الفصل التاسع
لم يكن المقام يسمح «لمحسن» بأكثر من تحية أولى سريعة؛ إذ إنه ذكر لهم ما معه من عفش كثير؛ فأقبلوا برمتهم على القطار و«مبروك» في مقدمتهم يحمل ما يستطيع حمله حتى بلغوا ساحة المحطة، فأوفدوا «مبروك» يتفق لهم مع صاحب عربة نقل، وما انتهوا من وضع العفش والطرود عليها، ومن وضع «مبروك» فوق العفش والطرد حتى قالوا للعربجي بعد أن أخذوا نمرته: سوق يا «أوسطى» على شارع سلامة نمرة ٣٥.
وقال «اليوزباشي سليم»: خد بالك كويس من العفش يا أوسطى.
وقال «عبده» وهو يعد الطرود: حاسب يا أوسطى ألا يقع منهم طرد في السكة.
وقال «حنفي»: إن تهت يا «أوسطى» عن البيت اسأل ناحية السيدة، ألف من يدلك.
فأجاب «العربجي» وهو يجذب اللجام ويقول: «شي … شي يا بتاع الكلب.»
– ماتخافش … أتوه ازاي؟ مش بتقولوا شارع سلامة في خط السيدة؟
فأضاف الرئيس «حنفي» مؤكدًا: وقدام البيت قهوة، بس انت ما عليك يا «أوسطى» إلا تسأل المعلم شحاتة صاحب القهوة.
وهنا صاح بهم «مبروك» من فوق العربة؛ محتجًا على إغفالهم وجوده: وانا يعني بلا قافية على العربية بصفة طرد؟
فضحك «محسن»، ورأى الحق في جانبه، والتفت «حنفي» إليه، وقال في لهجة الاعتذار: حقك علينا يا سي «مبروك» غلطنا، سوق يا أوسطى وان تهت ابقا اسأل «الأفندي» اللي فوق العفش.
ورفع الحوذي يده بالسوط، فسارت العربة تتهادى في ميدان باب الحديد؛ كالسكرى: بحمارها ذي الخلاخل النحاسية، و«مبروك» على قمتها يترنح من حركتها، وينظر خلفه إلى الرفاق مبتسمًا، وهم يشيعونه بأنظارهم، وجعل يلوح لهم بيديه أن اسبقوا أنتم إلى المنزل توًّا.
واتجه الرفاق بعد ذلك إلى محطة الترام، وركبوا إلى حي «السيدة زينب»، وهم يسألون محسن طول الطريق عن أهله وعن «دمنهور» وعما رآه، وهو يجيبهم ناظرًا إلى وجوههم وأصواتهم؛ وكأنما يلاحظ فيها تغيرًا قليلًا، ورنينًا غير مألوف، لكنه ليس يدري بعدُ إن كان ما يلاحظ صحيحًا، أو أنه خيال مسافر قادم، إنه يلمح على وجوههم مسحة من كآبة هادئة، وفي أصواتهم خفوتًا ثم كثيرًا من الصمت؛ كأنما هم لا يبطنون فرحًا ولا ابتهاجًا، ومع ذلك شيء عجيب، إنه يحس ازدياد قربهم إليه، ويشعر كأنما كل ما يملكون من ابتهاج الساعة، إن كانوا يملكون، فإنما هو لعودته.
لم يستطع «محسن» أن يناقش نفسه الآن وهو في الترام في كل ذلك. غير أن هذا كان شعوره المباشر عند لقائهم، وطالما بدا له في الطريق أن يسألهم في ذلك، إلا أنه خشي أن يكون شعوره قد أخطأ، وأن يكون كل هذا من تأثير المقابلة الأولى، ثم إنه كان منهم في موقف المجيب على أسئلتهم، والحاكي لأخبار الرحلة، فلم يشأ تعجل الاستفسار منهم عما يريد أن يعلم، والوقت متسع أمامه، وهم أيضًا من جانبهم كانوا ساكتين عن إخباره بأمرهم؛ كأنما لا يريدون التعجل؛ أو كأنما هم لا يريدون الظهور بمظهر الاهتمام بأخبارهم.
وبلغوا المنزل. وما وقع بصر «محسن» على الدار المجاورة واللوحة النحاسية المنقوش عليها اسم «الدكتور أحمد حلمي»، حتى تغير وجهه ودق قلبه دقات سريعة. ولعل عبده وسليم كانا يرقبانه هذه اللحظة، فقد تبادلا النظر، واختلجا بشيء لا يعلم أحد أهو بعض الراحة، أم بعض الرأفة.
