الفصل الخامس عشر
لولا «زنوبة» لما اتجه التفات «سنية» إلى قهوة «الحاج شحاتة» الصغيرة، ولما وقع نظرها على هذا الشاب اللطيف ذي الشارب الأشقر الصغير، وهو ساكن هادئ منعزل في ركنه، لا يبالي بشيء حوله إلا بحركات «اليوزباشي سليم» المضحكة أمامه.
وفي نفس اليوم الذي شاهدته فيه جاءها «محسن»، وكاشفها بحكاية المنديل الحريري، وأساء السرد بما جعلها تفهم بادئ الأمر أن الريح قد تكون حملت المنديل إلى أحد الجيران، فقامت من ساعتها إلى النافذة، فرأت أن الشقة السفلى التي يقطنها «مصطفى» لها شرفة صغيرة مكشوفة، تكاد تجاور نافذة حجرتها الخاصة، فخامرها شك أن يكون المنديل لدى «مصطفى» وأنه حفظه لأمر في نفسه.
غير أن هذه الفكرة لم تلبث أن زالت عند مقابلتها التالية «لمحسن» حيث اعترف لها بالحقيقة، إلا أنها ظلت ترقب «مصطفى» كلما جلس بالقهوة، لا لشيء سوى أنها تحس شيئًا، يدفعها إلى النظر إليه، ولا تدري لماذا؟
وكان يوم وداع «محسن» وما وقع فيه، وكانت صادقة مخلصة في كل ما أبدت من علامات التعطف والتأثر، وسافر «محسن» فماذا حدث؟ لا شيء سوى أنها استمرت تتسلى بالنظر إلى القهوة من خلف نافذة الشرفة الخشبية، فكانت ترى «مصطفى» في مكانه المعتاد، وقد ازداد في انعكافه وعزلته، بعد انقطاع «سليم» عن القهوة، وبدت على وجهه كآبة وتفكير، لا يخفف الآن من مظهرهما القاتم تلك الضحكات المكتومة والابتسامات التي كان يثيرها فيه وجود «سليم» بشواربه المفتولة، وعرض أكتافه وأمره ونهيه، وضجته المختالة بالكذب، ونظراته المرتفعة إلى الشرفة الخشبية.
غير أن ما كان يحير «سنية» هو أن «مصطفى» ما كان ينظر قط إلى الشرفة الخشبية، حتى أيام «سليم» وحتى وقد فطن إلى سبب حركاته ونظراته، فإنه هو لم يكن يرفع بصره إلى الشرفة إلا قليلًا، وفي تأدب وتحفظ؟ كمن لا غرض له إلا تتبع خبر «سليم».
وهجر «سليم» القهوة؛ وظل «مصطفى» يختلف إليها مدفوعًا بالعادة وبأنها خير من البيت الخاوي … على الأقل فيها يستطيع شرب فنجان من الشاي بغير جهد ولا عمل، ثم هي فوق ذلك مكان صالح للتفكير في شأنه وما ينبغي أن يعزم عليه في مستقبله، إلا أنه لم يكن ينظر إلى الشرفة الخشبية، ولم يفعل؛ ومن يذكره بها وقد اختفى «سليم» عنه؟! لهذا أخذت «سنية» — بعد سفر «محسن» — تقضي أغلب وقتها تراقبه، فلا تظفر منه بنظرة إلى شرفتها، فتساءلت في نفسها مستغربة ما يفعله مثله في قهوة كهذه … وفيمَ يفكر؟ ولماذا لا ينظر إلى الشرفة … وبلغ بها هذا التساؤل والعجب إلى حد الاهتمام، فجعلت تلبس أبهر أثوابها ألوانًا وتذهب إلى «البيانو»، فتضرب دورًا شائعًا مما ذاعت نغمته بين الناس، بعد أن تكون قد فتحت كل نوافذ الشرفة، عسى أن يبلغ الصوت الطريق، فإذا ما انتهت وقفت بالنافذة، وهي تتظاهر بمعالجة فتحها أو غلقها في قوة وجلبة، بل بلغ بها الأمر أن بات لا يحلو لها مناداة جاريتها بصوت عالٍ، أو الحديث أو الضحك المرتفع إلا قرب النافذة … لهذا كله نشبت المعركة بينها وبين «زنوبة» التي كانت تزورها، فترى منها هذه الأفعال، فلما تأكد «لزنوبة» أن «سنية» إنما غرضها لفت نظر «مصطفى» لم تطق سكوتًا ونهرتها ناهية، ولكن في لهجة اهتمام أثارت شك «سنية» في الحال وفطنت إلى ما في نفس «زنوبة».
