الفصل الثامن عشر
يا للعجب! مضى أسبوع كامل ولم يبدُ «لسنية» أثر في الشرفة الخشبية: ترى ماذا حل بها؟ أمريضة؟ أهي قد نفرت بتاتًا وانقطعت إلى الأبد بعد تلك الابتسامة الملعونة؟
هذا ما كان «مصطفى» اليائس يناجي به نفسه في القهوة، بعد مداومة الترقب والانتظار أسبوعًا كاملًا، على غير طائل … صحيح! … تجنبت «سنية» الشرفة طول هذه المدة، ولكن لا لأنها مريضة، ولا لأنها نفرت بتاتًا؛ بل لأن كلام والدها، وما جاء بالخطاب الغفل أثَّرَا في نفسها … لقد ساءها أن تُدخل القلق على أبيها المتقاعد المطمئن، وأن تجعل هذا الشيخ العسكري في أواخر أيامه يحسب أن ابنته لم تحافظ على شرفه.
كل هذا من أجل ابتسامة رجل؟!
وتأملت أمرها طويلًا، فإذا هي تذكر أن هذا الرجل لا تربطها به صلة، ولا تدري شيئًا عن دخيلة قلبه ولا عن خلقه؛ بل إنها لا تعرف من هو؟ وماذا يصنع؟ إنه أجنبي عنها تمامًا؛ فلماذا تتجشم كل هذا من أجله؟ وما الذي صنعه هو من أجلها؟ إلا تلك الابتسامة؟ أفتاة شريفة تهتم برجل كهذا؟ وأحست شيئًا في نفسها لم تتبينه من قبل، إنها لم تعد تلك الفتاة الطائشة اللعوب، التي تنزع إلى المداعبة واللعب، مع كل رجل تصادفه، ولا تلك الفتاة التي تطالبها الطبيعة بحق الشباب الملتهب، ويدفعها القلب الناشئ، فتجري في كل مكان، ناظرة إلى كل شيء، باحثة قلقة غير مستقرة.
لا … إن «سنية» الآن خطت هذا الطَّور، وانتهت من القلق إلى العقيدة، عقيدة المرأة في الغرض من الحياة، أدركت بوعيها لماذا تحيا المرأة؟ وبماذا تحيا؟
إن تربية «سنية» وثقافتها لا تزيد على تربية وثقافة زميلاتها المتخرجات معها في نفس مدرسة البنات، وقد تكون مطالعتها للقصص أفادتها بعض الفائدة، في إنماء مداركها وتجاريبها النظرية، غير أن العقيدة لا تُكتسب بالمطالعة وحدها؛ بل بالتجربة والإحساس المباشر، ولقد قرأت «سنية» كثيرًا عن الشرف والفضيلة، فلم يبزغ أمام بصيرتها معناهما إلا اليوم، فإذا بوعيها يهتف لها بتلك الحقيقة: «ليست الفضيلة عند المرأة ألا تحب أبدًا؛ بل الفضيلة أن تحب حبًّا ساميًا رجلًا سامي القلب والأخلاق.»
ولكن هل «مصطفى» رجل سامي القلب والأخلاق؟ هذه هي المسألة، وهذا موضوع شكوكها الحاضرة، وما حملها على الابتعاد عن رجل تشك في أمره ولا تدري عنه إلا أنه ابتسم لها.
وهكذا تجنبت في الحقيقة الشرفة، وانعكفت أغلب وقتها تتأمل وتفكر وحيدة في حجرتها، وكثيرًا ما كانت الدموع تخفف عنها، وتمدها بالسلوة الوحيدة … إنها كانت تبكي، لأنها لا تستطيع أن تجيب على سؤالها المتشكك، ولا تريد أن تبرز له، أو أن تستعمل تلك الأساليب الحمقى والدعايات والإشارات السخيفة؛ لأن ما أدركته اليوم من حقيقة قلبها يرفعها عن كل هذه الأشياء، ويجعلها لا ترى شيئًا خليقًا بنبل عواطفها غير العزلة والدموع.
