الفصل الخامس والعشرون
زُجَّ بالخمسة في قاعة واحدة من السجن، فناموا ليلتهم من فرط التعب، فلما أصبح النهار قام «مبروك» قبلهم، وأخذ يتأمل المكان، ويتبين أرجاءه فوجد شباكًا عاليًا في ركن؛ كأنه برج بارز، فاحتال حتى ارتفع إليه، ونظر من بين قضبانه، فرأى ساحة فأجال بصره فيها، فإذا في وسطها «عقلة» منصوبة، وبجانبها «متوازيان» من الخشب؛ لعلهما وُضعا لتمرين الضباط والجنود على الألعاب الرياضية، غير أن «مبروك» لا يعرف ذلك؛ فما كاد يرى هذه الأشياء حتى نزل يصيح: نصبوا المشنقة!
فما سمعه «الرئيس شرف حنفي» حتى فتح عينيه في الحال، وانتفض هلعًا، ثم انتصب قائمًا على قدميه يقول: المشنقة، هي حصلت المشنقة، هم رايحين يشنقونا؟! لا … دا كلام ماينفعش!
ونظر إلى «عبده» و«محسن» و«سليم» فإذا هم نيام أو متناومون في هدوء تام، فهزهم صائحًا: قوموا، قوموا يا اولاد! … دي داهيتنا تقيلة ولا احناش عارفين.
فلم يجبه أحد، فقال مغتاظًا: يعني دلوقت النوم حلو.
فلم يسمع سوى صدى صوته فوق الأسفلت، فقال كأنه يخاطب نفسه، ويندب حظه: آه، النهار باين من أوله، والله عملتوها يا غجر وفضلتم ورايا لحد ما وديتوني معاكم المشنقة!
ثم سكت قليلًا … وكأنما كلمة «مشنقة» وهو يلفظها أشعرته أن الموقف قد يكون جدًّا لا هزل فيه، فارتعد: لأ … دي المسألة مافيهاش هزار.
وصمت قليلًا أيضًا يفكر في هول ما ينتظرهم … وفجأة قفز إلى الرفاق النائمين؛ كأنما لم يطق مجرد التفكير، وجعل يقول بصوت التوسل والخوف: شوفوا لنا طريقة يا اخواننا، اعملوا معروف، ينوبكم فيَّ ثواب … قوم يا «سليم» انته يوزباشي، وتفهم في الموضوع ده … ماتعرفلناش واد ظابط صاحبك ابن حلال هنا يشوف لنا مخرج؟ … لكن لأ … دا انت بحق مرفوت، وواقعتك طين! … نعمل إيه بس يا رب! … «عبده» … يا «عبده»! قوم شوف لنا سلك، والا اختراع نهرب به! … نایمین برده؟! إخص عليكم … كده؟! انتم ما تفلحوا إلا في الهلس!
ويئس منهم فتركهم، والتفت إلى «مبروك» المطرق المفكر كذلك في الآخرة، ولسان حاله يقول «جالك الموت يا تارك الصلاة»، فهزه «الرئيس حنفي»، وقال له في إلحاح: إنت متأكد يا «مبروك» انها مشنقة بصحيح؟
فرفع الخادم رأسه إليه في حزن، وقال: آه، مشنقة بصحيح … أمال كده وكده؟
فقال «حنفي» كأنما يخاطب نفسه: آهي دي المصيبة اللي بصحيح … لكن بس يشنقونا من قبل ما يحاكمونا؟! ولو مجلس عسكري يا مسلمين!
– وجنسها إيه المشنقة يا «مبروك»؟
فقال «مبروك»، وهو مطرق: كويسة.
فمكث «الرئيس حنفي» وأخذ يقطع القاعة جيئة وذهابًا بخطًا عصبية. ويفكر، ويستعرض، ويناقش نفسه، ويقول بين آنٍ وآخر: «مش معقول! … مش معقول أبدًا.»
وأخيرًا وقف، والتفت إلى «مبروك» وطلب إليه أن يصعد ثانية ويصف له ما يرى في الخارج بالتفصيل.
ولبى الخادم، وأعاد النظر إلى «العقلة» الطويلة المنصوبة، ثم إلى «المتوازيين» القصير والصغير بجوارها، وقال: ناصبين بلا قافية مشنقة كبيرة، وجنبها مشنقة صغيرة؟
فردد «حنفي» في شيء من الشك والارتياب، وقد أحس أن «مبروك» يهزل: إيه هي اللي صغيرة وكبيرة، مشنقة كبيرة ومشنقة صغيرة؟ إيه الكلام ده؟! انزل يا شيخ بلاش عبط!
فألقى «مبروك» نظرة أخرى على «المتوازيين» الصغير، ثم قال مقتنعًا ومعللًا: وحياة دقن النبي كده، لازم الصغيرة دي علشان من غير مؤاخذة سي «محسن».