فقهقهت ضاحكة في سخرية: حتى انتي ياللي تولدي قدي؟
كلمة هائلة، ما فاهت بها حتى صاحت «زنوبة» هادرة كالناقة المغتلمة، تسب وتشتم أفظع وأبذأ سب، ثم ارتدت ملاءتها «اللف» السوداء التي جاءت بها، وخرجت الخرجة التي لا رجعة بعدها، و«سنية» تنظر ساكنة واجمة لا تستطيع ردًّا ولا حركة، وجاءت الجارية على صوت الصياح، فسمعت بعضًا من ألفاظ «زنوبة»، وعندئذٍ التفتت «سنية» إليها، وقالت في هدوء: شاهدة يا دادة «بخيتة»؟
فأجابت الجارية مستنكرة: إخص عليه! … ست قبيح خالص.
وكانت والدة «سنية» في حجرتها تصلي العصر، فختمت الصلاة بسرعة لدى سماع الضجة، وهرعت ترى الخبر، فلحقت «زنوبة» تنزل السلم فاستوقفتها في لهفة، ولكن «زنوبة» لم تقف، واستمرت في النزول وهي تقول من أسفل السلم بصوت مرتفع صارخ: روحي ربي بنتك الشرموطة!
فوجمت والدة «سنية» وذهلت قليلًا، ولكنها انتبهت في الحال، وغلى الدم في وجهها، فأجابت وهي تطل من أعلى السلم مشرئبة: قطع لسان اللي يقول على «سنية» كده.
ولكن «زنوبة» خرجت، واختفت وهي تدمدم وتردد: حرم عليَّ بيتكم، حرام عليَّ بيتكم العمر كله.
وظلت الأم جامدة لحظة، ثم تذكرت ابنتها فجرت إليها، فألفتها باهتة اللون باردة الأطراف، فهدأت من روعها وهياجها ثم سألتها عما حدث.
فأخبرتها «سنية» بكل شيء: بمجيء «زنوبة» ونظرها إلى القهوة كلما جاءت، وأنها تهتم بأمر جارٍ لها يدعى «مصطفى» يجلس دائمًا بالقهوة، وقد حدث منذ شهر أن نظرت إليه «زنوبة» فوجدته وحيدًا بالقهوة فتناولت ملاءتها وهرولت نازلة، ولم تشك «سنية» يومئذٍ في أمرها، ولكنها اليوم وقبل اليوم كانت تلاحظ أن «زنوبة» لا تطيق رؤيتها بجانب النافذة. واليوم كل ما حدث أنها أرادت النظر من الشرفة، فلم يرق ذلك «لزنوبة» وثارت وانتهى بها الأمر إلى السب والشتم والخروج على هذا الشكل.
فأطرقت الأم قليلًا، ثم قالت كأنما تخاطب نفسها: يا ندامة، هي صغيرة على الأمور دي؟
فرفعت «سنية» رأسها، وأردفت على الفور: قلت لها كده يا نينة قامت زعلت واتغاظت.
وظهرت «بخيتة» الجارية، فأسرعت «سنية» إلى أمها قائلة، وهي تشير إلى «بخيتة» الجارية: «دادة بخيتة» شاهدة، اسأليها يا نينة كمان.
فقالت الجارية في الحال: إخص عليه، ست قليل أدب خالص، واحد قبيح خالص.
وهكذا ختمت مسألة الشجار، فتناولت الأم رأس ابنتها، وأوسدتها صدرها، وهي تسكِّن خاطرها وتناشدها ألا تعكر صفوها من أجل امرأة «كزنوبة»، ولا من أجل شيء في الدنيا، فوضعت «سنية» منديلها على عينيها؛ كأنما تكفكف عبراتها امتثالًا لتوسلات أمها، ثم تخلصت بلطف من بين ذراعيها، واتجهت إلى الشرفة ومنديلها في يدها؛ كمروحة تطرد به الحر عن وجهها المورد، وهي تلفظ آهة الضيق؛ كأنما هي ذاهبة إلى النافذة لا لشيء إلا لتستقبل الهواء الطلق العليل، ولكن ما كاد نظر «سنية» يقع على هذه القهوة، حتى رأت «مصطفى» ينظر إلى الشرفة؛ كأنما كان يتربص لظهور أحد فيها، فارتدَّت في الحال، وتوارت عنه، وقد خالجتها دهشة، وخفقت بشيء من السرور الخفي، وليس في الحقيقة محل للدهشة لو علمت أن صوت الشجار بينها وبين زنوبة قد وصل إلى القهوة، وعقبه بقليل خروج هذه الأخيرة، وهي تُرغي وتُزبد وتشير بحركات مهتاجة، حتى دخلت منزلها رقم ٣٥ الذي يقطن الطابق الأول منه «مصطفى»، وقد رأى كل ذلك «مصطفى» وهو جالس بمكانه من القهوة … وتساءل في نفسه عن هذا الصوت الآتي من الشرفة، وعن هذه المرأة المنفعلة الخارجة من هذا البيت، الداخلة المنزل الذي يقطنه، ودفعه حب الاستطلاع إلى استراق السمع والنظر في اتجاه الشرفة، وفجأة تقابلت عيناه المترصدتان — في غير اكتراث — بعينين سوداوين جميلتين، فارتجف في الحال، وإذا منظر غادة باهرة الحسن، ما كادت تطلع عليه، حتى نكصت وتوارت.