•••
للمرة الثالثة أقسم «مصطفى» أن يهجر القهوة إلى الأبد، إذا هو لم ير «سنية» وها قد أشرف على أسبوع جديد، فهل يبر بقسمه أو يحنث فيه كسابقه، ويمد الأجل أسبوعًا آخر؟ نعم لقد انتقل الآن تجديد الآجال ومدها من الساعات والأيام إلى الأسابيع، ولكنه في هذه المرة عزم العزم الأكيد على أن يكون هذا النهار آخر عهده بالقهوة.
نعم لا تردد ولا ضعف ولا هوادة بعد الآن؛ فقد تأمل هو الآخر أمره مليًّا، وذكر أنه يعلق أهمية صبيانية، وآمالًا سرابية على لا شيء، ماذا دهاه؟ وماذا حدث في حياته من تغيير؟ أمجرد أن يلمح فتاة في نافذتها — التي أغلقتها في الحال في وجهه — كافٍ أن يكرس كل هذا الزمن، وهذا الفكر في سبيلها؟ من هي؟ وأي صلة تربطها به؟ لا شيء … حتى اسمها لا يعرفه، إن شعورها نحوه قد ظهر، إنها لم تلتفت إليه قط ولا ترى فيه إلا رجلًا وقحًا من أهل هذه القهوة الحقيرة؛ فلو أنها أبدت فقط إشارة صغيرة أو قرينة واحدة، على أنها أحست وجوده لكان اعتبر ذلك رباطًا وصلة بينهما؛ بل لكان عده عهدًا وميثاقًا، ولكن ماذا يقول لنفسه الآن؟ وبماذا يطمئن قلبه القلق، وقد انقطعت بعد غلق الشرفة الخشبية كل صلة، حتى صلة الهواء الذي ظن أنهما يستنشقانه سويًّا، فلأي شيء إذن يعلق أملًا عليها؟! ثم من يدريه؟ لعلها برغم جمالها من طراز أولئك الفتيات البله أو النزقات اللاتي لا يعرفن من شئون العاطفة العميقة شيئًا؛ فمن أين عرف أن لها قلبًا، وأنها تستطيع أن تفهمه وأن تفهم ما به؟
وانتهت به التأملات والشكوك إلى العزم على هجر القهوة، نعم، لا مناص من هجرة القهوة؛ كما هجرها ذلك الرجل ذو الأكتاف العريضة والشوارب القائمة، وعاودته مرة أخرى صورة هذا الرجل «سليم»، ولكنه في هذه المرة أحس نحو هذا الرجل بعض العطف والرثاء، وتخيله وقد اختفى يأسًا، بعد أن عالج لفت نظر «إلهة الشرفة»، بكل ما يستطيع من حيل وأساليب، وبكل ما حسبته عقليته القديمة ظرفًا ولباقة … نعم إنه كان مضحكًا إلى حد المسخرة، ولكن أليس مسكينًا؟ أليس جديرًا بالرحمة هو أيضًا … لأنه أحب ورجا وأمل، ثم خاب وقنط واختفى؟
وجاءت تلك الصورة مؤكِّدة عزم «مصطفى» فألقى على الشرفة المظلمة التي لم تُفتح منذ عشرة أيام آخر نظرة، ونادى صبي القهوة بصوت قاطع كصوت المقدِم على عمل خطير، ثم دفع إليه بحسابه، ونهض منتفضًا، ونظر يَمنة ويَسرة، يختار الطريقة في تردد؛ كما لو أنه يختار الطريق الذي لا رجعة له، ولكن فجأة، خطر له ذلك الخاطر الذي يأتيه دائمًا، كلما نهض هذه النهضة، فإذا هو يتراخى، وإذا العرق يسيل على جبينه، وإذا حماسته وحركته القوية وعزمه الأكيد يبدو له سرابًا، لا يقل استحالة عن السراب الذي يهرب منه! … يهجر القهوة؟ حسن ولكن إلى أين؟ إلى أين يذهب؟ إلى المواخير والعاهرات، أم إلى صحبة أولئك الأصدقاء الذين لا يقلون سقوطًا عن الساقطات، وهو الذي أحس أخيرًا في قلبه نبلًا واستكشف في نفسه جمالًا ونقاء، ما كان يعلم بوجودهما؟ أم أنه يذهب إلى قهوة أخرى، من مقاهي «حي السيدة»، محاولًا خلع تلك الفتاة من قلبه؟ يخلعها من قلبه، إذا أمكن … حسن، ولكن ما الذي تبقى له بعد ذلك، وهو الذي بدأ يفهم قيمة الحياة على ضوء المرأة؟ وما مصير قلبه الذي كان خامدًا؛ كالساعة العتيقة الواقفة؛ فإذا هو الآن يدق دقات الحياة؟ وهل ينسى لذة تلك الإحساسات الجديدة التي بعثتها فيه تلك الفتاة مذ ظهرت له؟ كلا، محال أن يذهب كل ذلك، وما أبسط عقله إذا حسب مجرد القيام أو دفع الحساب إلى صبي القهوة ينهي كل شيء، بل ولماذا هو يفكر في الذهاب؟ هي ولا شك ثورة الأمل الخائب، ولكن لماذا يأمل؟ ولماذا تنتابه الشكوك في شأنها؟ حسبه منها أنها أوحت إليه — سواء قصدت أو لم تقصد — بتلك العواطف الجميلة النبيلة، التي لم يوحِ بها إليه شيء أو إنسان قبلها، أنه سيمكث بالقهوة دائمًا لا لينظر إليها ويترصدها؛ بل ليغذي قلبه من جوارها: إن مجرد الفكر أنه بجوارها يكفي.
وعاد «مصطفى»، فجلس وهو مرتاح النفس لهذه النتيجة، غير أنه عجب: كيف أنه غدا هكذا «كالشعراء» في عرفة؟
•••
ظل «مصطفى» يأتي القهوة كالمعتاد، غير آمل في شيء إلا في فضل الله وحسن المصادفة، فكان يرى النافذة ما زالت مغلقة، فلا ينزعج ولا يثور، إلى أن كان يوم، نام فيه بعد الغداء كعادته، فأرق، فقام، فارتدى ملابسه، ونزل إلى القهوة قبل ميعاده، يقتل فيها الوقت، ويتناول فنجانًا من القهوة، وكانت الساعة الثالثة بعد الظهر؛ فما كاد الصبي يأتيه بالمشروب، وينصرف عنه حتى لمح «مصطفى» امرأتين تخرجان من منزل «الدكتور حلمي»، وكانت إحداهما تبدو صغيرة رشيقة في زي آخر طراز نسائي، بينما الأخرى التي تتبعها جارية ملتفة في إزار أسود، فلم يشك «مصطفى» في أنها هي وخادمة لها خارجتان، فدق قلبه سريعًا دقات متتالية، وتزاحمت في رأسه خواطر مختلفة فيما يجب أن يعمله، وارتبك واحتار … ماذا يفعل؟ ورآهما تسيران في الطريق إلى ميدان «السيدة زينب»، فأخذ يستشير نفسه ملهوفًا متسائلًا عما يصنع؟ وهو يخشى أن تبتعدا وتختفيا عن نظره، قبل أن يبت في أمر، وخشي أيضًا أن تكون هذه فرصة سانحة قلَّ أن يأتي مثلها، وهو الذي ينتظر مجرد طيفها في الشرفة، منذ أسابيع؟ … وأخيرًا لم ينته إلى قرار، ولكن عاطفته وحدها التي دفعته، فإذا هو يثب من كرسيه، تاركًا المشروب الذي طلبه، وانطلق في أثرهما بدون أن يعي، وبلغت المرأتان ميدان السيدة، وركبتا الترام الموصل إلى العتبة الخضراء، عن طريق شارع عبد العزيز، ووصل «مصطفى» بعدهما، ورآهما تصعدان المحل المخصص «للحريم»، فوقف مترددًا قليلًا، إلى أن صفَّر الكمساري، وتحرك الترام، فإذا أيضًا قلب «مصطفى» هو الذي يبت فجأة، وفي الحال قفز إلى نفس الترام، وهو لا يدري إلى أين ذاهب؟ ولماذا فعل ذلك؟ وما نتيجة هذا العمل؟ وأخذ تذكرة إلى العتبة الخضراء، إلا أنه قال في نفسه: «ومن يدريني أنها نازلة في العتبة؟!»
