الفصل العشرون
اشتد حال «محسن» سوءًا، وأجمعت أساتذته بعد عجب طويل على ضياعه المحقق هذا العام، إن لم تنقذه أعجوبة، وشحب لونه وقل كلامه. فأشفق عليه أعمامه، وصاروا يخرجون به إلى النزهة إرغامًا ليروحوا عنه، فكانوا يسيرون بجانبه في صمت، غير مجترئين بعد على مفاتحته في الكلام! …
ولعل العدوى انتقلت إلى «عبده» فأصبح أمره هو الآخر يشبه أمر «محسن»، وغدا لا يطيق كثرة الكلام حوله، ولا ذكر اسم «سنية» على الخصوص، وقد كانت «زنوبة» إلى عهد غير بعيد، كلما علمت خبرًا وشاهدت أمرًا من نافذتها يتعلق بالجيران بادرت تزفه إلى «الشعب» حال اجتماعه حول مائدة الطعام، ولكن «عبده» حرم عليها ذلك بتاتًا، وأرغمها على السكوت المطلق، بالأقل في حضرتهم، وهكذا غدا البيت كالمقبرة، وغدوا هم كالأشباح … يدخلون ويخرجون في صمت، وضايق هذا بادئ الأمر «حنفي أفندي» و«مبروك» … نعم ما ذنب «حنفي»؟! إن كان للآخرين عذر في السكوت، فما عذره هو يقبرونه معهم؟! وحاول أن يتكلم وأن يضاحكهم ويمازحهم، بحجة الترفية عنهم، فلم يجد منهم مصغيًا ولا مستظرفًا، فأجبر على السكوت.
لا ريب كان حزن «محسن» عظيمًا حتى استطاع ترك هذا الأثر فيمن حوله، فما كان يسمع هذا المسكين في الطريق صوت «بيانو» يضرب في أحد البيوت حتى يصفر ويخضر، ويعلو قلبه ويهبط، ويختل توازن مشيته، ويحاول المستحيل؛ ليضبط نفسه، ويخفي ما ألم به فجأة.
أيام مضت ولن تعود! … كان فيها يسمع صوت البيانو. وهي بجانبه تعلمه التوقيع ممسكة يده بيدها الرقيقة، وكان هو يعلمها الغناء، وهي مصغية ترنو إليه في إعجاب، وهو ينشد:
كان يتمثل للفتى طيف تلك الأيام، فيتوقف وقد غلبته شهقة بكاء، ويقول لنفسه منفجرًا، في عزلة:
نعم، هو الذي كان يقول ذلك أمامها باسمًا في تلك الأيام السعيدة التي ذهبت، باسمًا لأنه كان يظن الأغنية أغنية، وأن ما فيها من التحذير والنذير مجرد كلمات … وأين له العلم بأن كل ما سلف سينقضي بهذه السرعة؟ وأن كل هذا ينتظره؟
هكذا تقول الأغنية أيضًا.
نعم، «رحت تشتكي ما لقيت …» … حتى الشكوى هو محروم منها … وهل تتدانى هي إلى سماع شكوى الآن؟ كلَّا … مستحيل! … أما الشكوى إلى رفاقه؛ فهو يحرم نفسه إياها، قد يكون فيها بعض التخفيف، ولكن ما الفائدة؟
كثيرًا ما يكون «عبده» و«سليم» برفقته، ويحس صلة قلبيهما بقلبه، ويدرك بمشاعره رغبة «سليم» المتأججة في مفاتحته وانتهازه الفرص للكلام في ذلك الموضوع، ولكن «محسن» كان يفضل السكوت، ومع ذلك فقد كانوا إذا لمحوا سيدة ذات ثوب أخضر، أو سمعوا صوت «بيانو»، أو جاء ذكر أسلاك الكهرباء؛ شعروا جميعًا برجفة تسري فيهم، وهذه كانت اللغة الوحيدة التي يتفاهمون بها.