منظر بسيط لم يدُم أكثر من خمس ثوان، ومع ذلك أحس «مصطفى» بعده كأن عالمًا آخر بأجمعه قد انكشف لعينيه بغتة، وتولد فيه شعور خفي بأن الدنيا أصبح لها طعم آخر، وأن حياته قد اتخذت اتجاهًا آخر في لمح البصر … نعم خمس ثوان في حياة شخص هي لا شيء، ومع ذلك قد تكون أحيانًا هي كل شيء، قد ينقضي عمر شخص كله دون أن ينحرف أساس حياته أنملة، وقد تأتي خمس ثوان فقط، فتستطيع أن تغير هذا الأساس أو أن تقلبه رأسًا على عقب.
ماذا رأى «مصطفى» غير فتاة برزت ثم اختفت كسنا البرق؟ كسنا البرق أضاء كل أرجاء قلبه المظلم، خمس ثوان لمح فيها «مصطفى» لأول مرة في حياته جمالًا هز قلبه، ولم يكن يعرف أن كل هذا في هذا البيت.
وتنبه أخيرًا من سكرة الصدمة، وجعل يقول في نفسه: المصيبة اني هنا من أول السنة، ولا عنديش خبر.
وأخذته نشوة فرحِ مَن لقي لُقيا فنزل على نفسه يؤنبها: أما مغفل، حمار، أعمى!
وكأنما صدره يكاد يثب … فنظر إلى الشرفة نظرة مؤدبة قانعة فلم يرَ بها أحدًا، فنهض بغير يأس، وسار في الطرقات مبتهجًا يريد لو يقطع القاهرة كلها طولًا وعرضًا بخطاه الواسعة الفرحة … وذكر فجأة ساعة مجيئه القهوة، وقارن حالته إذ ذاك بساعة مغادرته لها الآن، ولم يمضِ بين الساعتين وقت طويل، فأنكر شخصيته الماضية؛ وكأنما غدا رجلًا آخر.
في تلك اللحظة كانت «سنية» في قلب الغرفة تسترجع في مخيلتها نفس الأثر، هي أيضًا أخذتها — غير الدهشة — رجفة عندما تقابلت عيناهما وقد ارتدت في الحال لأنها لم تكن تتوقع أن ستتقابل عيناهما فجأة، ولا أنها ستراه ناظرًا إلى الشرفة — ذلك الشاب المنعزل الساهم!
وأخذت تناجي نفسها في ابتهاج أولًا، ولكنها بغتة؛ كأنما اعتراها خجل من نفسها.
عادت تقول متكلفة التجهم، متصنعة الحدة والغضب: لماذا ينظر هذا الرجل إلى الشرفة؟ وبأي حق وبأي جرأة وأي جسارة يستبيح هذا الشاب لنفسه النظر إليها؟
وخُيل لها لو أن باستطاعتها أن تزجره وتؤنبه على ذلك، وأن تغلظ له القول، ومع ذلك لم يمضِ على حدتها وهياجها لحظة حتى اتجهت إلى الشرفة، لا لشيء سوى أن تعلم إذا كان هذا الشاب الجسور ما زال ينظر إليها أو إلى الشرفة … واقتربت «سنية» من النافذة، بعد أن رتبت بسرعة وباعتناء شعرها البديع أمام المرآة، وكم كانت دهشتها عندما رأت أن ذلك الذي تتهمه بالجرأة والجسارة، والذي تحسبه جالسًا يتأمل شرفتها، ليس له أثر بالقهوة، ومكانه خالٍ، وأنه ما امتنع فقط عن معاودة النظر إليها؛ بل إنه ترك لها القهوة بما فيها ومن فيها.
هذا ما بدا إلى ذهنها، يا لخيبة الأمل!
شعرت عندئذٍ الفتاة بألم ثم بغيظ، فأغلقت النافذة بحركة غضب قوية، وذهبت ذهاب من أقسم ألا ينظر من النافذة بعد الآن، وذلت كبرياء الأنثى فيها، فشعرت كأن الدموع ستنحدر من مآقيها، ولكنها تجلدت؛ إذ ذكرت أن ليس بينها وبين هذا الشخص ما ترجوه منه أو تيئس … ومن هو؟ وما قيمته؟ وما شأنه عندها حتى تهتم به إلى هذا الحد؟ وقامت إلى «البيانو» وجعلت توقع عليه متناسية كل شيء.
وعندئذٍ مر بخاطرها طيف «محسن» الباهت.
ما أحسنها فرصة لو عاد إليها «محسن» تلك اللحظة! … تلك هي الساعة المثلى لكسب رضاء امرأة، ولكن وا أسفاه! كان «محسن» في تلك اللحظة بالضيعة، بين حقول البرسيم الأخضر، ينتظر خطابها الذي لن تكتبه.