الفصل الثالث عشر
عاد «سليم» إلى المنزل فلقي «مبروك» الخادم في الردهة يشير إليه بالسكون، ثم يشير مبتسمًا في خبث إلى حجرة «زنوبة» الموصدة، فارتجف سليم، وتردد قليلًا، ثم هجم على الحجرة برفق، سائرًا على أطراف قدميه ونظر في ثقب الباب.
وعندئذٍ ظهر «عبده» قافلًا من الخارج هو الآخر، فاستقبله «مبروك» بنفس الإشارة والابتسامة، ويكفي «عبده» أن يرى «سليم» منكبًا على ثقب الباب ليحدث في قلبه ما حدث ﻟ «سليم» وأشد، ولفوره اتجه إلى الباب، وزاحم «اليوزباشي» بمنكبيه، وقلبه يدق دقًّا متواصلًا، ولكن «سليم» ما لبث أن استوى، تاركًا ﻟ «عبده» الثقب في ابتسامة مرة.
والتفت إلى «مبروك» وسأله هامسًا: مين دي الحرمة اللي جوه؟
واستوى «عبده» أيضًا، عقب ذلك في خيبة رجاء، ووقف بجانب «سليم»؛ كأنه متضامن معه في السؤال، ومنتظر معه جواب «مبروك»، ونظر إليهما «مبروك»، وفهم قصدهما من النظر خلال الثقب، فلفظ آهة صادقة؛ كأنه هو أيضًا بإخلاص يدرك ويحسن نفس إحساسهما، وطفق يقول: أيام زمان ما تعودشي، أيام زمان ما تعودشي خلاص.
ولكنهما استعجلاه في الجواب، وأعاد عليه «عبده» بصبر نافد: مين الحرمة دي؟
فتنحنح «مبروك»، واقترب منهما، وهمس سريعًا: امرأة الحانوتي.
فردد الاثنان معًا في دهشة: حانوتي؟
وبدا عليهما عدم الفهم، فجذبهما «مبروك» بعيدًا إلى غرفة النوم العمومية، ذات الأسرَّة، وجعل يقص عليهما في لهجة التشفي والرضا أن هذه المرأة هي امرأة حانوتي خط السيدة زينب، وهي التي ستحضر لهم قبضة من تراب ميت، لم يمضِ على دفنه ثلاث ليالٍ.
فقال له عبده بقوة: ليه؟ … علشان إيه؟
فأجاب «مبروك» بنفس لهجة التشفي: علشان «العمل» اللي رايحين نرشه على عتبة الراجل «مصطفى».
فهز «عبده» رأسه، وقد أدرك كل شيء، وعاد فسأل «مبروك» قائلًا: طبعًا دي أفكار «زنوبة»؟
فأجاب «مبروك» بالإيجاب في فخر، وزاد على ذلك بقوله: إن «زنوبة» استشارت في هذه الوصفة، أشهر «عالم»، وأنها مجربة، ولا خوف من الفشل، وإذا لم يمت «مصطفى» بعد ثلاثة أيام فإن «العالم صاحب الوصفة» لا يستحق أجرًا، وهو الذي اشترط ذلك على نفسه، بعد أن أخذ فقط مبلغ «رمي البياض».
وقد ذهب — أي «مبروك» — منذ أيام يبحث عن امرأة الحانوتي، يستدعيها لزنوبة تتفق معها، فلم يظفر بها إلا اليوم. وسكت «مبروك» لحظة، ونظر إليهما؛ كأنما ينتظر منهما كلمة موافقة أو تشجيع، غير أنهما لزما الصمت … وغرق «عبده» في تأمل عميق، وقد بدا له أن: بينا هم قد أسلموا الأمر لله ولم يستطيعوا عمل شيء، إذا «زنوبة» لا تفتأ تعمل ولا يوافقها دين ولا ضمير في سبيل غايتها، تود أن يموت «مصطفى» بعد ثلاثة أيام؟ … وتعمل هي على موته، موت إنسان لا ذنب له إلا أنه لم يحبها هي، يا للوحشية! أهذه هي المرأة؟ إذا أحبت وخاب أملها في الحب تصبح هكذا حيوانًا مفترسًا؟
ثم خطرت ﻟ «عبده» فكرة أظلمت لديها الدنيا في عينيه … ومن غريب الاتفاق أن خطر ﻟ «سليم» ما خطر له، وإذا «سليم» يلتفت في قلق وشك إلى «مبروك» سائلًا: إنت متأكد ان «العمل» ده علشان «مصطفى»، بس وحده؟
وأضاف «عبده» في لهجة عصبية أشبه بالصياح: مش معقول «زنوبة» تموت «مصطفى» وتسيب «سنية»!