وصعد الجميع السلم، ومر «محسن» وهم يجتازون الطابق الأول بالشقة القاطن بها الجار «مصطفى بك» فابتسم وقد ذكر في الحال عمته «زنوبة»، ثم التفت إلى أحد رفاقه، وسأله عما إذا كان هذا الجار المثري ما زال ساكنًا هنا أم «عزل»؟ فتبودلت النظرتان من جديد، ثم سمع «سليم» يجيبه بلهجة غريبة: ساكن يا سيدي.
ووصلوا أخيرًا إلى طابقهم، ودخلوا الشقة المعهودة، فقابلتهم «زنوبة» مهللة مكبرة، ترحب بعودة «محسن»، تسأله عن صحة والديه، وتنظر إليه، وتقول: إنت كنت عندنا محفض سمين.
ثم جعلت ترقيه وتدعو له الله وأم هاشم … و«محسن» يجيل بصره في البيت، يتعرف ما تركه منذ أسبوع؛ كأنما مضى عليه عام، وينظر إلى المائدة الممدودة وسط الردهة، ويستذكر اجتماعهم حولها. ثم مد رأسه لينظر حجرة النوم ذات الأسرَّة الأربعة المصطفة جنبًا إلى جنب، ثم أدار رأسه يتفقد سلم السطح المؤدي إلى حيث التقى «بسنية» لأول مرة. ثم التفت إلى حجرة «زنوبة» والشلتة الكرنبي، المفروشة على الأرض فوق الكليم الأحمر القديم، حيث تجلس عمته، ويجلس بجوارها يتحايل ويتخابث؛ ليعلم منها أخبار «سنية» بدون أن يستثير ريبتها، كل ذلك رآه ومر بخاطره في لمح البصر. ولم يجد شيئًا تغير عن ذي قبل، لا في نظام الشقة، ولا في الأثاث.
نعم لا شيء تغير، ومع ذلك فإن إحساسًا دقيقًا يحدثه بأن شيئًا تغير، ولكن ما هو؟ التفت «محسن» إلى وجوه رفاقه يستفسرها، لكنه ألفاهم ساكتين غامضين!
فالتفت إلى «زنوبة»، فلم يستطع بادئ الأمر أن يقرأ في وجهها شيئًا غريبًا، ولا أن يرى في صوتها أو حركاتها ما يوحي إليه بإحساس خاص، غير أنه لم يفته، وقد أمعن النظر إلى عينيها، أن يجد فيها شيئًا يتعارض وتلك الابتسامة الفرحة، وذلك الابتهاج الذي استقبلته به … نعم في عينيها أيضًا تلك الكآبة، ولكنها أرخت بصرها في الحال، إذ نظر إليها هذه النظرة الفاحصة، ثم سألته عما إذا كان جائعًا؟ فأجابها أنه لن يأكل إلا مع أعمامه وعند حضور العفش؛ لأنه يحمل إليهم «برام» أرز بالحمام والدجاج.
فأظهر الجميع الابتهاج، وهللوا لحظة، وهشُّوا لذكر الحمام والدجاج … فقالت «زنوبة» «لمحسن» أن يخلع ملابسه ريثما يأتي العفش، فذهب «محسن» إلى القاعة «العمومية» ذات الأسرَّة، واقترب من الدولاب الكبير المشترك وفتحه، وألقى نظرة على ما يحويه من ملابس مختلفة الأحجام والألوان، تُذكِّر بمعروضات سوق «الكانتو»، ثم اتجه إلى سريره المجاور لسرير «الرئيس حنفي»، وهو يفك أزرار ثيابه، فقال «حنفي» مرحِّبًا باشًّا: أهلًا بجاري.
وأومأ «اليوزباشي سليم» بيده إلى القاعة والأسرَّة، ثم قال «لمحسن» ملاطفًا، ولكن في لهجة تشوبها رنة غامضة قلقة: رجعت «للعنبر» يا بطل.
فقال «حنفي» باسمًا: العنبر دلوقت كامل العدد.
ثم طفق يتحدث قائلًا إنه كلما ذكر أن سرير «محسن» خالٍ بدا له أن شيئًا ينقص، وهذا الشعور بالنقص كان يمنعه من النوم بعض الأحيان … فضحك «محسن» والتفت إلى «حنفي» وقال: يمنعك من النوم، مش ممكن، مفيش حاجة تمنعك من النوم أبدًا … فاكر يوم ما نمت في المحطة، وضيعت لي القطر؟
والتفت إلى الجميع يريد أن يحكي لهم ما حصل؛ كي يشركهم في الضحك، غير أن «حنفي» أومأ إليه إيماءة خفيَّة؛ متوسلًا إليه ألا ينشر الخبر «بين الشعب».
