الفصل العاشر
لم ينم «محسن» تلك الليلة إلا نومًا متقطعًا لا فائدة منه للجسم. ولقد كانت أحيانًا تأخذه الإغفاءة من تأثير تعب هذا النهار المملوء سفرًا وغمًّا، فيدب النوم في مفاصله ويهمد كل شيء فيه، ولكن ذلك الهمود والنوم العميق ما كان يدوم غير دقائق، وإذا بشيء كالصفير المستطيل أو الصراخ الحاد يخترق طبلتي أذنيه ويتبينه، فإذا هو صوت يقول: «سنية الشرموطة! … «سنية» الشرموطة».
فما أسرع ما يطير النوم، ويحس كأن قلبه قد خُطف أو سقط من بين قدميه وغاص في الأرض، فيفتح عينين متسعتين حمراوين من الأرق، وعندئذٍ يستعرض ما وقع هذا النهار، ويستذكر «زنوبة» وملامح وجهها المتقلص غيظًا وهي تُرغي وتُزبد ساردة ما حدث، قائلة له فيما كانت تقول، وهو لا يعي إلا نصف وعي: من يوم سفرك يا «محسن» وهي تشاغله من البلكون.
ثم قولها بعد ذلك: ليت الأمر اقتصر على مجرد المغازلة من الشرفات، فإن ما بينهما الآن قد وصل إلى حد تبادل المكاتبات والمراسيل، وما يمضي يوم دون أن ترى جارية «سنية» ملتفة في إزارها تجيء خلسة إلى «مصطفى بك» وتظل في مسكنه «بالشقة السفلى»؛ مقدار ما تسلمه الرسالة ويدفع هو إليها الرد.
إنها تكتب إليه، تكتب إليه رسائل وخطابات كل يوم، و«محسن» الذي كان ينتظر خطابًا واحدًا منها في «دمنهور».
وعندئذٍ ذكر تلك الحقيقة التي سودت الدنيا في وجهه، وذكر الخطاب الذي جاءه بالعزبة وحفظه عن ظهر قلب، وذكر قول «زنوبة» عندما صحا لنفسه وتجلد وسألها: أمال يا عمتي، الجواب اللي وصلني منك مين كان كتبه لك؟ مش سنية؟
فكان جواب «زنوبة»: سنية؟! هي فاضيالنا، والا فاضية للراجل الفلاتي الخباص اللي تحت!
فتمالك الفتى كل قوته الخائرة وسألها أيضًا في يأس.
– مين بس اللي كتبه؟
فأجابت: كتبه العرضحالجي اللي قدام محكمة السيدة.
– عرضحالجي؟
نعم، لم يكتف غيظ زنوبة وحقدها بفضح «سنية» والتشهير بها عند الناس بمناسبة وغير مناسبة؛ بل دفعها الغيظ والحقد إلى الذهاب إلى عرضحالجي محكمة السيدة زينب تستكتبه خطابًا غفلًا تبعث به إلى «والد سنية» الوقور؛ كي تفضح البنت عند أبيها وتثير في بيتها عاصفة … كل ذلك لأن «مصطفى بك» علق بسنية، ولم يلتفت إليها هي البادئة بمغازلته، لهذا غدت «سنية» لديها «شرموطة» وغدا «مصطفى بك» رجلًا فلاتيًّا خباصًا.
هكذا كان الغرض الأصلي من ذهابها إلى كاتب عمومي محكمة السيدة وانتهزت فرصة وجودها عنده لتستكتبه «فوق البيعة» خطابًا صغيرًا، ترسله إلى «محسن».
هذه هي حقيقة الخطاب العزيز الذي يحفظه محسن عن ظهر قلب، كما وضحت لعينه الآن؛ أي أن «سنية» لم تخطَّ إليه كلمة واحدة ولا علم لها بشيء عنه، ولا يهمها إن كان حضر أو لم يحضر.
لم يطق «محسن» تلك الفكرة، واستوى في سريره؛ كأنما استقبل طعنة باغتة، وجعل يضرب رأسه بيديه كمن يريد أن ينهي حياته، وما فائدة حياته الآن؟! ماذا يصنع بها وهي خالية من …!
لم يجرؤ على ذكر اسمها؛ بل لفظ آهةً كادت ترن في الغرفة، لو لم يكتم فمه باللحاف، ثم نظر حوله في قلق؛ فألفى الجميع نيامًا وجاره «حنفي» يغط في سريره غطيط خلي الفؤاد، وباقي الشعب يرقد هادئًا؛ لكنه هدوء المستسلم المذعن، فهل يستطيع أن يذعن هو أيضًا وقد فقد من الحياة كل شيء، لماذا ينام ولماذا يصحو غدًا؟
وغطى وجهه وجسده باللحاف وقد تفصَّد جبينه عرقًا، وجعل يدعو الله في حرارة أن ينام فلا يصحو إلى الأبد، وأغمض عينيه بعزم عصبي جنوني؛ كأنما يريد أن يقنع الله بقوة إرادته، وظل لحظة ينتظر الموت ويستحثه حتى وافاه النوم، فنام نومًا عميقًا رأى فيه حلمًا هو أجمل ما حلم في حياته: رأى أول الأمر كأن ما سمع البارحة عن «سنية» كذب واختلاق، وأن «مصطفى بك» قد غادر المنزل والحي ومصر كلها، وذهب إلى أرضه بالأقاليم حيث تزوج ابنة أحد الأعيان من أقاربه، وأن «محسن» لبس بذلته الجديدة وذهب إلى «سنية» بالهدية التي جاء بها فاستقبلته من أعلى السلم بملابس خضراء حريرية، تترجرج كأنما نسيم خفي يهزها، ومدت ذراعها إليه، وقبلته قبلة على خده الأيمن أحس معها أريجًا يملأ أنفه، لا يدري أهو أريج يعطر ثيابها أم أن المكان كله يتضوع بعطر جميل، ثم رنَت إليه بأهدابها السوداء الطويلة رنوًّا انتهى بارتخاء تلك الأهداب، كأنها أطراف مروحة دقيقة من حرير هبطت على صفحة خدها، وجعلت تداعب أزرار سترته ولا تنظر إليه كأنما تعتب عليه، وأخيرًا سمعها تهمس إليه: مش قلت لك إن كنت تحبني ماتتأخرش عن مصر أكثر من كده.
