الفصل الخامس
كان الوقت مساءً حينما عاد «محسن» و«زنوبة» إلى بيتهما، وليس في الدنيا — ولا يمكن أن يكون فيها — أسعد من «محسن» في ذلك المساء.
وكما أن أثر الصدمة لا يحس إلا بعد حدوثها بوقت، كذلك الفتى «محسن» بهره ودهاه وجود «سنية»، فلم يدرك مقدار ما ظفر به من سعادة إلا بعد أن غادرها. ما أجمله حلمًا! أممكنٌ كلُّ الذي حصل هذا العصر، وهو الذي ما كان يتوقع مجرد مر طيفها، لقد رآها وتوصل إلى محادثتها؛ تلك التي ما حادثها قط، وما رآها قط من قبل إلا خُفيةً من ثقب الباب هو وأعمامه، وقد جاءت يومًا لزيارة «زنوبة».
كان ذلك منذ نحو شهرين، وكان يوم جمعة، و«الشعب» مجتمع على أتم ما يكون من صفاء وهناء، أتاهم «مبروك»، يجري ويغمز بعينه، مشيرًا إلى حجرة «زنوبة» قائلًا: إن عندنا ضيوفًا وفيهن «ضيفة»، ثم قبَّل أطراف أصابعه، فقام «الشعب» يتقدمه «اليوزباشي سليم»، وهرع إلى باب حجرة «زنوبة» المقفل، وهناك انحنوا جميعًا على ثقب الباب، وهم يتدافعون بالمناكب، ويتضاحكون بصوت خافت ضحكات صافية كضحكات الشباب الهنيئة، ثم نظروا إلى الحجرة فإذا هم يبهتون لجمال ما رأوا مثله من قبل … ومن تلك الساعة جعلوا يتسابقون إلى ثقب ذلك الباب، كلما علموا بمجيئها لزيارة «زنوبة» … ذلك كان أول عهد «محسن» بها، كان فردًا من «الشعب» يجري مع الجارين إلى ذلك الباب، ويتأمل معهم ويتعبد بتلك الصورة، أما الآن فأين هم منه؟ إنه آتٍ من عندها منذ لحظة، وإنه قد كلمها، وإنه قد جلس بجانبها، وإنه ربما، قد حاز إعجابها، وإنه سيراها من اليوم، سيراها كثيرًا، كثيرًا؛ فقد طلبت هي إليه ذلك، كي يعلمها الغناء على أصول الفن، وقد وافقتها والدتها وأقرتها على ذلك، أممكن كل هذا ما بين عصر ومغرب؟ أي سعادة وأي معجزة؟!
وأحس «محسن» في نفسه الحاجة إلى أن يفضي بهنائه الهائل إلى أحد … ولكن إلى من؟
وتذكَّر «محسن» منديلها الحريري، يحمله دائمًا؛ كما يحمل أهل السنة «المصحف الشريف».
فليخبر منديلها إذن.
وتاقت نفسه إلى الانفراد والانزواء في مكان قصي، ليخلو إلى نفسه، وليلثم هذا المنديل العزيز، وليبوح له كثيرًا ويحادثه طويلًا، ولكن الجميع كانوا قد عادوا من الخارج وقد جهزوا العشاء.
•••
غرق «محسن» في أحلامه الجميلة، فلم يسمع الجلبة والضوضاء القائمتين حوله، إنهم يبحثون عن «مبروك».
«سليم» و«عبده»، ينظران في حنق إلى باب الفسحة الخارجي من وقت لآخر.
«سليم» يفتل شاربه ويقول: دي مش عادته أبدًا يتأخر عن العشا! دا طول عمره البرنجي.
فيجيبه «عبده» بإشارات عصبية من يديه وكانت «زنوبة» تراقب ضيق صدريهما هذا في صمت وقلق واضطراب، ومن آنٍ لآنٍ تحاول تهدئة ثائرهما وتقول لهما: لسه بدري على العشا … مستعجلين ليه؟ سي «حنفي» نایم ودلوقت، رحت اصحيه زعق وعينه مغمضة، وقال لما تنطبق السما على الأرض ما هو قايم ولا متحرك!
فألقى كل من «عبده» و«سليم» نظرة سريعة إلى جهة سرير الرئيس شرف، وقال «عبده» متبرمًا متأففًا: يا ساتر على الكسل!
ومضت فترة صمت، ثم التفت «سليم» فجأة إلى «زنوبة» وسألها في خبث: يعني انتي مش عارفة «مبروك» راح فين؟
ولكن «زنوبة» أدارت ظهرها كمن تريد تحاشي الإجابة، ومشت مسرعة إلى الجهة التي بها «محسن».
ولمح «عبده» أخيرًا وحدة «محسن» وانزواءه في أحد الأركان، فنهض وسار حتى اقترب منه كذلك، وقال: وانت يا محسن جعان والا شبعان؟ … الله … مالك النهارده ساكت كده، وقاعد لوحدك؟!
وفي هذه اللحظة أقبل «سليم»، واقترب من «زنوبة»؛ كمن تذكَّر أمرًا، وسألها في لهجة ذات مغزى: يكونش «مبروك» راح في مشوار عند … مثلًا.
فتظاهرت «زنوبة» بعدم سماع قوله؛ وكأنما رأت أن تشغلهما بموضوع آخر، فضربت على كتف «محسن» بلطف، والتفتت إلى «عبده» وقالت في صوت المفاخر: اسم الله عليه «محسن» جنن بيت «الدكتور حلمي» النهارده بصوته الحلو، الست الكبيرة «أم سنية» بتحلف إن دي صنعة «عبده الحامولي» بعينها، لغاية إن «سنية هانم» اللي ضرْبها على البيانو مفيش بعده، طلبت منه — محفض — يعلمها الغنا.
