الفصل الحادي عشر
مر بخاطر «محسن» أن «الشعب» عما قليل يستيقظ ويراه على تلك الحال، فأسرع بالنهوض، وارتدى ملابسه في بضع دقائق، ثم خرج من المنزل قاصدًا مدرسته، بدون أن يتناول طعام الإفطار واجتاز في طريقه باب «الدكتور حلمي»، فأطرق في ألم؛ ولم ينظر إليه، ومر تحت تلك الشرفة المشهورة فلم يرفع إليها رأسه؛ كأنما لم يعد يملك حق إمتاع نظره، حتى إلى شرفتها الخشبية، التي طالما وقف فيها بجانبها، وأطل منها معها يشاهدان الشارع والقهوة الصغيرة المواجهة، وهنا فجأة تذكر آخر يوم رآها، وقد ذهب إليها يودعها قبيل سفره إلى «دمنهور»، وكيف أنها حقيقة كانت ترمق القهوة في اهتمام أوجسه، وأدخل في نفسه الشك؛ ذلك أن «مصطفى بك» يومئذٍ كان جالسًا على الرصيف، يخالس هو الآخر شرفتها بالنظر.
إن قلبه في ذلك اليوم حدثه بشر، ولكنها عرفت كيف تبدد ريبه، وأبدت له ما جعله أسعد إنسان يومئذٍ، نعم، تلك القبلة التي ما زال يحس طابعها على وجهه، أتراها كانت ماكرة تتخابث عليه؟ وهذه الدمعة التي ذرفتها له، ألم تكن صادقة خالصة؟ لا يمكن ذلك، إنه لا يتصور أنها كانت تخادعه، ليكن من أمرها الآن ما يكون، فإنه لا يستطيع أن يرتاب لحظة في نبل خلقها؛ إذن ما الذي حدث؟ ما الذي غيَّرها عليه بهذه السرعة؟
عندئذٍ بدت ﻟ «محسن» فكرة، ومضت في قلبه ببريق أمل: لماذا يحكم عليها من قبل أن يراها؟ ولماذا لا يذهب إليها يستفسرها لعلها تكذب كل أو بعض ما سمع، أو لعلها إذا رأته تذكر أو تندم أو ترفق أو.
نعم ليذهب … وتنفس ببعض الراحة لأول مرة منذ علمه بكارثته، غير أن هذا البريق لم يلبث أن محته سحابة سوداء، سرعان ما تكونت، ما أبسطه غلامًا، أهو يظن «سنية» اليوم مثلها بالأمس، وهل بعد هذه الصلة الوثيقة بينها وبين «مصطفى» ورسائل الحب يستطيع هو أن يطمع في شيء، أو أن يتوهم أي حق له عندها؟ حتى ولا حق الزيارة المجردة.
ثم شيء آخر، كيف يذهب؟ وبأي حجة والعلاقات الآن مقطوعة بين المنزلين؟ قطعتها عمته «زنوبة» بغيرتها.
إن «سنية» الآن غدت أبعد من كواكب السماء.
وهكذا سار في الطرق يتخبط بين تلك الخواطر المتضاربة، يخرج من أمل ليدخل في يأس، دون أن يترك له القدر إحدى الراحتين، حتى بلغ أخيرًا المدرسة ودخل فناءها مطرقًا، فانتحى ناحية بعيدًا عن التلاميذ؛ كي ينقطع لنفسه إلى أن يدق جرس دخول الفصول.
وكان بين آنٍ وآخر يرفع رأسه، ويلقي نظرة على تلك الزرافات من الطلبة المجتمعة في حلقات عدة، كل حلقة تجمع فئة من الإخوان يتضاحكون ويتمازحون، ويقصون ما رأوا من غريب وطريف أثناء العطلة، أو يسردون ما فعلوا أثناءها وكيف قضوها.
وكان غالبًا ما يتوسط كل حلقة تلميذ، لعله أكبر الباقين سنًّا أو أذكاهم فؤادًا، أو أظرفهم حديثًا وأفكههم نكتة، هو الذي يدير دفة الكلام ويقص ويحكي والجميع يصغون إليه ضاحكين مستحسنين مسرورين بكل كلمة يقولها.
