الفصل السادس عشر
في اليوم التالي أتى «مصطفى» القهوة كعادته، لكن في هيئة لو رآها صاحب القهوة أو أحد ممن اعتاد رؤيته كل يوم لأيقن أنه قد اعتنى بملبسه اليوم على نحو خاص، وأنه ولا شك وقف أمام المرآة زمنًا غير قصير قبل أن يأتي.
وأخذ «مصطفى» مكانه، غير أنه أحس كأنه يغشى القهوة لأول مرة؛ فقد أجال بصره فيها في شيء من الحياء، وقد خيل إليه أن جميع من بها — حتى «الحاج شحاتة» وصبيانه — ينظرون إليه، ويعلمون ما جاء به اليوم، أو على الأقل يدركون لماذا يعتني اليوم بمنظره … إلا أنه ألفى نفسه وحيدًا كالعادة، على رصيف القهوة لا ينظر إليه أحد، فاطمأن ولبث لحظة؛ كأنما يقاوم نفسه، وأخيرًا رفع بصره إلى شرفة «الدكتور حلمي» في تورع وأدب ووجفة، ثم خفض في الحال عينيه على صوت أحد صبيان القهوة يسأله عما يطلب، فطلب قدحًا من الشاي، بلهجة ميكانيكية سريعة، ثم عاد فنادى الغلام ناسخًا ما قال، وطلب زجاجة غازوزة «سباتس» … وهو لا يدري لماذا عدل عن الشاي اليوم، ولماذا بدل به الغازوزة؟ إلا أن تكون فكرة التغير السابحة في مجاهل نفسه أوحت بذلك وهو لا يعي، ولم يكن صبي القهوة أقل منه دهشة، لا لأن «الزبون المعتاد» فقط غيَّر طلبه فجأة. بل أيضًا؛ لأن كلمة «سباتس» في هذه القهوة شبه البلدي ليست على لسان زبائن المحل كثيرًا … وأن هذا الصبي لم يعتد نطقها كما اعتاد نطق «واحد شيشة» أو «واحد سادة» أو «واحد شاي»، حتى واحد «لكوم»، أو واحد «بسطة»؛ لذلك أدار ظهره واكتفى بأن صاح قائلًا: واحد كازوزة.
وعاد «مصطفى» إلى نفسه يسائلها، وقد علم من نظرته إلى الشرفة أن ليس بها أحد، وأن نوافذها مغلقة.
ترى أيأمل في رؤيتها مرة أخرى أم كانت مصادفة مرت أمس ولن تعود؟ ومن ذا الذي يضمن له أنها ستبرز مرة أخرى؟ ومن يدريه؟ فقد يمكث شهورًا دون أن يراها في الشرفة؟ ألم يسبق أن جلس في هذه القهوة شهورًا فلم يلمحها إلا أمس؟ أين كانت طول تلك المدة؟ وأين كان هو؟ … وإذا كان ما فات مات، ولا داعي لإثارة الندم على الماضي فهل يأمل في المستقبل؟
واضطرب لذكر كلمة المستقبل؛ إذ أدرك فجأة الآن أن لهذه الكلمة حقيقة ملموسة، إلا أن الشك والقلق عاوداه، وخطر له أنها قد تكون زائرة جاءت أمس هذا البيت، وانصرفت على ألا تعود، وإن عادت فمن ذا يعلمه؟ إنه لا يعرف بعدُ من هي؟ واسودَّ لهذا الخاطر وجهه … إذن لن يراها اليوم، وإذن جلوسه الآن بالقهوة على غير جدوى، وانتظاره عبث.
فتململ في مكانه، وأخرج منديل الصدر الذي بلون بذلته، فمسح به جبينه، ثم شمر عن معصمه الأيسر ونظر في ساعة اليد الذهبية، وقد خيل إليه أنه جلس قرنًا، ثم تأكدت في رأسه فكرة أنه لن يراها اليوم، فتحرك في كرسيه قائلًا في نفسه، إنه ما دام يعلم ذلك فلماذا يجلس بالقهوة الآن؟!
ونسي «مصطفى» أنه كان يجلس بالقهوة دائمًا بغير ما غرض، وأنه كان ينفق فيها الساعات الطوال، فما تململ كما فعل اليوم، ولما يمضِ على جلوسه ساعة.
وأخذ يضيق ذرعه، ويشتد يأسه كلما مر الوقت … وآلمه الانتظار وهو يقسم أنه سينهض بعد خمس دقائق إن لم تظهر، وتمضي الدقائق الخمس فيُطمعه الأمل فيجدد المدة ويمد الأجل، فلا تظهر؛ فييئس ويتحرك للقيام، ثم يعود يجدد المدة ويمد الأجل مرة ثالثة ورابعة وخامسة.
