الفصل التاسع عشر
عاد «مصطفى» إلى مسكنه محزونًا كئيب النفس وهو لا يفتر يتأمل … كيف أنها كانت تختلف إلى طبيب الأسنان منذ شهرين وهو لا يعلم؟! فلما علم، إذا هي تختم العلاج وتنقطع عن الذهاب، ليته لم يعلم! إنه دائمًا يعلم بعد فوات الوقت.
والآن ماذا يصنع كي يراها؟ ما كان أحسنها فرصةً أن يلقاها عند طبيب الأسنان، ويرافقها عن كثب في الذهاب والإياب … أما الآن، وقد امتنعت هذه الوسيلة، فكيف العمل؟ إن بروزها في الشرفة أمر غير مضمون.
بات «مصطفى» وقام وهو على هذه الأفكار، وذكر في يأسه وكآبته أنها ستذهب إلى الطبيب في الغد لآخر مرة، وأنه مهما كان ويكون من أمره فأمامه فرصة رؤيتها هناك غدًا.
اطمأن قليلًا لهذا الخاطر، ولو أن خاطرًا آخر هتف به في الحال: أن ما قيمة رؤيتها مرة واحدة، يتبعها غيبة وفراق لا يعلم مداه؟!
ارتجف «مصطفى» قليلًا، وأحس عاطفة غريبة تتولد في نفسه؛ عاطفة الحرص عند اليأس، ولم يلبث أن وطَّن العزم على القيام بعمل جريء في الغد! إن ميعاد الغد عند الطبيب هو آخر فرصة تعطيها إياه الظروف؛ فينبغي له أن يحرص عليها … نعم، وأي ظروف أخرى تتيح له القرب منها في مكان واحد؟ ووالله لو ضاع منه الغد لضاعت آماله كلها، فليتشبث بهذا اليوم الأخير، وليضرب ضربة القانط ولا يفكر في النتيجة.
ونهض من ساعته إلى المنضدة، وتناول ورقًا وقلمًا، وجعل يكتب ويكتب، والعرق يتصبب، وكان يُخرج الكلمة أو الجملة وكأن جزءًا منه يخرج معها، ومضى شطر كبير من ليلة الغد الأخيرة، وهو منكب منكفئ على الورق يراجع ما كتب، فيخيل إليه أنه ما أراد أن يكتب ذلك، ولكن أراد غيره وأكثر منه: أشياء في صدره يعرفها ويحسها زاخرة مصطخبة، ولكن لم يخرج منها شيء على الورق … وها هو مضطر بعد أن أعياه التعب والمراجعة المتكررة أن يترك ما كتب على علاته، على أنه ما يريد، ووضع المكتوب في غلاف أبيض نظيف، ثم ذهب إلى فراشه، وقد احمرت عيناه من فرط السهر والكتابة وتهيج المشاعر.
نهض «مصطفى» في الصباح، فكان أول ما فعل أن تناول الرسالة الطويلة التي خطها البارحة، فأعاد تلاوتها، ثم لبث برهة متفكرًا مترددًا، وأخيرًا انهال عليها يمزقها قطعًا، وألقى بها في سلة المطبخ.
لقد استيقظ فيه العقل منتعشًا مع الصباح، وبدا له أن العاطفة كادت تضله، لماذا يكتب كل هذا الكلام لهذه الفتاة؟ إن هذه الصفحات إليها صادقة، هذا صحيح … إنه إنما يطلعها على جزء مما يحسه نحوها، هذا صحيح! ولكن ما لها ولكل ذلك؟ ولعلها لا تلام إذا قالت في نفسها بعد الاطلاع على رسالته: «ما الذي يرومه مني هذا الرجل؟ نعم، ما الذي يرومه بصفحاته المتدفقة عواطف؛ إنها أعجبته، ولا يتصور الحياة بغير صورتها، كما يقول! حسن، فليتزوجها، وبدل رسالة طويلة كهذه، فليذهب إلى والدها أو يوفد أحدًا من قبله إليه، أو إلى والدتها يخطبها … يوفد من؟ لديه زوجة خاله، تقوم مقام والدته المرحومة «…» ولديه خاله مقام والده المرحوم «…» ثم انتقل فكره من هذا كله إلى حالته المالية وطريقة معيشته بعد الزواج، أيتخذ لها مسكنًا لائقًا في القاهرة بعد، أم يصفي أعماله بالمحلة الكبرى؟ لكن ما الذي يصنعه إذا لم يجد وظيفة في مصر؟ وما مركزه الاجتماعي؟ وهل تراها ترضى به ولا عمل له؟ ولكن لماذا يشغل باله بكل هذا؟ أمثله يعجز عن إيجاد عمل؟ … المهم الآن هو أن يسلك الطريق المستقيم، ويخطبها إلى أهلها، ولا محل لمكاتبات فارغة، هذا ما أملاه عليه العقل، عقل الساعة العاشرة صباحًا، حيث ضجيج الحياة ونشاط القوى المادية المتجددة يجعل جميع المخلوقات راضخة لتأثير المنطق المادي.»