ودب الصمت بينهم لحظة قطعها «عبده» الذي لم ينبس بحرف منذ دخوله قائلًا: «مبروك» غاب.
وحولت هذه العبارة أفكار الجميع إلى جهة أخرى، فنهضوا ينظرون من النافذة مجيء العربة التي فوقها «مبروك»، ونزل «حنفي» من فوق سريره الذي كان جالسًا عليه، وهو يقول: لازم تاهوا، هي ما دام فيها «مبروك» حاتوصل؟ أنا أراهن إن ما كان وقع من فوق العربية، والعربجي مش واخد باله وفضل سايق.
وخطر «لمحسن» خاطر سريع، فعدل عن خلع ملابسه، وعاد «يزرر» سترته، ذلك أنه رأى الهدية عما قليل ستأتي، وأنه قد يذهب للقاء «سنية»، نعم إنه يقوم المحال إذا ظن أنه يستطيع صبرًا على رؤيتها حتى الغد.
ما كاد «محسن» ينتهي من تنظيم هندامه حتى سمع رفاقه يصيحون في النافذة معلنين: ظهرت.
ثم عقب ذلك لغط أثاره «حنفي» الرئيس، وهو يزاحم الرفاق على النافذة، ويضع منظاره على أنفه، ويسدد عينيه إلى حيث نظر الزملاء، ويقول مؤكدًا بأن العربة ظهرت حقيقة، عند آخر الشارع، وتهتز وتتراقص؛ كالسفينة الغرقى وهي تجتاز حفر ونقر الطريق، ومن فوقها «مبروك» يقب ويغطس لناظريه عن بعد، وهو تارة تظهر منه يد أو ذراع: يشير للعربجي إلى المنزل، وتارة يظهر منه نصفه الأعلى كله وقد احتضن طردًا صغيرًا.
وبلغت العربة المنزل أخيرًا، ووقفت ببابه، فاقترح «عبده» أن ينزل الجميع لمعاونة «مبروك» في إصعاد العفش، وما كاد يقول، حتى اتجه إلى باب الشقة، وأخذ ينهب الأرض نهبًا وباقي الشعب في أثره بما فيه «الرئيس شرف»، ولاحظ «محسن» نشاط «حنفي أفندي» العجيب، وهو ينزل السلم مستعدًّا للعمل، فضحك في نفسه وقد أدرك السر: والله ما حرك العم «حنفي» اليوم إلا برام الأرز.
وكانت «زنوبة» وقتئذٍ في حجرتها تنتظر فراغ محسن من خلع ملابسه، فلما سمعت جلبة الجميع في السلم، خرجت إليه وأشرفت عليهم من علٍ، وسألت عن الخبر فأجابها «الرئيس حنفي» في اغتباط ساذج، وهو يدافع منكب «سليم» على الدرجة الأخيرة من السلم: العربية جت، حضري القصع والحلل والصواني.
ما مرت عشر دقائق، حتى صُفَّت الطرود في ردهة المائدة واجتمع الشعب بأكمله، بعد أن صرفوا الحوذي وعربته، وتقدمت «زنوبة»، وقد فوضوا إليها الأمر في فتح الأشياء وتوزيعها وحفظها، والتصرف فيها بمقتضى الحكمة والعدل، فتناولت سكينًا وجعلت تقطع وتفك أربطة السلال، وتخرج ما فيها من الكعك المسمى «منين» و«بتاو» و«غريبة» في طشت غسيل كبير.
بينا «مبروك» ينظر إلى حركة يدها المتنقلة بين السلة والطشت ثم يحدق في البتاو، ولعابه يسيل. وأخيرًا تجرأ وقال، ولم يطق صبرًا على الانتظار: أما اقول لك يا «ست زنوبة»، صلي على النبي.
فلم تُجِب «زنوبة»، وظلت منهمكة في عملها، لا تلتفت إليه، فسكت قليلًا على مضض، ثم تردد وتنحنح، وتقدم إليها أخيرًا قائلًا: أنا ماليش دعوة بكم بلا قافية، أعطيني أنا منابي وقولي لي روح في داهية.
فرفعت رأسها شزرًا، دون أن تنقطع عن عملها وقالت: النبي تتلهي.