ثم تطرَّق من هذا إلى التساؤل والعجب من خروجها في مثل هذه الساعة … ثم إلى أين؟ إلى أين تقصد؟ وهل هي معتادة الخروج في هذا الوقت من كل يوم، بينما هو راقد في سريره عقب الغداء؟ ولقد كان ينبغي له هذا الأرق اليوم؛ حتى يستطيع العلم بذلك؟ ما أبركه أرقًا!
ولكن المهم هو أن ينتبه جيدًا إلى نزولهما؛ حتى لا تنزلا في محطة غير العتبة وهو لاهٍ كالمغفل؛ لذلك وضع «مصطفى» نصب عينيه مكان «الحريم» وظل لا يتلفت إلا إليه، حتى بلغ الترام أول شارع عبد العزيز، فإذا هي وجاريتها تنزلان، ولم يكن «مصطفى» يتوقع ذلك؛ إذ حسبهما قاصدتين العتبة الخضراء، فلم ير نزولهما إلا بعد أن تحرك القطار به، فنهض كالمخبول، وقفز قفزة قوية، وأدار ظهره يبحث عنهما في لهفة، وإذا هو وجهًا لوجه أمام سنية! … فاحمر وجهه خجلًا وخفق قلبه، وتنحى لهما عن الطريق الذي كان سده عليهما بقفزته، ولم تكن «سنية» أقل انبهاتًا منه، ولا أقل احمرارًا، وقد رأته في مواجهتها فجأة، غير أن القناع الأسود والبيشة أخفى لون وجهها، أما هو فقد لاحظت هي تغيره، وسارت في طريقها تتبعها جاريتها، ووقف «مصطفى» في مكانه من أثر الصدمة، وقد تركهما يذهبان، بدون أن يشعر بذهابهما، إلى أن كادا يختفيان بين المارة، فذكرهما وذكر أنه يود أن يعلم إلى أين تذهبان، فانطلق مسرعًا يبحث عنهما إلى أن عثر بهما، فتمهل في مشيته يتبعهما عن كثب، إلى أن رآهما تدخلان عمارة في منتصف هذا الشارع.
وقف «مصطفى» لحظة أمام الباب حائرًا، يتساءل عما يريدانه في هذه العمارة، وعما إذا كان ينبغي له المضي في تعقبهما … ووقع نظره على لوحات نحاسية مختلفة بباب العمارة، تعلن عن طبيب ومحامٍ وتاجر، فما تردد، واقتحم الباب بسرعة، وصعد السلم وثبًا ليلحق بهما، فأدركهما أمام «شقة» بالطابق الثالث، والجارية تقرع جرسًا كهربائيًّا، ولم يلبث الباب أن فتح، ودخلت المرأتان، ورأى «مصطفى» الباب على وشك أن يغلق خلفهما، فهرع إليه ودفعه بيده ليحول دون غلقه، ودخل خافق القلب … لعله أيضًا تأثير الصعود السريع والوثب! وأجال بصره في المكان، فإذا هو في عيادة طبيب … علم ذلك من «التمرجي» الذي فتح الباب، وقاد السيدتين إلى حجرة انتظار السيدات، ونظر «مصطفى» إليهما تدخلان تلك الحجرة الخاصة بهن، فتولاه الامتعاض والحسرة، وجاءه الممرض يقوده بدوره إلى حجرة الرجال، فانقاد له بغير وعي.
