الفصل الرابع عشر
لم يكن أحد من الجيران المحيطين «بمصطفى» يعلم عنه شيئًا أكثر من أنه فتى ميسور الحال، ولعل أول من تحرى عنه «زنوبة»؛ فإنه منذ هبط المنزل في أول تلك السنة احتالت حتى سألت خادمه عنه، وعما يعمل، ولم تكن بعدُ مدفوعة إلا بحب الاستطلاع عن جار جديد، فأجابها الخادم على عجل وهو يشتغل بنقل «عزال» مختصر، تحمله عربة نقل ذات بغل بالباب: صنعته؟ … من الأعيان.
وصعد الخادم منهمكًا بالعمل، لاهيًا عنها، فلم تستطع أن تسأله من أعيان أي بلد، وهل هو من مصر أم من الأرياف أم البنادر؟ ولمحته «زنوبة» بعدئذٍ من النافذة بالقهوة التي أمام المنزل واستملحته، ولكنها لم تستطع أن تعلم عنه أكثر مما علمت، لعل الحياء كان يمنعها أو خشية الاضطراب أن يبدو عليها، وقد أصبح الشخص يهمها أو لعل المصادفة لم تمكنها من ذلك الخادم الذي ما كان يُرى إلا قليلًا، والواقع أن «مصطفى» نفسه، في أول عهده بالمنزل، كان كثير التغيب، وإذا كان يُرى بقهوة «الحاج شحاتة» يومًا فإنه كان يختفي عن الحي أيامًا كأنما هو في سفر، وكذلك خادمه.
ومع ذلك فلم يكن في سلوك هذا الشاب ما يسترعي التفات أحد من الجيران؛ فقد كان الهدوء شاملًا مسكنه، والسكينة مخيمة على بابه، وكان يدخل ويخرج، فلا يشعر به أحد؛ كأنما كان يتوخى حسن السمعة بين الجيران، أو على الأقل دفع تلك الشُّبَه التي تلتصق بكل أعزب يسكن بمفرده … ولعل معرفته الشخصية بصاحب المِلك، والثقة التي وضعها هذا الأخير فيه إذ رضي التأجير له بغير شرط ولا قيد، جعلت «مصطفى» يبالغ في الحرص على سمعته وعلى إيثار العزلة والسكينة.
غير أن شيئًا ما آخر كان يحمل هذا الشاب الموسر على تجنب مصر بضجيجها وملاهيها؛ لينزوي في قهوة «الحاج شحاتة»، يقضي فيها الساعات الطوال؛ لم يكن سبب جلوسه وتردده الوحيد مشاهدة سليم أفندي أيام أن كان يغازل من بالشرفة، هذا لم يكن عند «مصطفى» سوى فصل مضحك يأتيه عفوًا ليرفه عنه … إن «مصطفى» ذاك الوقت كان ضجرًا غير منشرح الصدر لشيء؛ فقد عاد إلى «القاهرة» يحسبها كما غادرها منذ خمس سنوات، إنه كان تلميذًا بمدرسة محمد علي التي يرى بابها الخشبي الكبير وهو جالس بمكانه من القهوة، ثم كان طالبًا بمدرسة وادي النيل الثانوية التي ما زال يمر بها كلما سار في شارع الدواوين، ثم كان قاطنًا هذا الحي عينه الذي يتنفس هواءه الآن، لم يتغير شيء إلا المنزل الذي كان يسكنه وقتئذٍ بالبغالة … للأسف لم يستطع الظفر بالشقة التي كان يقطنها مع أخيه وأخته وزوج أخته الموظف بالمالية … لقد وجدها مشغولة منذ زمن طويل، غير أن صاحب الملك اشترى منزلًا آخر في نفس الحي بشارع سلامة هو رقم ٣٥ هذا، فلم ير بدًّا من أن يسكن عنده، على أي حال صاحب الملك هو هو كذلك لم يتغير، لكن «مصطفى» مع ذلك ضجر كئيب النفس، وقد أحس خيبة أمله في «القاهرة»، فما الذي تغير إذن في نظره؟
كان «مصطفى» يجلس بقهوة «الحاج شحاتة»، يفكر في ماضيه بهذا الحي؛ وبأيام الدراسة وبأصدقائه، وبلعبهم الكرة بجوار المنيل، ونزههم الصيفية في قوارب النيل والقمر طالع، وقد أخذوا معهم طعامًا وفاكهة من بطيخ وشمام فيأكلون ويشربون ويغنون حتى يقترب بهم القارب من «جسر عباس» خلف قصر العيني، فيتركون المجاديف ويدعون القارب يسير كما يشاء في تلك المياه الهادئة الساكنة تحت الجسر، وقد صور القمر على الماء أشكالًا من الضوء والظل جميلة، وكان يصمت النيل حولهم إلا من صوت طائر ليلي يصفر، أو من صوت سمكة تقفز فجأة في الماء بجوارهم، وهي تداعب سيقان العشب والغاب الناتئ قرب الشاطئ، وإذا هم الصاخبون الضاجون المتضاحكون، يصمتون في لحظات؛ كأن ما حولهم من منظر شعري أثار فيهم شيئًا من العواطف الطيبة الكامنة فيهم، أو شيئًا من الإحساس العميق بالجمال السامي، وإن للشباب على القلب حقًّا، وإنهم لفي تلك السن الذهبية التي ينبغي أن يثور فيها القلب ثورته الأولى والأخيرة لينكشف فيها للنفس تحت ضوء اللهب ما اندفن في النفس من قوي وكنوز، ولكن يا للأسف، أنى لهذا الشباب أن يضيء قلبه وهو لا يعرف المرأة! لم يكن واحد من عصبة الفتيان في القارب قد أتاحت له الظروف أن يعرف المرأة … المرأة ذات القلب، ذات النفس، تلك التي توحي بعظائم الأعمال، لا المرأة العاهر التي يرونها كل ليلة جمعة في مقابل عشرين قرشًا.