ويتعلل تارة «بالغازوزة» التي يتمهل عمدًا في شربها، وتارة بأن الوقت فسيح، وأن ساعة القهوة لم تدق بعد النصف، وأنها متى دقت النصف قام … يقوم إلى أين؟ وهو الذي في مثل هذه الساعة دائمًا بالقهوة لا يفارقها؟ لا يدري … المهم، لا بد من القيام؛ لأنه انتظر فوق ما ينبغي، وأن لعذاب الانتظار حدًّا، وإن لم يكن من قبل يفكر في القيام بهذه السرعة، فلأنه لم يكن ينتظر شيئًا، ومن لا ينتظر شيئًا يستطيع أن يقعد العمر حتى العفن، وحتى يأكله الدود وهو في مكانه؛ إلا أن تنهضه الرغبة، فينشط، ويدب فيه الإحساس بالزمن والحياة.
من لا ينتظر شيئًا، ومن لا يرغب في شيء هو الميت وحده؛ لذلك ما تأخر «مصطفى»، ودس يده في جيبه مخرجًا النقود لصبي القهوة إنفاذًا لإرادة صبره النافد، وعندئذٍ بلغ مسمعه صوت نافذة تفتح بعنف، وآذان «مصطفى» الآن كآذان القط؛ متربصة لقنص كل صوت، مهما دق؛ لا سيما صوت النوافذ والشرفات.
فرفع بصره إلى شرفة «الدكتور حلمي» في حركة غريزية، فإذا هو يراها «هي»، وكان ذلك فجأة، وكان ذلك في ساعة يأسه وقلقه، فما تمالك قلبه أن دق، وابتسم لها ابتسامة ارتسمت رغمًا عنه؛ كأنما هي دفعة الفرح والخلاص من شكه الذي حمله على ذلك، والواقع أنها كانت ابتسامة خالصة صادقة، فيها معنى الابتهاج الشريف لا المغازلة المبتذلة، وليس أدل على ذلك من صدورها عن غير وعيه، كأنما انطلقت تعبر عن شعور داخلي قوي؛ فهو لم ينتبه لها ولا لنفسه، إلا ساعة أن رأى النافذة تغلق في وجهه جوابًا عليها.
يا لسوء الطالع! أهو مجنون يبتسم فيضيع كل شيء؟ ما أحمقه، ولكنه لم يتعمد شيئًا، إنه معذور، هو سوء الحظ لا أكثر ولا أقل.
أسف «مصطفى» كثيرًا، وأنَّب نفسه كثيرًا، وخشي أن يكون قد نفَّرها منه، وود أنها لم تبرز اليوم، ومع ذلك فقد أحس «مصطفى» ارتياحًا في أعماق قلبه: لقد زال شكه قطعًا، وأيقن أنها ليست زائرة ولا غريبة، بل هي في البيت دائمًا، في هذا البيت الذي يراه أمامه ويقطن بجواره، وله شرفة مكشوفة صغيرة تحاذي إحدى نوافذه، حسْبه هذا سعادةً اليوم. وإذا كان قد أغضبها بابتسامة فعساها تصفو يومًا.
على أي حال هو مبتهج اليوم بهذه النتيجة: إنها في هذا البيت دائمًا، وإنها تفتح نافذة الشرفة غالبًا، وستفتحها كالعادة، طبعًا إنها لن تحرم نفسها النور والهواء، من أجل «مغفل» ابتسم لها من قهوة «الحاج شحاتة» الحقيرة! … قهوة «الحاج شحاتة» الحقيرة؟ … للمرة الأولى خطر ﻟ «مصطفى» فكرة احتقار تلك القهوة، وإذا هو يفتح عينيه حواليه، وينظر نظرة المنتقد المشمئز، إلى موائدها الخشبية وكراسيها القديمة، وذلك المصباح الغازي الكبير «الكلوب» المتدلي فوق «يافطة» قد محاها التراب والزمن، فلم يبقَ من «قهوة النجاح الكبرى لصاحبها شحاتة محمد» سوى كلمة «شحاتة» وكلمة «قهوة».
وألقى نظرة شاملة داخلها، من خلال العوارض الزجاجية المكسور أغلبها، فرأى الزبائن الجلوس وضجيجهم وصوت حجر «الطاولة» و«الضمنو»، فدهش كيف أنه استطاع، طول تلك المدة الجلوس بجوار هذا المزاج الخليط بين أفندي ومعلم وملبد؛ كلهم من أهل الطبقة الصغرى، وإذا صوت «المعلم شحاتة» يصيح في الداخل: «ولعة للشيشة يا جدع!»
وإذا أحد الصبيان يمر أمامه لابسًا «العنتري» البلدي و«اللاسة»؛ ولكي يبرهن على رقي القهوة أضاف إلى هذا الزي «فوطة»، ووضع في أذنه اليسرى وردة، وقطعة من العتر الأخضر.
