الفصل الثاني عشر
في نفس الساعة كان «عبده» في مدرسته أمام لوحة الرسم يشتغل بتصميم هندسي مطلوب منه، والواقع أنه من يوم حكاية «سنية» وقد تحول يأسه إلى عمل، فاتجه إليه بكليته لا يعكر عليه سوى صورة «مصطفى» كلما مرت بخاطره؛ لهذا ما كان يطيق أن تذكر أمامه تلك الحكاية، ولا أن يلفظ اسم «مصطفى» فقد كان يشعر عندئذٍ أن عزته قد ذلت فيعتريه هياج، ويصيح بمن فتح الموضوع أمامه: اقفلوا الموضوع ده يا ناس، دماغي وجعني.
ثم يترك المكان في الحال بحركة عصبية!
إنه حتى آخر لحظة ما كانت تسمح له كبرياؤه أن يتصور «سليم» الدعي «الفشار» جديرًا بالفوز عليه، وبرغم ما حدث يوم إصلاح البيانو، وما قاله وادعاه «سليم» فما كان ذلك ليقنع «عبده» … أما الغلام «محسن» فهو أصغر من أن يحسب له حساب، ولبث على هذا التصور إلى يوم أن ظهر في الميدان الشاب الثري الجميل «مصطفى بك»، فانهارت ثقته بنفسه بعض الانهيار، وظل يُرغي في نفسه ويُزبد، متوعدًا دون أن يستطيع تنفيذ وعيده، إنه تنقصه عاطفة الشر الحقيقية، وإن كل هذا الزبد الطافي لا يخفي إلا ماء صافيًا، وانتهى به الأمر أن انكب بعد أيام على العمل متناسيًا بقوة إرادة عصبية صارمة.
وانقلب هزؤه بسليم عطفًا وتضامنًا؛ كما كان الحال بينهما قبل التنافس والتزاحم، غير أنه برغم كل ذلك ما برح يحس كأن شيئًا من النور في نفسه قد أطفئ، وأنه لا العمل ولا سواه يستطيع أن يعوضه عن ذلك الأمل الحلو، والقليل من الخيال الجميل الذي كان يرفق حياته الجافة الصلبة.
وخطرت له الساعة صورة «سنية»، فلم يتمالك أن رمى بالقلم من يده، وترك اللوحة وخرج ساخطًا يسير في حدائق الجيزة المحيطة بالمدرسة، وقد أدرك أن حياته ينقصها شيء … أدرك ذلك بإحساسه العميق الخفي فقط، دون أن يجسر العقل ولا الفم على القول بذلك، لهذا عزا ضيقه وسخطه وخروجه إلى الحدائق على هذا النحو إلى شيء آخر، نفاقًا منه وكذبًا على نفسه؛ فلقد مشى يقول لنفسه هائجًا ثائرًا متبرمًا: أف! … الشغل … الشغل … الشغل، مفيش في الحياة غير شغل! خلقنا بس للشغل، زي الحمير؟!
ومر بحقل أخضر مزروع خسًّا، وامتلأت عيناه بالاخضرار فارتعد، وذكر في الحال يوم ذهب إلى بيت الجيران لإصلاح أسلاك الكهرباء، فرأى «سنية» تهف بين آنٍ وآنٍ أمام ناظريه بثوبها الحريري الأخضر، وكيف كانت كأنها تبدي له نفسها عن بعدٍ قصدًا، ثم صوتها الرقيق وهي تتساءل عما إذا كان «عبده بك» يحب الشربات أو القهوة، وجلس «عبده» على مقعد حجري قابله، وأطلق نفسه تحلم بالماضي وتصوره كما تشاء، مفرطة في تكبير الصور كما تشتهي.
إنه يحفظ جيدًا ما قالته من كلمات، ويعي رنة صوتها، كل ما فيها يومئذٍ كان يدل على اهتمامها به وبمقدمه، ولعل مسألة سلك الكهرباء ما كانت سوى حجة مخترعة.