العجيب أن «سليم» انقلب شخصًا آخر، وكأن قلب «محسن» الكبير فيه من النار المقدسة ما يكفي لملء قلب «سليم»، وتكملة الناقص من قلب «عبده» … إن «سليم» بطبعه لم يكن قديرًا على إحساسات كهذه، وإن ما كان وما بينه وبين «سنية» لا يستلزم كل هذا، ولا شك أنه لو كان وحده في بلد ﮐ «بور سعيد» وحدث ما حدث لما أفرد له هذا الاهتمام، أهي إذن العدوى؟ أم الوهم؟ أم الإلهام؟ أليس أن القلب مصدر قوى هائلة؟ وأن قلبًا واحدًا كبيرًا يكفي لإلهام قلوب شتى؟
هكذا بدأت عواطف «عبده» و«سليم» بالإعجاب والتأثر، وانتهت بالمشاركة والمشاطرة، وأصبحا كلما أوغل «محسن» في الألم، وكلما شاركاه فيه؛ يشعران أنهما ارتفعا عن مرتبتهما الأولى.
ومرت الأيام وإذا تلك الحياة بجوار «محسن»، واقتسام هذا الحزن الجميل يقتل فيهما كل عاطفة شر أو حقد نحو «سنية» أو «مصطفى»، بل أعجب من هذا أن «سنية» قد تغيرت في عين «سليم»، فنسي فيها المرأة المادية، ذات الجسم المغري، والثديين البرتقاليين الواقفين؛ فهو لا يذكر منها الآن إلا اسما معنويًّا، لا يدل إلا على معبود يتألمون كلهم من أجله، ويشاهدون ويرثون لعذاب هذا الصغير المؤثر في سبيله.
نعم، لو أن «محسن» ذكر الآن يوم رأى الفلاحين في الضيعة يكدون ويتألمون، وهم يغنون في سبيل المحصول؛ معبودهم المرتفع أكوامًا أكوامًا، وهم حوله العبيد بمناجلهم وأقدامهم وأجسادهم العارية التي قرحها القر والحر والعمل والظلم … لقد فكر يومها هو الآخر في معبوده، وخطر له خاطر ارتعد له: «هل يستطيع أن يتألم هو أيضًا في سبيل ذلك المعبود، أو أنه ليس من دم هذا الفلاح؟»
لم يستطع «محسن» مطلقًا وبرغم ما حدث أن ينزع من فكره ذلك الخطاب الذي وصله في العزبة، والذي يحفظه دائمًا، ولم يستطع مطلقًا أن يتصور «سنية» لم تكتبه، ولا تعلم به، ولم تستطع حتى الحقيقة أن تهدم تلك الخيالات والأوهام، التي طالما بناها على ذلك الخطاب، والخيال أحيانًا أقوى من الحقيقة.
لذلك ما انفك «محسن» يُخرج في وحدته ذلك الخطاب ويتلوه، ويمعن فيه، مرددًا تلك الجمل التي توسَّع في تفسيرها، وأسبغ خياله عليها معاني لم تكن لها … نعم، لقد كان يتذكر قول «زنوبة» إن هذا الخطاب إنما حرره كاتب عمومي أمام محكمة السيدة، ولكنه مع ذلك كان يعز عليه تمزيق هذا الخطاب، وكان يتمسك به وبعباراته المعهودة؛ كأنما الخيال واستمراره أعاره في نظره قوة الحقيقة، أم أن الوهم انقلب عقيدة … وأنى للحقيقة أن تهزم العقيدة إلا أن يهزم العقل القلب؟
وفي ذات يوم باغت «سليم» «محسن» في سريره، وقد أخرج ذلك الخطاب من غلافه بعناية، وجعل يطالعه كالمعتاد في تأنٍّ خلف ستار «الناموسية» المسدلة، فلم يتمالك «سليم» أن خرج من صمته، وصاح صيحة فرح ملهوفًا: جواب! جواب من عندها!