ولكن ما جاء الظهر، وبدأت حرارة الشمس تتخللها بسمات من نسيم النيل، وهمدت الحركة قليلًا، واستلقى الناس في الظل يطبِقون الجفون نصف إطباق، أمام وهج الضوء الراسم في الهواء أشكالًا متماوجة مرتعشة، وقت يبدأ فيه استيقاظ الخيال، ويتحول كل شيء من جديد تحت سيطرة العاطفة — حتى بدأ يتولد في «مصطفى» شعور ندم على تمزيقه الخطاب، ونظر في ساعته، فوجد أن لم يبقَ غير وقت قصير على ميعاد ذهاب «سنية» إلى الطبيب، وهذه آخر فرصة، وهذا اليوم آخر عهده بملاقاتها هناك، فماذا أعد لهذا الظرف السانح؟ وكيف يتكاسل ويتردد ويخور عزمه في دقيقة هامة كهذه؟
وهكذا عاد إليه المنطق الآخر العاطفي، يسير بمقتضاه بغير أن يشعر، وذهب لفوره إلى المنضدة وتناول ورقًا وقلمًا، ولكنه توقف إذ ذكر ما فعل في الصباح، غير أنه أقنع نفسه بقوله إنه لن يكتب صفحات عديدة كرسالة البارحة؛ بل يُفهمها إحساسه نحوها في كلمتين … سطرين … فقط، وكأنه ذكر كذلك حكاية خطبتها إلى أهلها، وأن الرسالة لا فائدة منها، فتردَّد قليلًا، ولكن ما لبث أن شعر بالحاجة إلى كتابة هذه الرسالة لها.
نعم، إنه سيخطبها وسيتزوجها إذا سمحت وشاء الله، ولكن كل هذا لا يمنع أن هذه الرسالة لا بد أن تقرأها، إنه في حاجة ماسة إلى أن يطلعها على ما يحس نحوها، وفي حاجة ماسة إلى معرفة رأيها في ذلك! المسألة ليست فقط مسألة بلوغ غاية مادية من طريق مباشر كما يزعم العقل، بل بجانب هذا توجد مسألة العاطفة والقلب الذي لا يطمئن ولا يهدأ، حتى يعلم هل هناك تبادل في الإحساس والعاطفة أو لا؟ أو بالأقل لا يهدأ ولا يستقر؛ حتى يصرح بما يكنُّه، ويتلقى الجواب عليه؛ «فمصطفى» يشعر بحاجة القلب هذه، وحتى على فرض أن الخطبة تمت والزواج تقرر؛ فإنه ما زال في حاجة هائلة إلى معرفة رأيها فيه. وهكذا اقتنع «مصطفى» كل الاقتناع؛ وكأنه أدرك أن منطق العقل غير منطق القلب، وكلاهما صحيح، وكلاهما ضروري، وانكب على الورقة يكتب بسرعة عدة أسطر، وضعها في الغلاف، ثم نادى خادمه طالبًا الغداء، وأكل في عجلة ثم نزل إلى القهوة متربصًا خروج الفتاة وجاريتها.
ما دقت الساعة الثالثة حتى ظهرت الجارية بالباب، فدق قلب «مصطفى» واستعد للقيام، إلا أن الجارية خطت بمفردها إلى الشارع واستوقفت عربة مارة، ولم تمضِ لحظة حتى خرجت «سنية»، واتجهت إلى العربة، وقبل أن تركب التفتت إلى ناحية القهوة، ونظرت إلى «مصطفى» ثم صعدت، وتبعتها جاريتها، وسارت بهما العربة.