وذكر «محسن» أنه كان دائمًا بين تلاميذ فصله ذلك المعبود اللذيذ الذي كانوا يحيطون به، مستمعين، وعن يمينه صديقه وأمينه «عباس»، الذي يمده بقوة الثقة والإيمان، والتصديق الأعمى، والتحمس المطلق لكل ما يقول.
وذكر «محسن» فسحة الظهر التي كان هو و«عباس» والملتفون حولهما، يشغلونها بمطارحة الشعر بجوار جدار المدرسة تحت السلم الكبير، حتى إذا ما فرغت جعبتهم من الشعر انقلب «محسن» خطيبًا مفوَّهًا، يتبارى بالطلاقة والتمثيل وحسن الإشارة، في هذا الجمهور الصغير من المعجبين، وحانت منه التفاتة إلى مكان الجدار تحت السلم فألفى دهشًا رهطًا من تلاميذ فصله بينهم «عباس»، وكأنهم بما يبدو على وجوههم من كثرة التطلع جهة باب المدرسة ينتظرون أحدًا، ومن عسى ينتظرون الساعة غير «محسن»؟ ولكن ما الذي يستطيع «محسن» أن يقوله لهم اليوم؟ … هو الذي تركهم قبيل العطلة على أهنأ ما يكون إنسان، وها هو ذا اليوم يعود إليهم بعدها إنسانًا آخر، وخشي أن ينتهي بهم الأمر أن يلمحوه، فانتقى مكانًا قصيًّا، ومكث به حتى دق الجرس واصطفت التلاميذ صفوفًا في فناء المدرسة، وتحرك «الطابور» قاصدًا الفصول، وعندئذٍ جرى «محسن» مسرعًا، والتحق بذيل صفه، دون أن يشعر به أحد، حتى دخل الفصل آخرهم، فالتفتوا فعرفوه وصاحوا به، وأقبل عليه «عباس» مهرولًا و«محسن» يتكلف السرور والابتسام، ويحاول مضاحكتهم، ويدعو الله في نفسه أن يعجل بمجيء المدرس، حتى يوفر على نفسه مئونة التصنع، ويسكت الفصل عنه.
ولم يلبث المدرس أن حضر، وترك التلاميذ «محسن» يذهب إلى مكانه، ووقف الكل احترامًا للمدرس، غير أن «عباس» الجالس خلف «محسن» لم ينفك يغمزه بذراعه، ويحثه على مكالمته غير صابر حتى انتهاء الحصة، و«محسن» يتغاضى عنه في رفق حتى بدأ المدرس يلقي درسه وسط الهدوء التام … وكان هذا الهدوء التام خير بيئة منعشة لأفكار «محسن» وخواطره، فسرعان ما غرق في بحار نفسه، ونسي الحصة والدرس والمدرس، وأخذ المدرس يناقش تلاميذه فيما ألقاه حتى أتى دور «محسن»؛ ولمحسن حتى اليوم مكانة عند الأساتذة كما عند أقرانه؛ فهو معروف بالجد والذكاء والالتفات، فما كاد يسأله المدرس اليوم فيما ألقى حتى تبين في الحال عدم وعيه لشيء مما قيل الساعة، فدهش أستاذه، وعجب أن يكون هذا من «محسن»، وسأله مستغربًا مستنكرًا: جرى إيه يا «محسن»؟ انت كنت سارح في إيه؟
فأجاب الفتى، وقد هب واقفًا متلعثمًا كالصاحي من نوم: ولا حاجة يا افندي، ولا حاجة.
ولطف المدرس من لهجته، وقال: الطالب يرجع من الإجازة نشط منشرح منتعش مستعد للدرس مشتاق للتحصيل، والا إيه يا «محسن»؟
فأطرق الفتى خجلًا مرتبكا متألمًا، وقد نظر إليه الفصل بأكمله، وسمع «عباس» خلفه يهمس؛ كالراثي له أو الحزين المغضب الذي لا يود حدوث ذلك لصديقه الذي يقدسه، ويعتقد فيه العصمة والكمال، وكان هذا ما أوجع «محسن»، فجلس مهمومًا يائسًا، ووطن العزم على الالتفات إلى الدرس ما دام في الفصل، وسلط إرادة قوية في حركة عصبية قانطة على عضلات عينيه، ففتحها واسعة، ونظر إلى «التختة» نظرات ثابتة طويلة، وجرد فكره للانتباه إلى المدرس وحده مهما كلفه الأمر، ومكث يجاهد من أجل ذلك وملامحه متقلصة والعرق يتصبب منه.