وعندئذٍ رن في المكان صوت انفجار ضحك، وإذا الثلاثة النيام أو المتناومون قد جلسوا القرفصاء، كلٌّ في فراشه يضحكون من قول «مبروك» ومن خوف «حنفي»، والتفت «سليم» إلى «محسن»، وقال له ضاحكًا: سامع! … ناصبين لك مشنقة «نونو» على قدك.
فأجاب الفتى باسمًا: أشكرهم على كل حال، لكن أنا أفضل انشنق معاكم على المشنقة الكبيرة.
فقال الرئيس «حنفي» على الفور: تبادلني؟ أنا والله راضي بالصغيرة.
•••
كان أول ما فعلته «زنوبة» بعد القبض على «الشعب» أن التفَّت في إزارها وذهبت إلى مكتب التلغراف، وبعثت تخبر والد «محسن» في «دمنهور» بما جرى: وكانت طرق المواصلات قد أصلحت على الأقل خط «مصر-إسكندرية» وأصبح الانتقال على طول هذا الخط ممكنًا، ولكن بقيود، وتذاكر شخصية تصدرها المحافظة، ونزل الخبر على والد «محسن» ووالدته نزول الصاعقة، وجعلت والدته تندب مصيبتها من يوم أن وافقت على إرساله إلى مصر بين أعمامه … نعم إن «دمنهور» ليس بها مدرسة ثانوية، ولكن أما كان ينبغي لها أن تفكر في طريقة أخرى، غير استئمان أعمامه! إنما اللوم كله على والده الذي ظن خيرًا في إخوته بالقاهرة، وحسب أنهم سيحافظون على ابنه. وهكذا طفقت تلطم وجهها، مشبعة زوجها وإخوته لومًا وتقريعًا، وتصيح: «هاتوا لي ابني … هاتوا لي ابني!»
ولم ينتظر والد «محسن» حتى الصباح، بل جهز حقيبته، وركب أول قطار استطاع أن ينقله إلى القاهرة، وهناك جعل كالمجنون يقابل أصحاب الأمر والنهي، ويسأل ويتوسل على غير جدوى، وأخيرًا خطر له أن يذهب إلى مفتش الري الإنجليزي، الذي يعرفه، عله يساعده لدى السلطات العليا. فكانت فكرة موفقة؛ إذ قابله الرجل مقابلةً بعثت فيه الأمل، واهتم بالأمر غاية الاهتمام؛ لأنه ذكر رؤية الصغير «محسن» يوم مأدبة الريف، وإعجابه به. وقد كلمه بالإنجليزية في لطف، إلا أنه بعد التحري اتضح له أن المسألة دقيقة لأنها بين أيدي السلطة العسكرية! ولذلك لا يستطاع حلها دفعة واحدة. فرجاه والد «محسن» في يأس أن يتوسط، ولو في إطلاق سراح «محسن» فقط على حدة، ولينتظر الباقون حتى تهدأ الأمور، فراح المفتش ينظر في ذلك الشأن … في تلك الساعة تحصَّل الوالد على إذن بزيارة «الشعب» في سجن القلعة، فما رآهم ورأى «محسن» بينهم حتى دهش لمظهرهم الهادئ المرح. وبعد أن استعلم منهم عن كل ما حدث، وقاربت الزيارة الانتهاء، أخذ «محسن» ناحية، وأفهمه أن يتشجع، ويصبر يومًا أو اثنين فقط؛ فإن المساعي مبذولة لإخراجه وحده الآن. ولم يكد الفتى الصغير يسمع ذلك حتى تراجع أحمر الوجه، غضبًا وغيظًا، وصاح قائلًا: فاهم إني أرضى أخرج وأعمامي هنا؟!
فبهت الوالد قليلًا، والتفت إلى الباقين في حيرة وارتباك، ثم توجَّه إليهم بالكلام، مخبرًا إياهم عن استحالة إطلاقهم الآن، وأن كل ما أمكن الحصول عليه هو ربما إطلاق «محسن» فقط، وطلب إليهم المساعدة في إقناع الفتى الصغير؛ نظرًا لأن سنه وصحته لا تسمحان له بحياة السجن، فأقبلوا جميعهم على «محسن» يطلبون إليه في إخلاص، وفي أصوات حارة صادقة، أن يمتثل ويرضى بالخروج؛ لأنه صغير وليس في سنهم … و… و…
ولكن «محسن» له أحيانًا، وفي هذه المسألة على الخصوص، عزم لا يلين.
وانتهت الزيارة على ذلك، فخرج الوالد وقد خطرت له فكرة ابتسم لها: إنه متى صدر الأمر بالإفراج عن «محسن» فإن رضاءه أو رفضه لا يفيدان شيئًا؛ لأن التنفيذ بقوة الجنود.