لذلك لم تدم لحظات الصمت هذه التي استرقها منهم هذا المنظر الرائع في شعره … ولا استطاعت أن تصل كثيرًا إلى تلك النفوس التي سممتها وأماتتها أنفاس العاهرات المملوءة بجراثيم المادة السافلة.
وحرك القمر والماء والنسيم أكثرهم شاعرية، فهبَّ يردد أبياتًا من شعر برنامج البكالوريا المقرر عليهم، في ذلك العام، فاستقبله زملاؤه بالمزاح الثقيل والنكات البذيئة، فسكت خجلًا.
ثم انقلب معهم بعد قليل يجاريهم في هذرهم الأحمق وصخبهم البهيمي، وقد تناسى ذلك البريق من سمو الخيال وسمو الإحساس الذي لمع في قلبه منذ لحظة، وهكذا كانت تنطفئ في نفوس أولئك الفتية المملوئين حياة تلك الذرات من قبس العظمة.
واستأنفوا نزهتهم وسط الغناء المبتذل والضحك الحيواني، حتى إذا انتصف الليل عادوا إلى منازلهم يتخبطون في حارات البغالة الخالية من المصابيح، وقد ازداد صياحهم كالسكارى.
غير أن «مصطفى» ما كان يستذكر الماضي على هذا النحو؛ بل كان يراه عهد الشباب الأول السعيد بمرحه ولعبه، واجتماع شمل الإخوان، فأين هم الآن هؤلاء الإخوان؟ من يدري، لعل منهم الطبيب في مركز، والملاحظ في بندر، والموظف في مديرية، والعاطل الشارد، حتى أخوه الذي كان من العصبة قد سافر من أعوام لإتمام الدراسة في فرنسا، ولم يرجع بعد، ولا يريد أن يرجع … حتى حين دعوه لمناسبة ظروف خطيرة، ومع ذلك فقد بحث «مصطفى» عن إخوان الماضي من ساعة وصوله إلى القاهرة، فوجد بعضهم، فلاقاهم ولاقوه بشوق كبير أول يوم، واستفسر منهم عن حالهم، فإذا هم موظفون في مصالح الحكومة، واستفسروا هم عنه، وعما قطع بينهم وبينه كل هذه المدة، فأخبرهم أن والده أراده بعد نواله «البكالوريا» على العمل معه في محل تجارتهم «المانيفاتورة» المشهورة بالمحلة الكبرى، وقد مكث مرغمًا بالمحلة الكبرى، طول هذه الأعوام، حتى توفي والده أول هذه السنة فلم يضيع وقتًا، ولبث فقط مقدار ما قام بالواجب نحو الرجل، ثم جهز نفسه على عجلٍ للسفر؛ مصطحبًا خادمًا ومتاعًا بسيطًا، تاركًا محل «المانيفاتورة» الكبير في عهدة المستخدمين، وقد وطن العزم على ترك التجارة والسعي للتوظف في أحد دواوين الحكومة؛ حتى يكون في القاهرة دائمًا، غير أنه للأسف لم يجد القاهرة التي كان يحن إليها دائمًا، وأنه للأسف لا يكاد يعرف فيها بلد الماضي؛ وكأن كل شيء فيها تغير، مع أن لا شيء فيها تغير.