فرفع «محسن» رأسه مبغوتًا، وحاول إخفاء الخطاب بحركة غريزية، وكان «رئيس الشرف حنفي» مستلقيًا على سريره بقربهما، يستعين بالنوم على تلك الأحزان التي ينال نصيبه فيها بغير مقتضٍ، فلما سمع صيحة الفرح التي لفظها «سليم»، ولم يكن قد سمع صوته منذ زمان أيقن أن ساعة الرحمة والفرج قد آذنت، فنفض عنه اللحاف بسرعة، وهبَّ منتصبًا في فراشه، وصاح بصوت فيه حرارة التحمس: بشروني يا اولاد.
ولم يلبث «سليم» أن ترك الحجرة وذهب يفتش في البيت مناديًا: عبده … يا عبده … يا عبده.
وعمت الضجة في البيت، ولو كانت «زنوبة» حاضرة لدهشت لهذا الانقلاب الفجائي في المنزل الصامت، وقد عادت إليه مظاهر الحياة، ولكنها كانت قد خرجت بصحبة «مبروك» لإحدى الزيارات كما تقول، ولعلها ذهبت حقيقة؛ ولكن لتُفشي كامن بغضها الذي لا يفتر، وتشيع ما تختلقه زورًا على غريمتها، أو لعلها كذبت وذهبت هي و«مبروك» للبحث عن سحرة البلد الحاذقين.
كان «عبده» في حجرة الاستقبال أمام لوحة الرسم، يعمل آنًا ليشغل نفسه، يقذف بالقلم في ضيق آنًا آخر ضجرًا ملولًا مستيئسًا من هذه الحالة، فلما سمع نداء «سليم» تغيرت في الحال أساريره، وهرع نحوه يرى الخبر.
ولم يمضِ قليل حتى ألفى «محسن» نفسه بين رفاقه، ينظرون إليه منتظرين، وعلى وجوههم ابتسامة أمل تأثر لها.
لم يستطع أن يسكت عنهم هذه المرة … وقد فعل به منظر رجائهم وفرحهم، فمد يده تحت الوسادة، وأخرج الخطاب، إلا أنه تردد قليلًا وخجل؛ إذ ذكر أن هذا الخطاب قديم التاريخ، وأنهم لا شك يظنون أنه جديد وسيخيب أملهم، ولكنه مع ذلك لم يستطع أن يلزم خطة الصمت والعزلة عنهم بعد الآن، ولا بد أن يقاسمهم ذلك القليل الذي عنده وبقي له من آثار «سنية»، فمد يده إليهم بالخطاب، فتناوله «سليم»، ونشره تحت أعين «عبده»، ولبثا يطالعان و«محسن» يراقب ما يرتسم على وجهيهما، وأخيرًا ردَّا إليه الخطاب في سكون، وقد خاب أملهما، على نحو وجف له «محسن»، وسمع «عبده» يدمدم قائلًا: دا من عند «زنوبة»؟
ورفع «سليم» رأسه إلى «محسن»، وكأنه يسأله مستغربًا عما حمله على مطالعة خطاب كهذا.
فأجاب الفتى بصوت منخفض، وهو مطرق: هي اللي كتبته.
فسأل «سليم» في رفق، وصوت متأدب خافت: هي مين؟ «سنية»؟
فأشار «محسن» برأسه علامة الإيجاب، وعندئذٍ تناول «سليم» الخطاب مرة ثانية ليعيد قراءته من جديد، وعاد «عبده» إلى المطالعة أيضًا، من فوق كتف «سليم» … وهنا أخذ «محسن» يشير لهما بأصبعه إلى العبارات المهمة في الخطاب، ويفسرها، ويشرح معانيها الخفية؛ كما فهمها هو، فما لبث «سليم» أن ردد هذه العبارات، وقابل بينها وبين التفسير الذي يزعمه «محسن»، ثم هز رأسه، وقال بصوت خافت يائس: لا، أبدًا، مش قصدها.
فامتقع لون «محسن» المسكين، فغمز «عبده» «سليم» بمرفقه، ثم أسرع قائلًا: قصدها كده تمام، اقرا تاني وانت تفهم.
ثم التفت إلى «محسن»، وقال في لطف: ماقابلتهاش بعد ما رجعت من السفر؟
فأجاب «محسن» للفور: أبدًا.