منذ تلك الزيارة انقلب حال «محسن» وأصبح كئيبًا، يتوقع في كل لحظة أن يفتح الباب، ويجبروه على الانفصال عن رفاقه، وظل هكذا في قلق، وأحيانًا في خجل داخلي كلما ذكر أنه سيفلت بفضل مساعي والده، ويترك أعمامه و«مبروك» بلا معين … ثم أي لذة للحياة بمفرده في «دمنهور»، أو في أي مكان آخر، وهو الذي يحس الغبطة بمشاركة رفاقه «الشعب»، في كل تقلبات الظروف والأوقات؟
إن الألم نفسه مهما عظم يتضاءل كلما اشتركوا فيه جميعًا، ويخف حمله كلما حملوه معًا، بل إنه أحيانًا ينقلب عزاء مثلجًا للصدور، لذيذًا، فماذا يريد به أبوه وأمه غير الوحدة والأنانية؟! وجعل في سره، ومن أعماق نفسه يدعو الله أن يخفق مساعي والده.
وكأن الله استجاب الدعاء الحار: رجع المفتش الإنجليزي آسفًا حزينًا؛ لأنه بعد جهد حقيقي لم يستطع أن يفعل سوى شيء واحد الآن: أن ينقل المسجون الصغير، أو هو ومن معه إلى مستشفى السجن، حيث المعاملة أرقُّ والمعيشة والراحة أوفر.
وقال للوالد الواله: اطمئن؛ فهم في مستشفى السجن كأنهم في فندق؛ أو كأنهم في منازلهم، هذا خير مكان يمضون فيه وقتهم براحة، بعيدًا عن هياج المدينة حتى يأتي يوم إطلاقهم، طبعًا المسألة عسيرة الآن؛ لأن الحالة في البلد ما زالت خطيرة، ولكن بعد بضعة أيام أخرى من يدري؟ ثق أنهم أول من يخرج، بمجرد أن تستقر الحالة، إنهم فقط محجوزون مؤقتًا، لأجل معلوم … إني لن أتركهم، ثق بذلك، إنك تستطيع العودة إلى بلدك مطمئنًّا مكتفيًا بالاعتماد عليَّ.
وهدأ والد «محسن» قليلًا لقول المفتش الكريم، ثم قال مترددًا: يعني أسافر واقول لوالدته؟
فأجابه المفتش بصوت قاطع وبلهجة الواثق المطمئن: سافر، أنا موجود هنا.
وتم نقل «الشعب» إلى المستشفى.
وفي نفس اليوم، ذهب والد «محسن» بصحبة المفتش لزيارة «محسن» ورفاقه، في مقرهم الجديد.
وجعل الوالد يتأمل النظام الجميل حوله، والأسرَّة المصطفة النظيفة، والحديقة التي يتنزه فيها من يريد أو من في دور النقاهة، والمكتبة وما تحتويه من كتب حسنة التنسيق، وقاعات الانتظار والاستقبال بكراسيها وأرائكها الجلد.
فسُرَّ في نفسه، ولاحظه المفتش فوضع كفه على كتفه بلطف وقال له: يخيل لي أننا نطمئن على وجودهم هنا أكثر من منزلهم، على الأقل هم هنا بعيدون عن الاضطرابات والخطر، والمستشفى مسئول عنهم.
اطمأن «حامد بك» والد «محسن» تمامًا، وعزم على العودة إلى «دمنهور»، ليطمئن زوجته القلقة، ويخبرها بما يحوط «محسن» من أمان وراحة وسلام، وبعد أن شكر المفتش الإنجليزي على مروءته غادره ليأخذ حقيبته، ويأخذ زنوبة معه إلى دمنهور؛ إذ لا معنى لإقامتها بمفردها وسط هياج القاهرة.
وحزمت «زنوبة» صرر متاعها، ولكنها لم تشأ أن تسافر قبل رؤية إخوتها و«محسن» في المستشفى، فوافقها «حامد بك»، وفي الصباح صحبها إليهم، فدخلت عليهم وكانوا في «عنبر» النوم في أسرَّة خمسة مصطفة، الواحد بجانب الآخر، فوقفت دهشة قليلًا للمنظر، منظرهم لم يتغير؛ وكأنهم في قاعة النوم «العمومية» بمنزل «شارع سلامة».
ثم وقع بصرها على «مبروك» ممددًا في سرير بجوار سرير «حنفي»، وهو يتمطى في أغطيته وفرشه البيضاء الناصعة النظيفة الجديدة، فلم تتمالك «زنوبة» أن صاحت في استغراب صيحة خفيفة: جاتك نيلة يا «مبروك»، صبرت ونلت ونمت على آخر الزمن في سرير بحق وحقيق.