لم يلبث «مصطفى» أن وجد نفسه بين بضعة أفندية وشيوخ ينتظرون، فأخذ مجلسه في أدب بعد أن أقرأ الجميع السلام بيده، وظل هو الآخر ينتظر في سكون.
ولكن ينتظر ماذا؟ في هذه اللحظة فقط تنبه «مصطفى» لموقفه، لماذا هو هنا في تلك الحجرة؟ إنه ليس مريضًا، وما العمل إذا جاء دوره الآن وأدخل على الطبيب؟ ثم أي طبيب هذا الذي هو في عيادته الآن؟ إنه لا يعرف حتى إن كان طبيبًا باطنيًّا أو جراحًا أو طبيب عيون أو اختصاصيًّا في الأذن والحنجرة؟
والتفت يَمنة ويَسرة في حيرة وارتباك؛ هل يسأل من حوله عن صفة هذا الطبيب؟ ولكنه لا يأمن أن يثير سؤاله دهشتهم، ويعجبوا لأمر هذا المريض الذي جاء ولا يعلم إلى أي طبيب جاء … ففضل الصمت … ومن الآن حتى المثول بين يدي الطبيب يأتي الله بالفرج، وأنه متى دخل حجرة الطبيب، رأى ما فيها من أدوات وآلات قد يتضح له اختصاص صناعته؛ لذلك لا خير من الانتظار.
ولكن شيئًا آخر خطر لذاكرته: إنه لم يأتِ هنا كي يرى الطبيب، ما له ولحجرته وأدواته وآلاته؟ أين هي جاريتها؟ أين المرأتان؟ وهبَّ ناهضًا على قدميه فجأة على نحو لفت أنظار المرضى المنتظرين، ولكنه لم يأبه، وسار نحو الباب، وخرج إلى الردهة، وأجال بصره فيها، فوجد حجرة السيدات بابها مفتوح، فاتجه إليها ومر ببابها سريعًا، ثم عاد فوقف ببابها لحظة يتصفح الوجوه كأنما له قريبة أو نسيبة يفتش عنها بين الحاضرات. وإذا فجأة يقع بصره على بصر «سنية»، وإذا هي ترنو إليه، ولكنها في الحال خفضت عينيها السوداوين إلى الأرض في حياء لذيذ، فابتعد «مصطفى» مسرعًا، وعاد إلى مكانه بحجرة الرجال وقد علا الدم إلى وجهه، وأطرق مبهوتًا تحت تأثير تلك النظرة.