نعم، لقد استطاع من وجدهم من الإخوان أن يبددوا عنه تلك الكآبة أول يوم؛ فلقد قادوه معهم يجوسون خلال المدينة ليرى ما استجد فيها من ملاهٍ ولعب، ومضوا به في الليل إلى المشارب ثم إلى دور الدعارة، فأخذت «مصطفى» ذلك اليوم بهرة العاصمة، وما شاهده من جديد بعد الغيبة عنها، وشغله ذلك قليلًا عن شعوره الخفي الكئيب، لكن أصدقاءه كرروا معه تلك النزهة، واستطاع «مصطفى» أن يلاحظ بعدئذٍ فيهم تغيرًا هائلًا في أخلاقهم؛ فلقد رأى بادئ بدء أنهم لا يقصدون في صلتهم به بعث ود قد تم ولا أنهم يستظرفونه أو يصاحبونه لنفسه كما كانوا يفعلون قبلًا، بل إنهم إنما يريدون استغلاله والتقرب منه؛ لينفق عليهم من ما له الذي ورثه عن والده … هذا ما فهمه منهم ومن سلوكهم معه، فانقطع في الحال عن هؤلاء الصحاب مستنكرًا ذلك الخلق منهم، مستغربًا تغير إخوان الشباب هذا التغير.
لهذا فضل الوحدة في قهوة «الحاج شحاتة»، موقنًا أن بعث الماضي كما كان ضربٌ من المحال، وانصرف عن تلك الكآبة شيئًا فشيئًا إلى التفكير فيما يصنع، أيعود إلى «المحلة الكبرى» ويباشر إدارة المحل ويخلف والده المثابر النشيط، أم يظل على فكرته الأولى، راغبًا في الالتحاق بوظيفة في القاهرة بعد أن يصفي المحل، ويقسم التركة بين الورثة: هو وأخوه وأخته؟
إن أخته فوضت له الأمر، وقد وصله خطاب من الفيوم حيث تقيم وزوجها الموظف الآن بإدارة المديرية، وكذلك أخوه أرسل إليه من فرنسا يقول له: «افعل ما شئت، على شرط ألا تطلب إليَّ الحضور إلى مصر، وألا تمس مصروفي الشهري بنقص ما.»
ثم هو نفسه لا يريد بعد الآن الاستقرار في المحلة الكبرى، ولا الارتباط بهذا المحل، وما أهون عليه تصفيته وبيعه إلى فرع محل الخواجة «ك. س. كازولي»، وقد عرض هذا الأخير عليه الشراء من يوم أن شم رائحة الرغبة في التصفية، ومن يوم أن علم بسفر «مصطفى» إلى القاهرة بعد وفاة والده.
نعم لم يكن «مصطفى» إلا شابًّا فاقد الهمة، إنه ليس فاسد الطبيعة ولا سافل الخلق، وإن في نفسه لكثيرًا من الخير والفضيلة، لكن هذا الخير دفين تحت جليد الخمول وخور العزيمة.
لقد استشار نفسه كثيرًا في أمر «المانيفاتورة» … وسافر مرارًا إلى «المحلة» ثم سافر هو وخادمه، ثم عاد، ثم كان يرسل خادمه إليها، يوافيه بأخبار المحل، وقد حسب أنها أيسر وأحسن طريقة لإدارته. لكن كل هذا لم يزده إلا يقينًا بأنه لا يقوى على متاعب التجارة ومسئولية العمل الحر … إن المحل من يوم سفره في نزول مستمر، وإيراده ينقص باطراد، وهو لا يدري إن كان ذلك لضعف المراقبة على المستخدمين، وقد تركهم وأتى يجلس بقهوة «الحاج شحاتة»، أو أن ذلك من ضعف الإدارة وعدم الجد والكدح. على أي حال: ما له ولهذا كله، ولماذا لا يتخلص من هذا المشكل، ببيع المحل للخواجه «كازولي»؟ … أحسن طريقة.
لم يكن أحد يعارضه في هذه الفكرة، فوالدته متوفاة، غير أن له خالًا من كبار تجار القطن، سمع ما شاع عن تصفية المحل وبيعه «لكازولي»، فذهب إلى ابن أخته مستغربًا مستنكرًا، ونصحه ألا يفعل، وتوسل إليه في إشفاق، فإنها خسارة كبرى.
ولكن «مصطفى بك» ضحك هازئًا، وقال في اطمئنان: خسارة، هو احنا بس عايشين بالمحل ده؟
فأجاب خاله: يا بني البركة كلها في المحل ده! هو المحل ده اللي جاب الأطيان والأملاك كلها؟
صحيح، لم يكن ميراث «مصطفى» وإخوته مقصورًا على المحل، بل ترك لهم والدهم المرحوم «…» أملاكًا أخرى وأطيانًا؛ لذلك لم يهتم «مصطفى»، كثيرًا بالمحل، غير أن خاله قال له في أسف: إن هذا لا يصح من ابن تاجر، ويا ويل التجار إذن، إذا كان سيخلفهم أبناء يتركون المهنة، ويسعون إلى وظائف صغيرة، بل ويا للعار على وطني يترك محل تجارته لأجنبي يحتله، ويصبح محل «مانيفاتورة راجي» الشهير فرعًا للخواجة «كازولي الرومي».
ولكن أين لهذا القلب الخامد أن يتأثر بهذا الكلام؟