فنظر إليها «مبروك» بغير أن يتحرك من رقدته، وقال باسمًا: إنتي واخدة بالك؟
ثم نهض نصف نهضة في سريره؛ متكئًا على مرفقه، وقال: بقا اما اقول لك: أنا خلاص جتتي خدت على نوم السراير، وشرفك وشرف أمي ما انام بعد النهارده على الطرابيزة الخشب اياها، إنتم بلا قافية استغفلتوني وحسبتوها عليَّ سرير.
في هذه الأثناء كان «حامد بك» والد «محسن» في الردهة الخارجية حيث استوقف طبيبًا يعرفه، وأخذ يحادثه، بعد أن أشار إلى «زنوبة» على العنبر الذي فيه إخوتها حتى تسبقه إليهم، وانتقلت «زنوبة» من حديثها مع «مبروك» إلى التحدث مع الباقين، وقد علمت من كلامها مع «الرئيس حنفي» أنه مسرور بالمستشفى، وعلى الأخص النوم في هذا العنبر، لا لشيء إلا لأن الهدوء تام شامل؛ فإن «الشعب» لا يجسر على الضجيج و«الشوشرة»، لأنه يخضع هنا لأوامر رئيس «التمرجية»، لا «لرئيس الشرف».
وسألها «سليم» عما جرى بالحي، وبالأخص أخبار الحوادث الأخيرة وتأثيرها على … السكان … أو … الجيران.
وفهمت «زنوبة» مغزى سؤاله، فابتسمت ابتسامة صفراء، وقالت متنهدة، وبلهجة كلها تلميح: عقبال عندك، كتب كتاب أكيد، وأفراح عن قريب.
فسكت، ولم يحر جوابًا!
وتقلب «محسن» على جنبه الأيسر، والتفت إلى ناحية سرير «عبده» عن يساره يحدثه في شيء تافه؛ ليخفي انقباضه في قلبه، فأجابه «عبده» هو الآخر على حديثه التافه بانتباه مصطنع، وفي عينيه مرارة ممزوجة بالاستياء إلى حد الغضب، إنه لا يريد أن يتذكر.
•••
نعم أصبح أكيدًا عقد زواج «مصطفى راجي» و«سنية حلمي»؛ فقد حضر «مصطفى» إلى القاهرة من يوم أن فتح طريق المواصلات الذي كان ينتظره بصبر نافد، وقابل والد «سنية» «الدكتور أحمد حلمي»، واتفقا على إنجاز العقد والتأهيل يوم تهدأ الحالة، بإعادة المنفي العظيم إلى مصر الوالهة.
وهكذا … قد يتفق يوم خروج «محسن» ورفاقه من السجن مع يوم زفاف «سنية» إلى «مصطفى».
•••
من غريب المصادفات أن الطبيب الذي استوقفه «حامد بك» في الردهة، والذي يعرفه مذ كان طبيبًا بالأرياف نواحي «دمنهور البحيرة» كان هو نفس الطبيب الذي عاد «الشعبَ» في منزلهم «بشارع سلامة»، أيام أن أصابتهم كلهم حملة الحمى الإسبانيولية، ويومئذٍ دهش الطبيب لمنظرهم وهم مجتمعون كلهم في حجرة واحدة صُفَّت فيها الأسرَّة، الواحد تلو الآخر؛ كأنهم في عنبر ثكنة أو مستشفى؛ حتى إنه لم يتمالك «هذا الطبيب» وقتئذٍ أن صاح بهم: لا، دا مش بيت … دا مستشفى!
وهو الذي ابتسم مستغربًا انضمام «مبروك الخادم» إليهم على «طرابيزة» الأكل المنقلبة سريرًا، وتساءل يومها دهشًا عما حدا بهم إلى هذا الحشر في حجرة واحدة، قائلًا في نفسه: أتراهم فلاحين من أهل الأرياف، اعتادوا المبيت هم ومواشيهم في قاعة واحدة؟!
•••
كان «حامد بك» والد «محسن» في حديثه مع الطبيب بالردهة، قد استفسر منه عن سبب وجوده بالمكان، فعلم أنه الآن طبيب بالمستشفى، فانتهز الفرصة، وأوصاه خيرًا بابنه وإخوته.
ودخل الطبيب العنبر، فوقع نظره على «الشعب»، راقدين الواحد تلو الآخر، وتبين السِّحَن والوجوه فإذا هو يذكرهم، ويذكر «عنبر» منزلهم، فوقف دهشًا لحظة، ثم صاح مبتسمًا: هو انتم؟! … وبرده هنا كمان جنب بعضكم؟! … الواحد جنب اخوه؟!