر هذا في الجوهر الموجود دائمًا.
– قل لي ما هو هذا الجوهر؟
– إنك ترتاب في قولي، ولكني أكتفي بأن أقول لك احترس … احترسوا من هذا الشعب؛ فهو يخفي قوة نفسية هائلة!
فالتفت إليه «مستر بلاك» جادًّا لحظة، ثم عاد فابتسم ابتسامته المتهكمة وقال: يخفيها أين يا «مسیو فوكيه»؟
فأجاب: الأثري الفرنسي، بهدوء واقتناع: في البئر العميق الذي خرجت منه تلك الأهرامات الثلاثة؟
فقال الإنجليزي في فتور: الأهرامات؟
فأجاب «العالم الفرنسي» للفور: نعم، الأهرامات، التي قصدها «شامبليون» بقوله: «لا أستطيع أن أصفها؛ إذ إن شيئًا من اثنين: إما أن كلامي لن يعبر عن جزء من ألف مما يجب أن أقول، وإما أني لو أردت رسم أبهت صورة للحقيقة، لعدَّني الناس مغرقًا في الحماسة أو مجنونًا، ولكني أقول شيئًا: أولئك القوم كانوا يشيدون كعمالقة طولها مائة ذراع.»
والتي قال عنها «فيلون البيزنطي» في كتابه «عجائب الدنيا السبع»: «كان أولئك القوم يصعدون إلى الآلهة، وكانت الآلهة تهبط إليهم.»
وحتى العلماء الحديثون يقولون إنه غير مُصَدَّق أن مشروعًا كهذا أمكن تنفيذه.
وعلى حد قول «موريه» عالمنا الأثري: «إنه حلم فوق مستوى البشر، قد تحقق مرة على هذه الأرض، ولكنه لن يعود أبدًا.»
تلك هي الأهرامات.
فنظر إليه «الإنجليزي» وقال باسمًا: وكل هذا خرج من بئر! أي بئر؟
فأجاب «مسيو فوكيه» بهدوء: هذا.
وأشار بأصبعه إلى الجهة اليسرى من صدره: القلب.
فلم يُجِب «الفرنسي»، ولم يتكلم «الإنجليزي» بعد ذلك، وصمت الاثنان لحظة، وساد السكون في الغرفة.
وعندئذٍ ظهر «البك» بالباب وبيده «محسن»، وقد ارتدى بذلته ورتب شعره طول هذه الأثناء. وما كاد البك يلقي نظرة على الغرفة الساكنة، حتى اختفى في الحال، هو و«محسن»، ورجعا من حيث جاءا على أخماص الأقدام، ولم يشعر بهما أحد من الضيفين.
واستوى بعد قليل «العالم الفرنسي» في كرسيه، وأشعل لفافة أخرى، وأرسل نفخة من الدخان في الهواء، ثم قال: أرى أن قولي لم يفحمك يا «مستر بلاك»؟
فالتفت إليه «المفتش الإنجليزي» بأدب، وقال: أعترف بذلك.
فسكت «الفرنسي» هنيهة، ثم قال: نعم، لنا العذر ألا نفهم هذا، إن لغتنا — نحن الأوروبيين — لغة المحسوسات، إننا لا نستطيع أن نتصور تلك العواطف التي كانت تجعل من هذا الشعب كله فردًا واحدًا، يستطيع أن يحمل على أكتافه الأحجار الهائلة عشرين عامًا، وهو باسم الثغر مبتهج الفؤاد، راضٍ بالألم في سبيل المعبود. إني لموقن أن تلك الآلاف المؤلفة التي شيدت الأهرام، ما كانت تساق كرهًا كما يزعم «هيرودوت» الإغريقي عن حماقة وجهل … وإنما كانت تسير إلى العمل زرافات وهي تنشد نشيد المعبود، كما يفعل أحفادهم يوم جني المحصول. نعم كانت أجسادهم تدمي، ولكن ذلك كان يشعرهم بلذة خفيَّة؛ لذة الاشتراك في الألم من أجل سبب واحد.
وكانوا ينظرون إلى الدماء تقطر من أبدانهم في سرور لا يقل عن سرورهم برؤية الخمور القانية تقدم قرابين إلى المعبود … هذه العاطفة عاطفة السرور بالألم جماعة، عاطفة الصبر الجميل، والاحتمال الباسم للأهوال من أجل سبب واحد مشترك، عاطفة الإيمان بالمعبود والتضحية، والاتحاد في الألم بغير شكوى ولا أنين … هذه هي قوتهم.