وأدرك «مبروك» هذا فجأة، فاختلج قلبه هو أيضًا، وقال بصوت قلق مبحوح؛ كأنما يخاطب نفسه أيضًا: هي قالت لي على «مصطفى» بس، ماعرفش، يمكن كمان.
وعندئذٍ جعل «سليم» يوضح لهما ما يظنه قصد «زنوبة»، قائلًا: إنها لا يمكن أن تكون قصدت «بمصطفى» شرًّا، وإن الشر كله مقصود به «سنية» لا سواها، هذا هو المعقول، وهذه هي مصلحة «زنوبة» نفسها، إنها تتمنى موت «سنية» لأنها منافستها وغريمتها، غير أنها كي تشرك «مبروك» الساذج معها في العمل، أخفت عنه القصد الحقيقي، وأفهمته أن المقصود بالشر «مصطفى» لا سواه. وما بلغ «سليم» هذا الحد حتى سمع باب الشقة يفتح ويغلق، فأيقنوا أن الزائرة قد خرجت فهبوا إلى «زنوبة»، وصاح بها «عبده» قائلًا: مين الحرمة اللي كانت هنا؟
فارتبكت «زنوبة» قليلًا من وقع لهجته الشديدة، ولكنها تمالكت، وابتسمت، وأقبلت عليهم تقص ما قاله «مبروك» منذ قليل، فصاح بها «عبده» في غضب مخيف: إنتي يعني مش ناوية تبطلي أمور السحر بتاعتك دي؟
وأردف «سليم» قائلًا: نفرض طيب انك عاملة العمل ﻟ «مصطفى»، تقتلي راجل؟! … تموتي بني آدم؟! وضميرك يرضى بكده؟!
فأطرقت قليلًا، وهي تغلي غيظًا، ثم رفعت رأسها في عنف وصاحت فيهم: أنا ماقدرش اقعد طرطورة في البيت ده، أشوف المراسيل داخلة خارجة.
ثم التفتت إلى «عبده» وقالت: أعمل ايه؟ … أنا غلبت اقول لك روح لصاحب الملك فهمه ورسِّيه، وقول له ييجي يعزل الساكن العازب ده اللي قلب البيت كرخانة.
فصعد الدم إلى رأس «عبده»، وقد وخزته هذه الألفاظ البذيئة … مهما كان من صلة «سنية» «بمصطفى» فهي ما زالت شريفة لا يصح أن تُنعت بهذه النعوت القذرة، ولا يدري «عبده» لماذا كانت تجرحه هذه النعوت القذرة وهي توجه إلى «سنية»، أتُراه ما زال يحترمها ويرى فيها مثله الأعلى، ولا يقبل من أحد أن يدنس هذا التمثال المرمري البديع، ولو أنه ليس له؟
أعجب من هذا أن «سليم» نفسه أدار ظهره ﻟ «زنوبة»؛ مشمئزًّا هو الآخر.
وسمع الباب يفتح ثم يغلق، وظهر «محسن»، فالتفت إليه الجميع وهالهم ما رأوا: وجهًا باهتًا، وجفونًا حمراء، وساقين لا تكادان تحملانه، فلم تتمالك «زنوبة» أن ابتدرته: محسن! … ما لك؟!
فرفع رأسه، وأراد أن يقول لهم أن لا شيء، غير أنه قبل أن ينبس بادروه متسائلين: عيان؟
فرأى أن يقول لهم: أيوه.
ثم سار إلى سريره، وخلع ملابسه، واندس في فراشه. بينا «عبده» و«سليم» يرقبانه؛ وكأنهما أدركا ما به، فتقطع قلباهما رأفة به، وذهبا في سكون وجلسا على حافة سريره، وكأنما يريدان لو يستطيعان له عزاء، أو تخفيفًا، غير أنهما خشيا أن يسيء فهمهما، ويصدم ذلك إحساسه، ففضلا الصمت، غير أنهما أحسا نحوه عطفًا ومحبة، لم تبلغ في يوم مبلغها ذلك اليوم، وأطرقا وقد شاهداه يطبق عينيه تعبًا، وكأنهما حزرا مبلغ ألمه، وقارناه بما عندهما فأكبراه، وشعرا لأول مرة بأنهما دونه، وأنه يمتاز عليهما بقلبه النادر.