•••
لم تفد إرادة «محسن» شيئًا، ولم يستطع المسكين التغلب على فكره الشارد؛ فقد كان ذلك أقوى منه، ومضى النهار وانصرف التلاميذ، وانصرف هو مطرقًا، يجر أذياله بعد أن ترك أثرًا سيئًا في نفوس أساتذته وأغلب رفاقه، إنهم ولا شك يستغربون أمره وما دهاه. وكان استغراب صديقه «عباس» بالغًا النهاية، خصوصًا عندما اقترب منه، يخبره أن والده للأسف لم يوافق على التحاقه بالقسم الأدبي، وأنه لذلك مضطر إلى مخالفة عهد «محسن»، وكان «عباس» يتوقع غضب صديقه أو كدره وحزنه على الأقل ولكن كم كانت دهشته إذ رأى «محسن» لم يتحرك للخبر، ولم يبدُ على وجهه أي اهتمام.
•••
لم يكن في رأس «محسن» غير شيء واحد: هذه الحياة التي أصبحت فارغة أمامه، كيف يملؤها؟ والمستقبل الفسيح والأيام الطويلة الآتية بأي صبر يستطيع اجتيازها؟ وسمع في نفسه هازئًا يجيبه في سخرية: وقبل أن تحب ماذا كنت تصنع؟ عد كما كنت قبلًا.
فابتسم الفتى ابتسامة مرة ونظر إلى السماء نظرة الساخط الثائر وكأنه يقول صائحًا في أعماقه: ارجع إلى ما كنت قبلًا؟ نعم إني عشت من غير حب وعشت سعيدًا، ولكنها سعادة الأعمى الذي لم ير الجمال، ولم ير النور، ولم ير الحياة، ولكنك فتحت أعين الأعمى وجعلته يبصر وينبهر، فهل تحسبه إذا أرجعته بعد ذلك إلى ظلامه الأول مستطيعًا أن يجد سعادته الأولى؟
ورأى «محسن» نفسه فجأة في ميدان «السيدة» فارتعد إذ ذكر أنه مضطر للعودة إلى المنزل، حيث يجلس إلى أعمامه الرفاق، وعمته، وسيدركون، ولا شك من وجهه ما به، فوقف مترددًا لا يدري ما يصنع. وإذا بغتة نظره يقع على دكان حلاق السيدة زينب، وفجأة اصفر كالأموات ومكث بلا حراك، ذلك أنه لمح «مصطفى بك» خارجًا منه و«البودرة» البيضاء لا تزال تزين ذقنه، وشاربه الأشقر الذهبي الصغير مقصوص على الطراز الأخير، وهو يختال في بذلة جميلة، وبيده منديل حريري في لون البذلة يضعه في رشاقة في جيب الصدر الأيسر مظهرًا طرفه، وعلى وجهه البسطة والانشراح طافحان.
واسود الميدان في نظر «محسن» فلم يشعر إلا أنه اتجه إلى المسجد، وفي قلبه شبه هلع أن يكون هذا الرجل قد رآه، وخلع نعليه بسرعة وارتجاف، وسار على بساط الجامع حتى بلغ المقام، فانزوى في ركن من أركان الضريح المظلمة، التي لا يأتيها النور إلا من «نجف» كبير يتدلى من أعلى تلك القبة الفخمة الشاهقة، وتناول «محسن» بيده قضبان الحاجز النحاسية، وجعل يهمس ملهوفًا من صميم قلبه، بصوت عصبي متقطع: يا سيدة زينب! يا سيدة زينب! يا سيدة زينب!
وانفجر باكيًا، وتساقطت دموعه على بساط المقام، وهو يكتم شهقاته في صدره، حتى لا يسمعها الزوار حوله.