فأفاق: «محسن» من نشوة القبلة قليلًا، وقال لها إنه لم يتأخر، وإنه ما كاد يستلم خطابها العزيز الذي يحفظه في صدره دائمًا أينما ذهب، ما كاد يتلوه ويتلوه حتى عزم على الرحيل وحزم أمتعته وأتى مصر، فبدا كأنها اقتنعت نصف اقتناع، وأخيرًا قادته إلى حجرة «البيانو» وضربت له بأناملها الرشيقة، ودخلت الجارية تحمل أكواب الشربات الأحمر، وما كاد «محسن» يرى الجارية حتى ارتعد قليلًا، لا يدري لماذا، ولكنه شرب هنيئًا، وخرجت الجارية وهو يتبعها بنظرة خائفة ثم التفت فجأة إلى «سنية» فألفاها ترنو إليه خلسة ذلك الرنو الطويل. فما رأت نظرته تباغتها حتى أرخت عينيها بأهدابها الطويلة السوداء، وسكتت، فخفق قلب «محسن» وسكر.
ونهضت «سنية» بغتة، وقفزت إلى «البيانو» تريد أن تضرب له شيئًا آخر، بعد أن تأوهت في رقة، وابتسمت له في سحر، وقالت بصوت الهامس، وهي تعود إلى الرنو إليه: آه يا «محسن» لو كنت صحيح تحبني قد ما أحبك.
لم يدرِ الفتى ماذا يجيب، ولعله لم يقدر على الجواب، فإنه ذهل حتى عن نفسه وعنها، ولم يدرك إلا شيئًا واحدًا أن كنوز الأرض كلها وكنوز العوالم الأخرى لا تساوي عنده ما ظفر بهذه الجملة الصغيرة، وأن السعادة … السعادة التي يصفونها ولا يدركونها، ها هي ذي يلمسها بيده، بل ها هي ملء كفه، وها هو يضعها في جيبه، بل في قلبه، إنها تملأ قلبه على سعته. بل تثقله؛ كأنما هي من الذهب الإبريز هذه السعادة … نعم إنها تثقل جسمه أيضًا الآن، إنها تتمشى في جسمه كله الآن متدفقة، ويحس جسمه يحشى بها حشوًا، كما تحشى زكيبة بالذهب، وها هو ذا يكاد يخنقه الفرح، تخنقه السعادة، إنها بلغت حلقومه، إن الفرح سيخنقه إن لم يفض قليلًا، والسعادة تكاد تثب من فمه، إنها تنفخ صدره وبطنه باحثة عن منفذ … نعم، إنه في حاجة إلى أن يقيء بعضًا منها، نفسه تضيق، ما أثقل وزن هذا الذهب على صدره!
وتقلب «محسن» في فراشه باسم الثغر، مفتوح الفم، يلهث من عبء السعادة، ويريد أن يفعل أي شيء، أن يجري، أن ينهض يخبر … يخبر الناس … أن يتكلم … أن يثرثر … أن يقفز … أن يتمرغ في التراب … أن يتدحرج على الأرض. وهذا الشيء الأخير هو الذي … هو الذي استطاعه «محسن» وعمله فعلًا: أن تدحرج على سريره دحرجة انتهت برأسه إلى حافة السرير، ففتح عينيه، فإذا رأسه يطل من الفراش على أرض الغرفة وفمه مفتوح؛ كما لو أنه يقيء.
وكانت تباشير النهار قد ظهرت من النافذة، وأن شعاعًا من الشمس يتسلط على «الدولاب» الكبير المشترك.
وفجأة ذكر «محسن» المسكين كل شيء.
وعادت إليه الحقيقة برمتها وقسوتها، وعلم أن سعادته حلم، ولم يبقَ منه شيء، لقد قاءه واستفرغه من قلبه كله الآن عند طلوع النهار، ولم يفضل له منه نطفة يتغذى بها ويحيا، واسودت الغرفة في عينيه من جديد، ونظر إلى قرص الشمس، وقد ظهر كله، فخيل إليه أنه قرص أسود … أسود من الأبنوس، وأسود من الشعر.
إن الشمس لا تلقي على العالم نهارًا وبياضًا، بل سوادًا، سوادًا.
وذكر أنه طلب الموت في الليل خوفًا من هذا النهار، فأعطاه الله بدل الموت حلمًا لذيذًا؛ كي يزيد عذابه عندما يصحو، وتبدو له الحقيقة، ومرت بمخيلته صورة «سنية» في ذلك الحلم الجميل، والقبلة، والرنو، والأهداب. ثم «سنية» الآن التي لا تعرفه، المشغولة بحبها ﻟ «مصطفى» والتي لا تعلم، ولا تريد أن تعلم حتى بحضوره، وتجسم لديه هذا الفرق الهائل بين الحلم واليقظة، فجأر في نفسه كالمذبوح، ودس رأسه تحت الوسادة، وهو يزفر متوسلًا إلى ربه في عتب مؤلم: «حرام … حرام … حرام!»