إنه لا يذكر أن رآها رؤية ملية طويلة؛ فالمرة الأولى كانت يوم أن اختلس النظر إليها مع رفاقه من ثقب باب حجرة «زنوبة»، والمرة الأخيرة كانت يوم إصلاح سلك الكهرباء المعهود، ولقد كانت فرصة سانحة يومئذٍ ليملأ عينيه منها، ولو أنها كانت تخطر من وراء الأبواب كالريم المنفلت، ولقد أطلت برأسها وأطالت الوقوف مرة، غير أنه أسدل عينيه انبهارًا وقد التقت بعينيها … ما أجملها! على الرغم من رؤيته القصيرة لها، فإنه يذكر شعوره الأول يوم رآها، وشعوره الأخير يوم غادرها: إنها أجمل امرأة شاهدها. وهنا ارتجف «عبده» إذ ذكر أن هذه المرأة هي الآن لرجل واحد، رجل أجنبي عنهم جميعًا وأنها فضلته عنهم جميعًا، وأحبته، وتكاتبه ويكاتبها، والمراسيل بينهما ذاهبة آيبة.
نهض «عبده» مستويًا فجأة وكأنما بدا له أن يذهب توًّا إلى «مصطفى» هذا، ويشبعه ضربًا ولكمًا، أو أن يذهب إلى مالك المنزل ويطلب إليه طرد هذا الرجل؛ أو أن يفعل أي شيء يؤذي به هذا الشخص.
وسار في طريقه إلى حي «السيدة» وأضعف طول الطريق من سورته، وبردت حدته، وطفق يتكلم بلسان العقل قليلًا، متسائلًا: لماذا يسيء إلى «مصطفى»؟ وما ذنب هذا الرجل إذا كانت هي تحبه؟ أويعلم هو بحبهم لها؟ وإذا كان يعلم فماذا يصنع إذا كانت هي اختارته؟
وانقلب «عبده» عندئذٍ عليها هي، وجعل يقول في غيظ: كيف استطاعت هذه الفتاة أن تنكرهم، هم الذين يتصلون بها وبأسرتها طول تلك المدة، وتتعلق برجل بعيد عنها وعن أسرتها ولا معرفة لها به؟
ونسي «عبده» في تلك اللحظة غيظه من «سليم» و«محسن» ذلك الغيظ الذي كان يشعر به نحوهما كلما اختلفا إلى منزل «سنية» بأي حجة، وأحس الساعة أنه كان أحب إليه ألف مرة أن تختار «سنية» واحدًا منهما من أن تختار هذا الغريب … وشعر بعطف وحنو ورابطة اتحاد تصله برفاقه المنكوبين مثله. ولاحظ أنه وهو يتكلم ويثور إنما يتكلم باسمهم جميعًا، لا باسمه وحده فقط.
ولأول مرة أحس الحاجة إلى القرب منهم والكلام معهم في هذا الأمر؛ فالعاطفة بينهم مشتركة، وكل شيء مشترك، وكذلك الخيبة والألم.
•••
في تلك الساعة أيضًا كان «سليم» في قهوة الجندي «فوق»، وكان قد عاد إليها ذلك اليوم بعد أن أيقن أن لا فائدة من بيت الجيران، وحاول «سليم» أن يقنع «الشعب» بأن بيت الجيران لم يكن يهمه قط، وأن «سنية» إن هي إلا فتاة ككل الفتيات، لا شأن لها عنده ولا يلتفت مثله إليها، غير أنه إن استطاع إقناع سواه بهذا الكلام فهو أحوج الناس إلى إقناع نفسه به أولًا.
وهكذا مضى «سليم» إلى قهوة الجندي، حاسبًا أنه قد محا كل شيء بهذا الثمن البخس، وهو يدخل السرور والعزاء على نفسه بقوله: فين «سنية»؟ وإيش تكون من المدموازيلات والوظووظات الخفافي دول؟!