إنها لا شك تعرفه، وأحست وجوده، وإلا فما معنى هذه النظرة الغريبة؟ نعم، إنها بدأت تلتفت إليه، وإنه يشعر بذلك، إنه ليشعر الآن بأن بينهما صلة، وأن هذا الشعاع من عينيها الخلابتين، الذي اخترق قلبه الساعة لأقوى رباطًا من سلاسل الحديد، إنه حسنًا فعل بمجيئه اليوم في أثرها، ولسوف يسير دائمًا في أثرها أينما ذهبت، ولكن، أتراها أتت هذا المكان للمرة الأولى؟ أم أنها كانت تختلف إليه منذ زمن وهو لا يعلم؟ أهي مريضة إذن؟ مسكينة تلك العزيزة، وبأي مرض يا ترى؟ وأيُّ ألم تشعر به؟ وهل يطيق هو أن يعلم بألمها، ولا يتألم كذلك؟ مستحيل، إنه يتألم مثلها، وإنه لمريض مثلها، وكفاه هناء وراحة أن يكون مريضًا مثلها وبنفس مرضها … نعم، بنفس مرضها، فقط، لو يعلم بأي شيء هي مريضة؟ هذه هي المشكلة، ولكن الأمر بسيط: ما عليه إلا أن يعرف عيادة أي طبيب هذه؟
وبينما هو في هذه الخواطر والعواطف إذا رجل مريض يدخل عليهم، وقد وضع منديله على فكه، وأسفل خده الوارم. فما كاد «مصطفى» يراه، حتى أدرك صفة الطبيب، وقد كفاه الله مئونة السؤال، إنه الآن في عيادة طبيب أسنان، الحمد الله إذ ظهر أنه طبيب أسنان، لقد اطمأن «مصطفى» عليها الآن، وعلى نفسه … الأسنان؟ كل شخص محتاج إلى العناية بأسنانه، ومن الناس المترفين الدقيقي المزاج من لا ينقطعون عن طبيب الأسنان، يتولى أمر أسنانهم على نحو شبه دائم. وما أسعدها فرصة إذا أتيح له رؤيتها دائمًا في العيادة، لماذا لا يعالج هو أيضًا أسنانه؟ ووضع في الحال أصبعه في فمه يبحث وينقب، عله يعثر على سن أو ضرس محتاج إلى إصلاح، فلم يجد سوى ضرس العقل يؤلمه قليلًا على حسب دعواه الآن كلما أكل أو شرب شيئًا باردًا.
ومر الوقت ولم يبقَ على مجيء دور «مصطفى» لملاقاة الطبيب سوى لحظة … وجاءه «التمرجي» منبهًا بذلك، مصبرًا إياه بقوله إنه سيدخل في الحال عقب خروج السيدة التي في حجرة الطبيب الساعة.
فنهض «مصطفى» للفور واتجه إلى الردهة وألقى نظرة سريعة على مكان «سنية» من حجرة السيدات، فلم يجدها، فأيقن أنها هي التي في حجرة الطبيب الساعة، إلا أن تكون خرجت قبل ذلك ولم يرها، ولم يضطرب «مصطفى»، ولم يحزن لأنه علم أنه سوف يقابلها كثيرًا في هذه العيادة، ولم يلبث أن أتاه «التمرجي» يدعوه إلى الدخول، فاستغرب قليلًا: كيف أنه لم ير أحدًا خرج من عند الطبيب، وسأل في ذلك، فقال له التمرجي: إن لحجرة الطبيب بابًا آخر يؤدي إلى السلم مباشرة.
دخل «مصطفى» أخيرًا، فاستقبله رجل قد وخطه الشيب، يرتدي شبه معطف أبيض من التيل، فعلم أنه الطبيب، فأشار له بالتحية فردها الطبيب سريعًا، وهو يشير إليه بالجلوس على كرسي المعالجة، وحاول «مصطفى» أن يتكلم ليبين له الضرس الذي يشكو منه، ولكن الطبيب لم يمهله، وفتح له فاه وتناول مسبارًا، وأخذ يحفر له جميع أسنانه، وبعد لحظة تركه، واستوى قائلًا لهذا «الزبون» الجديد: إن ما ينبغي علاجه لا يقل عن اثنتي عشرة سِنًّا وضرسًا!
أين وكيف وجد هذه الاثنتي عشرة؟ لا أحد يدري، وعبثًا حاول «مصطفى» أن يقنعه بأن أسنانه كلها سليمة، وأنه يأكل عليها جيدًا جدًّا منذ سنين، وأنه لا يشكو إلا من ضرس العقل فقط، وحتى هذا الضرس لا يشكو منه كثيرًا، ذهب كل هذا الكلام في الهواء، واضطر «مصطفى» أن يذعن أخيرًا لهذا الطبيب، فشمر هذا الأخير عن ساعديه وأدار آلة الحفر والنقر الكهربائية، وجعل يجرب في أسنان «مصطفى» السليمة وغير السليمة، على حد سواء.