انتصب عندئذٍ المفتش الإنجليزي في كرسيه، وقد بدا على ملامحه معنى الجد والاهتمام، وكأنما قد أفحمه بعض ما سمع. وعندئذٍ هب النسيم عليهما هبَّةً حملت إلى آذانهما في هذا السكون التام، أصوات الفلاحين يغنون عن بعد غناء جميلًا، فاشرأب «الفرنسي» قليلًا ثم أشار إليهم بيده، وقال: هل رأيت في بلد آخر أشقى من هؤلاء المساكين؟ أنت مفتش ري، وتعلم جيدًا يا «مستر بلاك»، أوجدت أفقر من هذا الفلاح المصري؟ ولا أهول عملًا؟ إني أعلم ذلك أنا أيضًا؛ فقد اشتغلت بالحفر عن الآثار في قرى الصعيد، وخالطت بعض الفلاحين وعلمت كل شيء، عمل ليل نهار في الشمس المحرقة والبرد القارس، وكسرة من خبيز الأذرة، وقطعة من الجبن مع بعض الأعشاب من السريس وغيره مما ينبت وحده … تضحية مستمرة وصبر دائم، ومع ذلك فها هم أولاء يغنون. اسمع برهة يا «مستر بلاك».
وسكت «الأثري الفرنسي» هنيهة، كأنما يستفسر روح هذه الأغنية التي تأتي مع النسيم، ثم استطرد يقول: أتسمع هذه الأصوات المجتمعة الخارجة من قلوب عدة؟ ألا تخالها خارجة من قلب واحد؟ إني أؤكد أن هؤلاء القوم يحسون لذة في هذا الكدح المشترك، هذا أيضًا هو، الفرق بيننا وبينهم؛ إن اجتمع عمالنا على الألم أحسوا جراثيم الثورة والعصيان وعدم الرضا بما هم فيه، وإن اجتمع فلاحوهم على الألم أحسوا السرور الخفي واللذة بالاتحاد في الألم، ما أعجبهم شعبًا صناعيًّا غدًا.
أسند المفتش الإنجليزي يده إلى جبينه لحظة كالمتأمل، ثم قال: ما كنت أحسبك جادًّا، وأنت تُفهمني أن بين مصر اليوم ومصر بالأمس علاقة.
فأجاب «العالم الفرنسي»: وأي علاقة؟! … قلت وأقول أيضًا: إن الجوهر باقٍ دائمًا.
إن هؤلاء الفلاحين الذين يغنون من قلب واحد، المتعددين الذين تجمعهم العاطفة والإيمان في واحد؛ ما زالوا يعون بقلوبهم، ولا يعلمون، تلك العبارة التي كان أجدادهم يندبون بها موتاهم في الجنائز: «عندما يصير الوقت خلودًا، سنراك من جديد، لأنك صائر إلى هناك حيث الكل في واحد.»
وها هم اليوم الفلاحون الأحفاد من جديد، يذكرون في أعماق قلوبهم أن الكل في واحد.
وصمت «العالم الفرنسي» قليلًا، وعندئذٍ نبس «المفتش الإنجليزي» قائلًا؛ وكأنه ما زال تحت تأثير ما سمع: شيء غريب.
فأجاب «الأثري الفرنسي»: نعم، ومع ذلك لو ذكرت أن هذه العواطف هي التي شيدت الأهرام لزال عجبك، وإلا فكيف كنت تريد أن يبني هذا الشعب بناءً كهذا لم يكن هذا الشعب كله قد تحول في وقت ما إلى كتلة آدمية واحدة، تستعذب الألم في سبيل واحد: «خوفو»؛ ممثل المعبود ورمز الغابة، فلمعت عين الإنجليزي لمعانًا لا أحد يدري إن كان بارقة الإعجاب أو القلق، وهمس وهو يفكر: صدقت.
فأردف الأثري الفرنسي يقول؛ وكأنما يختتم مقدماته السالفة: إن هذا الشعب المصري الحالي ما زال محتفظًا بتلك الروح.
فسأله الإنجليزي على الفور: أي روح؟!
فأجابه بثقة وتؤدة: روح المعبد.
فأنزل «الإنجليزي» الغليون من فمه، وسدد نظرات جامدة ساهمة إلى النافذة، فالتفت إليه «الفرنسي»، وكأنما أدرك ما في نفس الإنجليزي من قلق، فابتسم خُفيةً ثم وضع يده على كتف الإنجليزي، وقال بغتة: أجل يا «مستر بلاك»، لا تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم، إن القوة كامنة فيه، ولا ينقصه إلا شيء واحد.
– ما هو؟
– المعبود.
فنظر «الإنجليزي» إليه نظرة لا يدري: أمعناها الاستيضاح أم الموافقة!
فأجابه «الفرنسي» بعد هنيهة: نعم ينقصه ذلك الرجل منه الذي تتمثل فيه كل عواطفه وأمانيه ويكون له رمز الغابة … عند ذاك، لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب، والمستعد للتضحية إذا أتى بمعجزة أخرى غير الأهرام.
في هذه اللحظة سمع صوت «البك» بالباب، يرحب بهما، ويقول إنه كان يحسبهما قد أخذتهما إغفاءة الظهيرة، فلم يرد أن يزعجهما، ثم نادى «محسن» وقدمه إليهما، فنهضا يستقبلانه في لطف وعطف وبشاشة، و«محسن» مصطبغ الوجه حياءً وأدبًا، وقد دعاه والده إلى الكلام؛ قائلًا في تباهٍ: كلم «جناب» المفتش بالإنجليزي يا «محسن».