غير أن «عبده» رأى الحق في جانب «مبروك»، فاقترح أن يُعَد البتاو كله ثم يقسم بينهم بالتساوي، فلا يأخذ فرد من الشعب بتاوة واحدة أكثر من رفيقه، وأن ينطلق كلٌّ بنصيبه يصنع به ما شاء، ويكون كلٌّ حرًّا في أن يأكل نصيبه بأكمله في يوم واحد أو على أيام، فأعجبت الفكرة الجميع، وصاح «الرئيس حنفي» متحمسًا: أهو دا العدل.
فأذعنت «زنوبة» وأخذت تعد البتاو والمنين، توطئة لتوزيعه بين الجميع بالتساوي، ولكن «محسن» ذكر أن «سنية» لها قسط من الهدية، فارتبك وتحير، وأخيرًا تشجع وقال في بعض اضطراب: أظن واجب يا عمتي تبعتي شوية لبيت الجيران، ألا طبعًا هم عارفين … إني جيت من الأرياف ومعايا.
وغص حلقه بباقي الجملة؛ إذ لاحظ في وجوه الرفاق، وبالأخص في وجه عمته تغيرًا فجائيًّا عجيبًا، وتمتمت «زنوبة» بلهجة فيها رائحة الاستنكار: الجيران؟
فأحس «محسن» انقباضًا في صدره، والتفت إلى الرفاق يستجليهم الأمر. فألفاهم متبرمين متوجسين؛ كأنهم ما كانوا يريدون التعجيل بتعكير صفوهم في لحظة كهذه، ولمح «سليم» لأول مرة منذ قدومه، يفتل شاربه المعهود، غير أنه في هذه المرة يفتله فتل ساهم «مكبوس» لا كما كان قبلًا، فتل تعاجُب وخُيلاء، ولاحظ كذلك لأول مرة أن شارب «سليم» قد تغير، لم يعد بعدُ ذلك الشارب اللامع «الزنهار» بل غدا متهدل الأطراف مسدولًا؛ كأنما كف عن استعمال «الكوزماتيك» منذ زمن طويل، التفت إلى عمته «زنوبة» فرأى شفتيها تهتزان وترتجفان؛ كأنما تريد أن تنفجر بكلام، وقد سكتت يداها عن العمل، فلما رأت صمت الجميع تجرأت ورددت في لهجة نارية: جيران! … مين هم الجيران دول؟!
شعر «محسن» كأن مصيبة تتهيأ، وتتكون لتنقضَّ على رأسه. فنظر إلى رفاقه بأعين زائغة؛ وعندئذٍ رفع «عبده» رأسه وأشار بيده «لزنوبة» إشارة عصبية، وقال في صوت جاف مغضب: اسكتي دلوقت مفيش لزوم.
ولكن «زنوبة» كان يكفيها أن تلمس في هذا الموضوع لينفغر فمها بالكلام الذي لم تنقطع عنه منذ أسبوع. وكانت كلما تكلمت فيه تحس أنها تشفي غلتها؛ لذلك ما التقت بأحد من معارفها القريبين أو البعيدين إلا قالت له هذا القول الذي صاحت به الساعة: جيران من دول يا ادلعدي؟ بيت «الدكتور حلمي» أبو قرنين، بيت «سنية» الشرموطة!
غير أن «عبده» ارتعد غيظًا وصاح بها: قلت لك اسكتي، كفاية تشنیع.
وقال «سليم» متكلفًا عدم الاكتراث، وهو يفتل «شاربه» بكبرياء المدحور: مفيش لزوم نهتم بمسألة زي دي، مهمة قوي يعني «سنية» بتاعتك؟ أنا والله عمري ما نزلت لي من زور.
فحدجه «عبده» على الرغم من هياجه العصبي بنظرة ساخرة؛ وكأنه يقول له: «التعلب من عجزه قال إن العنب حصرم.»
وأشارت «زنوبة» بيدها إلى «عبده» و«سليم» كأنما تقول لهما أن يتركاها وشأنها، وهي تصرخ: يوه … مش اقول «لمحسن» على اللي جرى؟
نعم تقول «لمحسن» ماذا حدث في غيابه، لو أن «محسن» الساعة من الأحياء، أو ممن تسمح له حالته بالاستماع، فإن «محسن» ما كاد يتلقى في صميم قلبه عبارتها: «سنية الشرموطة» حتى بهت لونه وبرد جسمه، وذهل عن كل شيء حوله، وأمسك بطرف المائدة يتقوى بها على الوقوف، وقد حدق «بالمشمع» الباهت القديم المفروش عليه. وتحجرت نظرته، ولم يعد يسمع شيئًا من تلك الجلبة والثرثرة والصراخ والتهويل الذي كانت تثيره «زنوبة» في المكان بقصتها الطويلة المفصلة، عما حدث في هذا الأسبوع المشئوم.