أخذ مجلسه، وهو يلتفت يَمنة ويَسرة يتعرف المكان، ويستذكر ماضيه فيه، ذلك الماضي المملوء سرورًا ومرحًا، وجعل يتصفح وجوه الآنسات الجالسات إلى «الزبائن»، أو الرائحات الغاديات، أو المنتظرات موعدًا، أو العاطلات المتربصات للفرص؛ وكأنه لا يعرف منهن واحدة، وهو الذي ما كان يجهل امرأة تدخل هذا المكان، أيام أن كان الزبون المواظب المستديم.
غير أنه ما لبث أن لمحته واحدة جالسة بمفردها إلى مائدة فعرفته، وابتسمت له تدعوه إليها، فنهض في الحال وأقبل عليها يفتل شاربه مختالًا، ومد يده إليها مسلمًا في لهجة الصاحب القديم: إزيك يا «مارية».
وما كاد يجلس بجوارها حتى أحاطت به «الجرسونات»، فرفع رأسه إليهم، وقال متجهمًا: خبر ايه؟
ولكنه تمالك نفسه في الحال؛ إذ عرفهم وذكر ظهوره أمامهم بمظهر الثري، فغير لهجته وقال لأحدهم، وهو نوبي ممتلئ: إنت لسه عايش يا «فسدق»!
– أمال يا سعادة البك، خدامك.
فانتفخ «سليم» قليلًا، وأشار إلى صاحبته، ثم قال «لفسدق»: شوف المدموازيل تطلب إيه؟
فانحنى «الجرسون» على المرأة يتلقى أمرها، وجعلت هي تفكر لحظة، و«سليم» ينتظر نطقها في قلق؛ كمن ينتظر نطقًا بالحكم عليه بغرامة.
و«سليم» ليس له من رأس مال سوى التظاهر والادعاء الكاذب و«الفشر»؛ بهذا استطاع أن يختلف إلى هذا المشرب في الماضي، ويجعل له شخصية بارزة بين رواده وزائريه، وأخيرًا نطقت «المدموازيل» قائلة للخادم: اديني واحد كونياك مارتل بالصودا.
فتركها «فسدق»، والتفت إلى «سليم» في احترام: والبك؟
فحك «سليم» رأسه، وتظاهر بالتفكير والحيرة لحظة، ثم قال: أنا؟ … أنا هات لي واحد صودا بس، وعليها شوية شربات ورد صغيرة، إنت عارف معدتي يا فسدق.
فتردد الخادم قليلًا، ثم لم ير بدًّا من الانصراف؛ ليأتي بالطلبات، وعندئذٍ التفتت المرأة إلى «سليم» وقالت: «سليم بك»! … دايمًا المعدة بتاعك عيان؟
– أعمل إيه يا «مارية»، ألا على فكرة، فين امال «كتينة» واختها «آديل»؟
وأخذ يحادثها في مختلف الموضوعات التافهة ويلاطفها ويداعبها ويضاحكها في قوة وضجة وحماسة وعربدة لم تعهدها فيه؛ وكأنما هو يتشفى اليوم، ويثأر لنفسه المدحورة في الميدان الآخر.
ودخل زبون جديد عليه سيما النعمة الحقيقية؛ وصفق بيديه فسرعان ما اتجهت أنظار النساء إليه، وانصرفت «ماري» عن حديث «سليم» وظلت ترمق هذا الزبون الجديد، وأخيرًا نهضت مستأذنة في الذهاب لحظة إلى دورة المياه، ومشت تتهادى قرب الزبون الجديد تاركة «سليم» «مع الطلبات» … وسكن «سليم» إلى نفسه، وانقشع عنه غبار هذا المرح الكاذب الذي أثاره في قلبه متعمدًا، ورسبت الكآبة والخيبة التي كان يحاول عبثًا سترها عن نفسه، وانقلبت ابتسامة السرور على شفتيه إلى ابتسامة ازدراء مرة، والتفت إلى أولئك الفتيات، وجعل يتأمل أصباغهن التي تسيل بفعل العرق على وجوههن الشاحبة، وينظر إلى تلك الحركات، واللهجات المتكلفة والضحكات والغمزات واللمزات المتصنعة، ولأول مرة ساءل نفسه كيف استطاع غشيان هذا المكان؟ وكيف أن هاته العاهرات كن يعجبنه؟
وعادت إليه «ماري» بعد قليل؛ إذ لم يعبأ بها الزبون الجديد وجالس أخرى.