وهنا تذكر «محسن» أنه حقيقة لم يذهب إليها بعد عودته، ولم يرها قط مع أنها تستحثه، وتنتظر عودته بفارغ الصبر، وها خطابها وعباراتها تنبئ عن مبلغ هذا الانتظار.
وأعطاه هذا الخاطر شيئًا من الأمل والقوة، نعم إنه هو المذنب لأنه لم يذهب إليها توًّا، بل إنه هو الخائن لعهدها، وإنه الذي أساء معاملتها، وازداد فرحه بهذه الفكرة، فانفجر يحدث رفاقه عنها، وعما كان له معها قبل السفر، وعن المنديل الذي كان التقطه، ولكنها منحته إياه، بعد أن مسحت له به دموعه، وها هو ذا المنديل يحفظه للآن، ثم أسرع، فأبرز لهم المنديل الحريري، فتناوله «سليم» بسرعة، ولوح به «لحنفي»، وهو يصيح فرحًا: العاشق للنبي يصلي عليه.
فسأله «الرئيس حنفي» وهو يبحث عن منظاره؛ ليرى ما بيد «سليم»: إيه ده؟
فأجاب سليم، وهو يدني المنديل من عين «حنفي»: منديلها، منديلها، معانا منديلها.
فوقف «الرئيس حنفي» باحترام، وقال في صوت خطير: منديلها! … الله أكبر.
ثم رفع عينيه إلى السماء، وقبَّل يديه وجهًا وظهرًا، وقال: الحمد لله! نعمة من الله … بزيادة علينا، احنا عايزين ننهب؟!
وأردف «سليم» باغتباط بعد أن سلَّم المنديل «لعبده» ليتأمل بدوره: وقالت لنا تعالوا ولا رحناش.
فقال «حنفي» للفور صائحًا: احنا المحقوقين.
ثم «كبس» طاقيته حتى أذنيه، ووضع يديه في خاصرته، وجعل هذا «الرئيس شرف» يرقص ويقول مغنيًا: منديلها معانا … معانا منديلها … يا سيدي منديلها … منديلها الحلو … الحلو … الحلو.
فانتهره «عبده» الذي خشي أن يقلب «حنفي» الموقف إلى هزل بهذا الهرج، ولكن «الرئيس» في الحقيقة ما كان يقصد هزؤًا، وإنما هو فرح محبوس؛ وكأنما طول الصمت والعبوس في هذا المنزل، واضطراره إلى مجاراة الرفاق زمنًا، وكتم طبيعته المرحة أثَّر فيه، فلما فهم أن الحياة في المنزل رجعت إلى مجاريها انطلق بكل نفسه؛ لذلك لم يسكت عن الضجيج والتهريج، فعاد «عبده» يصيح به: بس بقا من فضلك.
فسكت عن الغناء، ودنا من «عبده» وقال في ابتهاج: قالت لنا تعالوا ولا رحناش.
وعندئذٍ فجأة تقدم «سليم» إلى الجميع، وقد خطرت له فكرة: هس … سمع … كلكم، فيه اقتراح.
فالتفت إليه الجميع قائلين في وقت واحد: إيه؟
فقال «سليم» في تؤدة: أنا أقترح أن «محسن» يروح … رأيكم إيه؟
فأشار الجميع بالموافقة.
وكان «محسن» يشاهد ما جرى أمامه، في ابتسام وسرور داخلي لعبارة «معانا منديلها» و«قالت لنا تعالوا … إلخ … إلخ» متأثرًا للفظة «نحن» والتي حلت محل لفظة «أنا» … مرتاحًا إلى أن ما له خاصة أصبح ملكًا للجميع، وإلى أنه بات يدخل عليهم الرجاء والاغتباط أجمعين، وأحس منذ تلك اللحظة أنه مسئول عن هناء هذا «الشعب»، وأنه يجرؤ الآن على فعل كل شيء من أجلهم، وأنه لن يحرمهم بعد الآن أي شيء مما يخص به نفسه، ورضي أن يذهب لمقابلة «سنية» عله يأتي بنتيجة يفرح بها «الشعب».