وحانت من «مصطفى» التفاتة إلى ما فوق المائدة أمامه: الصينية الصفيح وعليها كوب مرسوم عليه أزهار ملونة محاها كذلك القدم وكثرة الغسيل، ثم زجاجة اﻟ «سباتس» المزعومة؛ فأيقن أنها قهوة «شلق» صحيح.
ولكنه ذكر قرب القهوة من منزله، فأدرك سبب اختلافه إليها. وفي تلك الثانية مرت برأسه صورة كان قد نسيها … صورة ذلك الأفندي الطويل العريض، ذي الشوارب السوداء المنتصبة، الذي كان يتردد على نفس القهوة، ويأخذ مجلسه أمامه منتفخًا كالديك، ولا يزال طول مكثه يملأ الدنيا ضجة كاذبة بأمره ونهيه، وحركات العجرفة والتيه المتكلفة المضحكة، ولا يزال يرفع بصره إلى الشرفة الخاوية حتى ييئس فيقوم.
ضحك «مصطفى» في نفسه لذكرى تلك الصور التي طالما سرته وألهته لكنه ما عتم أن أظلم وجهه قليلًا في الحال، وأصابته خشية؛ إذ أدرك الآن لمن كان يأتي هذا الرجل! … رآها مرة كما رآها هو أمس؛ إن هذا الرجل يقطن نفس المنزل الذي يقطنه هو، وقد قابله يومًا في السلم نازلًا من الطابق العلوي، إذن مركزه هو كمركز هذا الرجل تمامًا من كل الوجوه … فقط، قد سبقه هذا الرجل في ترصُّد الشرفة، وها هو هذا الرجل يختفي منذ زمن هاجرًا القهوة، ولعله لم يصب منها غير الخيبة واليأس … وإذا كان هذا السابق قد خاب أفلا يخيب هو اللاحق أيضًا؟ هذا مؤكد، وقد بدت تباشير الخيبة ولما يمضِ على فرحته ثمان وأربعون ساعة؛ ألم تغلق في وجهه النافذة اليوم!
دب شيء من القنوط في قلب «مصطفى» … و«مصطفى» ككل شاب لم يعرف المرأة، ما استطاع أن يرى فيما حدث إلا إعراضًا وصدًّا يوجبان القنوط، فأطرق لحظة في كآبة يسائل نفسه عما يصنع، وهل يترك الأمل قطعًا؟ وما الذي يصير إليه إذا أيقن ألا محيص من الرجوع إلى ما كان عليه من حياة فارغة؟ وهاله مجرد تصور حياته الماضية؛ كما لو أن ما بينه وبينها هوة، مع أن ما يفصله الآن عنها لا يزيد على يوم.
أيعود فيعيش كما كان يعيش قبلًا؛ ميتًا لا ينتظر شيئًا، ولا يأمل في شيء ولا يخفق قلبه لشيء؟ هل هذه تسمى حياة، أوَيستطيع العودة إليها بعد أن علم أن عذره إذ تحملها فيما مضى كان الجهل؟ … أما وقد رأى بعينيه أن هناك نورًا … ورفع يده في حركة ضيق، ونادى صبي القهوة، ودفع إليه ثمن ما شرب، ثم نهض بدون أن ينظر إلى الشرفة؛ نظرة أخيرة، وكأنما منع نفسه من النظر بكل إرادته، وسار على غير وجهة مقصودة؛ مطرقًا ويداه في جيبه، وهو يسائل نفسه مرددًا: إن مصيري ومصير الرجل «إياه» واحد، ولا بد يومًا من الاختفاء بدوري، وهجر القهوة.
إلا أن الأمل ما لبث أن عاوده … وجعلت النفس المتملقة تخلق له كل ما يسره ويطمئنه من أسباب، فأخذ يستعرض في مخيلته صور «سليم» المضحكة، مكبرًا مجسمًا ما فيها من هزل وهزء، حتى بدا لعينيه شخصًا غير خليق بعطف فتاة جميلة رقيقة … وأخذ يقيس نفسه به، ويقارن ما بينهما من وجوه شبه ومن فوارق، إلى أن خرج من ذلك كله بنتيجة في مصلحته: أن هذا الرجل لا يشبهه في شيء، ولا يمكن أن يجري عليه ما جرى على هذا الرجل؛ إنه ليس مثله ولا نظيره، ولو كان كذلك حقًّا لألقى بنفسه في البحر من زمن طويل … نعم، لكان ألقى بنفسه في البحر من زمان.
وكأنما أعجبته هذه الجملة؛ وكأنما استراح عليها، فجعل يرددها لنفسه بنطق واضح واقتناع: صحيح كنت رميت نفسي في النيل من زمان.
وهكذا استطاع هذا الإنسان القلق، بجملة كهذه، أن يعيد إلى نفسه بعض الاطمئنان والراحة، ويتخيل النور قد بزغ أمام بصره من جديد.