فألفت «سليم» ساهمًا متجهم الوجه، مفكرًا، فقالت دهشة: إيه! … سليم، مش مبسوط كتير؟
فرفع رأسه إليها، وسدد نحوها نظرات جامدة جافية، وأجاب في برود: مبسوط كتير؟
ثم تركها والتفت توًّا إلى كوب الصودا الوردي، فاشتغل به عنها … ومكثت هي تنظر إليه لحظة، ثم أشاحت بوجهها عنه، وهزت أكتافها خفيفًا، وجعل «سليم» يحرك الملعقة في الكوب، وينظر خلال لونه مستذكرًا يوم شرب «شربات» الورد عند «سنية»، حينما ذهب لفحص «البيانو» … إنه أخطأ إذ حسب تلك الفتاة لم تترك في نفسه أثرًا، إن ما فعلته به لأكثر من مجرد ترك أثر، ها هو ذا اليوم يزدري بعدها هاته النسوة، وأيقظت في نفسه عاطفة جديدة لم يكن يعرفها قبلًا، عاطفة الإعجاب النبيل، وأن ذلك التقزز والاشمئزاز الذي يحسه الآن نحو هاته «المدموازيلات»، إنما يبعثه تذكُّره جمال «سنية» الرفيع، وظرفها غير المبتذل، وإحساسها الصادق، لقد أدرك «سليم» الآن أن قد حرمت عليه عاهرة بعد اليوم، إنه يحس أن قلبه قد ارتفع، بل يحس أن قد أصبح له قلب يضن به على العاهرات.
«سليم اليوزباشي» يحس هذا الإحساس الآن؟! … شدَّ ما تغير! وهو نفسه استغرب من نفسه الآن ذلك الإحساس العالي، وعلم أن «سنية» جعلته يعرف من نفسه أشياء، ويستكشف فيها مناطق مجهولة، وهل كان يعلم قبل اليوم هذا «اليوزباشي» أن في نفسه عواطف طاهرة، بل هل كان مثله يعلم معنًى لتلك الكلمات «طهارة … نبل! …» إنه هو نفسه ما كان يفهم حبه «لسنية» إلا أنه حب طائش خفيف مبتذل؛ كحبه للشامية في بورسعيد، ولهاته النسوان من قبل، ذلك أنه ما كان يعرف في نفسه قدرة ولا إدراكًا لحب أرفع، وجرع «سليم» جرعة واحدة من كوبه ثم بصق، وأقصاه عنه بطرف أصبعه، وصفق فأتى النوبي «فسدق» ووقع بصره على كوب «سليم» الملآن، فالتفت إليه يسأله بعينيه: لماذا لم يشرب، فارتسمت على فم «سليم» علامة اشمئزاز وقال: ريحته وحشة.
أراد «الجرسون» اعتراضًا فأشار له بيده أن كفى، ولا لزوم للكلام، ثم دس يده في جيبه، وأخرج له ثمن ما طلب، وثمن ما طلبت «المدموازيل» أي الكونياك والصودا مضافًا إليه بقشيشه، ثم نهض وانصرف، بعد أن أشار بعلامة تحية مختصرة للمرأة، وعجبت المرأة لأمره، ولبثت تشيعه بأنظار المستغرب حتى نزل السلم، فهزت كتفها في شبه غيظ، ولفظت ضحكة استهزاء.
ومشى «سليم» في الشارع، واستقبل الهواء الطلق برئتيه، فشعر بارتياح، وخُيل إليه أنه كان يتنفس هواء فاسدًا كريه الرائحة في ذلك المكان.