وظل «مصطفى» واقفًا في مكانه مبهوتًا قليلًا، أولًا: لأنه كان يحسبهما ذاهبتين بالترام كالمرة السابقة، ولم يتوقع العربة. ثانيًا: من أثر تلك النظرة؛ ولو لم يكن النقاب يخفي ثغرها، للمح «مصطفي» عليه ابتسامة، ولكن العجيب أنه أدرك هذه الابتسامة من عينيها، إنها ابتسامة غريبة، فيها — لو دری «مصطفى» — معنى السرور والمداعبة والعاطفة العميقة كلها مجتمعة، ولكن لم يدرك منها إلا أنها غدت تحس وجوده وتلحظ اهتمامه بها، وفرح «مصطفى» وغابت العربة عن نظره، ففطن واختلج، وجرى مسرعًا يبحث عن عربة، وهو مضطرب خائف ألا يلحق بها، ولكنه تذكر أنه يعرف إلى أين هي ذاهبة … فهدأ قليلًا، وركب مع ذلك عربة حتى لا يتأخر كثيرًا، وظل في الطريق يفكر فيها وفي نظرتها وفي ركوبها اليوم العربة.
نعم، لماذا ركبت عربة اليوم، وقد عرفت أنه يتبعها في الترام؟ لعلها نزلت متأخرة اليوم، أو لعلها كانت تذهب دائمًا بعربة، ولم تذهب بالترام إلا أول أمس مصادفة؟ أو لعلها تريد توفير الوقت؟ على كل حال هذه مسألة غير مهمة لا تدعو إلى كل هذا التفكير، ولا غرابة مطلقًا في تصرفها هذا، ماذا في سيدة ركبت عربة؟ أو لا يريدها أن تركب عربة؟ ولم ينقطع عن هذه الأفكار إلا بوصول عربته أمام عمارة الطبيب، فنزل وصعد مسرعًا، وكان أول ما فعل عند دخوله العيادة أن ذهب، وألقى نظرة على مكان «سنية» الذي كانت فيه أول أمس بحجرة السيدات، كأنها لا يمكن أن تغير هذا المكان، فلم يجدها فيه فارتعد، ونظر قانطًا إلى جهة أخرى من الحجرة فألفاها جالسة بجانب جاريتها، وقد نظرت إليه فاحمر خجلًا، واختفى في الحال من عينيها قاصدًا حجرة الرجال، حيث جعل ينتظر مفكرًا كيف يوصل إليها الرسالة؟
وخطرت له أخيرًا فكرة جميلة: هي أن يطلب إلى «التمرجي» أن يستدعي له الجارية المرافقة للسيدة من حجرة السيدات، وعندئذٍ يسلم الرسالة للجارية؛ كي توصلها إلى سيدتها، مفهمًا إياها أنها من الطبيب مثلًا … ولكن هب «سنية» سألت «التمرجي» عمن يطلب جاريتها، فماذا يجيب؟ ثم ما معنى أن يرسل إليها الطبيب رسالة، وهو عما قليل يراها؟ وإذا أعطى «التمرجي» نفسه الرسالة ليوصلها إلى «سنية» فإنه يثير شبهة الرجل، ويعرض «سنية» ونفسه للقيل والقال، إن هذه الجارية الجاهلة كانت خير رسول، ولكن كيف يستدعيها إليه؟
لم يهتدِ «مصطفى» إلى حلٍّ مرضٍ، وخشي أن يفوت الوقت في هذا التردد والتصميم، ويأتي دور «سنية»، وتدخل هي وجاريتها إلى حجرة الطبيب، وتخرجان بعد ذلك من الباب الآخر فلا يراها، وتفلت الفرصة، فنهض بقوة مصرًّا على تنفيذ الفكرة، غير ناظر إلى ما يحدث، واستدعى «التمرجي» في الردهة، وطلب إليه استدعاء الجارية التي في حجرة السيدات، ولم يقل له أكثر من ذلك. ومضى الممرض من ساعته إلى الجارية، فأشار لها عن بعد أن تأتي إليه، فترددت قليلًا ونظرت إلى سيدتها، فقالت لها سيدتها: قومي یا «دادة بخيتة» شوفي التمرجي عايز إيه؟
فنهضت «بخيتة»، وسارت إليه فسحبها من يدها في صمت حتى أوصلها إلى «مصطفى»، فتنفس الشاب، وأخذها ناحية وأخرج الرسالة من جيبه، وأعطاها إياها قائلًا: سلمي دي لستك حالًا.
ولم يزد على ذلك، وقد أيقن أن قلة الكلام في هذه الظروف خير من كثرته، وتناولت الجارية الرسالة قائلة: هاضر يا سيدي.
ولم يخطر لها أن تسأله ممن؟
وما رآها «مصطفى» تذهب بالرسالة إلى «سنية» حتى اهتز فؤاده ابتهاجًا، وشعر كأنه نال كل ما أراد من هذا المكان، فخرج من العيادة توًّا، وكأنه لا يمشي على قدميه؛ بل تحمله أجنحة خيالية، وسار في «شارع عبد العزيز» ناسيًا أن دوره ينتظره عند طبيب الأسنان.