وانتهى الطبيب فقاد مريضه إلى مكتبه، وأخذ يكتب له ورقة بمقدم الدفع ومؤخره، ثم بمواعيد الحضور. وهذا ما يهم «مصطفى» قبل كل شيء … مواعيد الحضور؛ إذ ينبغي أن تكون هذه المواعيد متفقة ومواعيد «سنية»؛ وإلا فما الفائدة إذن؟ ولكن كيف العمل، وهو لا يعرف مواعيد «سنية» بالتحقيق والضبط … وهل يستطيع أو يليق أن يقول للطبيب اجعل مواعيدي في نفس الساعة واليوم الذي تأتي فيه تلك السيدة «…»؟
لذلك حار «مصطفى» في الأمر وتردد، وظل الطبيب يعرض عليه أيامًا وساعات، وهو يتذرع بالشغل رفضًا في حيرة وتردد، وأخيرًا خطر له أن يختار الساعة الثالثة، ففي مثل هذه الساعة جاءت «سنية» اليوم، ثم ذكر أن ميعاد «سنية» القادم ربما كان اليوم التالي بعد الغد؛ إذ لا علاج في يومين متتاليين، فطلب من ساعته إلى الطبيب أن يجعل ميعاده القادم في ذلك اليوم مؤكدًا عليه الساعة الثالثة تمامًا، فتوقف الطبيب لحظة وقلب سجلًّا أمامه، ثم رفع رأسه إلى «مصطفى» وقال له إنه لا يستطيع ذلك بعد غد؛ لأن السيدة التي خرجت الآن قبيل دخوله ستأتي في تلك الساعة من هذا اليوم، لتختم عنده علاجها الذي بدأته منذ شهرين، فإذا شاء «مصطفى» أتى في منتصف الرابعة: أي عقب خروجها، كما حدث اليوم، وله بعد ذلك أن يأتي في الثالثة تمامًا فيحل محل تلك السيدة التي انتهى علاجها.
«انتهى علاجها؟ … من؟ يا لنكد الطالع! كانت تأتي منذ شهرين؟ أكان هو قد أتى اليوم ليأخذ محلها؟»
ورجف فؤاد «مصطفى»، وبهت لفكرة أنه لن يراها في العيادة، وأن علاجها انتهى أو سينتهي بعد غد، وأنه إنما جاء في آخر وقت، فلم يتمالك أن صاح مبغوتًا: الست الصغيرة اللي مع جاريتها؟
فرفع الطبيب بصره إلى «مصطفى» في دهشة قليلة، ثم أجاب بالإيجاب، وأردف «مصطفى» وكأنه يخاطب نفسه: انتهى علاجها؟ انتهى ازاي؟
فقال الطبيب مصححًا، وهو يبتسم: بعد بكرة آخر يوم في العلاج.
ودفع «مصطفى» المبلغ الذي طلب منه، واستلم ورقة المواعيد وهو لاهٍ واجمٌ ساهِم، وخرج يسائل نفسه كالمجنون. لماذا اتفق؟! ولماذا سيأتي؟! وكيف سيستطيع المجيء ما دامت هي لا تجيء؟! وما فائدة مجيئه؟!
وما كاد يبلغ السلم حتى سمع الطبيب خلفه، على باب حجرة العيادة، يقول له محذرًا إياه ألا يأكل منذ الآن طعامًا ساخنًا ولا باردًا ولا يابسًا، وأن يتوخى الحيطة التامة في المضغ حتى لا تهيج العروق، وأن يجعل غذاءه مقصورًا — إن أمكن — على السوائل، كالحساء واللبن وما إليهما، ولا بأس من لباب الخبز الطري مغموسًا في السوائل.
فاستشاط «مصطفى» غضبًا، ونزل السلم ساخطًا، يقول لنفسه: آدي اللي انا كسبته النهارده، ما نابني إلا كوني هرتمت اسناني.