وسمع «محسن» كلامها هذا فاستاء وأوجس خيفة، إنه ما كان يود أن يعلم أحد من أعمامه بهذا، على الأقل بهذه السرعة.
وقد أصاب؛ فإن إفشاء «زنوبة» لهذا الخبر أنتج في الحال أثره؛ فما كاد «عبده» يسمع قولها حتى أخذه شبه دهش أو ذهول، ونظر إلى «محسن» نظرة شك وارتياب، ثم كأنما أدرك أخيرًا سر صمته وانزوائه هذا اليوم!
ولم يفُت «سليم» كذلك أن يلاحظ على وجه الفتى الصغير الأثر العميق الذي تركته في نفسه تلك الزيارة لبيت الجيران، ففتل شاربه وتنحنح، وقال في لهجة مزاح بارعة لاذعة: ما شاء الله، صنعة حلوة توكل الشهد! مغنِّي راتب في البيوت … يا ترى كم الأجرة على كده يا سي «محسن»؟
فرفع «محسن» عينيه، وحدَّق في «سليم» بخشونة وجفاء، ولم ينزل إلى الرد عليه.
وزاد هذا من الشك في أمره، فالتفت «عبده» إلى «زنوبة»، وقال لها في حدة شديدة: حضرتك بتاخديه يغني عند الناس؟! مش ناقص إلا كده!
فكتم «محسن» غضبه، وملك نفسه، وردَّ في هدوء: وانت شأنك إيه؟
فاحتد «عبده»، وقال متَّقدًا: بتقول إيه؟! … شأني؟! … إنت فاهم نفسك كبير؟ إنت ولد صغير. إنت جاي هنا علشان تذاكر دروسك، مش علشان تعمل أوسطى عالمة … إنت قدامك امتحان الكفاءة السنة دي … والله إذا كان أهلك يعلموا.
فلم يطق «محسن»، وصرخ قائلًا: مش شغلك انت.
ثم نهض في حركة عنيفة ليغادر المكان، وهو يجالد نفسه من فرط الغضب، ولكن «زنوبة» استوقفته وقالت في دعة ورفق: رايح فين يا «محسن»؟
فلم يُجِب وتخلَّص منها، وسار قاصدًا سريره.
فتبعته «زنوبة» خطوة وهي تقول: مش رايح تتعشى؟
فأجاب «محسن» باختصار وخشونة، بدون أن يقف: لأ.
فعادت «زنوبة» إلى «عبده»، ونظرت إليه بعين اللوم والعتاب قائلة: مالكش حق تزعل، والنبي ما كان لازم أبدًا، فيها إيه لما يعلم «سنية» الغنا، ما هي اسم الله رخره ريحه تعلمه ضرب البيانو.
فاهتز «عبده» غضبًا: بتقولي إيه.
وضحك «سليم» ضحكة صفراء وقال «لعبده»: سامع، هو يعلمها الغنا، وهي تعلمه البيانو … شيء جميل خالص.
فالتفتت إليه «زنوبة»، وحدجته طويلًا بنظرةٍ فهِم معناها، وأراد أن يستدرك … فقال متظاهرًا بالنزاهة والنصح: طبعًا قصدنا كله مصلحته، علشان المذاكرة بس … و… وأهله … و…
فصادَق «عبده» على كلامه برأسه، بينما عيناه تائهتان في الفضاء … وفي هذه اللحظة أحس الاثنان بالاتفاق المتبادل يعود بينهما، ذلك الاتفاق القديم الممزوج بالصفاء.
•••
خلع «محسن» ملابسه، ودخل سريره، وانزوى بين أرجاء الناموسية المسدلة عليه ينشُد الوحدة والحرية اللتين لا يحسِنهما إلا من كانت له حجرة خاصة.
ولأول مرة شعر «محسن» بسوء تلك المعيشة: خمسة أشخاص في حجرة واحدة، لأول مرة أحس الحنق على تلك المعيشة المشتركة، التي كانت دائمًا منبع هناء وصفاء وغبطة للجميع، له ولأعمامه و«لمبروك» الخادم: أي «للشعب»، حسب كلمتهم المتعارف عليها.
أخفى «محسن» رأسه تحت الأغطية، يريد أن ينسى صوت رفاقه البارد القاسي، حتى لا يصغي إلا لصوت «سنية» الحلو الموسيقي الساحر … وجعل يذكر ويستذكر حوادث ذلك النهار السعيد.
لم يهمل «محسن» شيئًا حتى التفصيلات الزهيدة، ولم يترك حتى ما لا تعيه الذاكرة عادةً من أشياء وحركات وكلمات تافهة، طفق يستعرض في مخيلته كل شيء له صلة بحادث اليوم. ولبث أخيرًا يذكر ويتأمل: كيف كان إعجاب «سنية» وحماستها وقتما انتهى من الغناء! وتلك الابتسامة التي نظرت إليه بها وهي تقدم له كوبًا من شراب الورد مكافأةً له، كما كانت تقول، وتلك الأيدي والأنامل التي قدمت الكوب، وتلك البسمات اللذيذة، والنواجذ، والنظرات، والأهداب.
وأقفل «محسن» عينيه كي يراها.
ثم طلب النوم علها تبدو له في حلم، ولكن هل يستطيع النوم تلك الليلة والقلب يقظان كأنه إله؟
هرب النوم من عين «محسن»، وعلم أنه لن ينام في ليلته تلك، إلا إذا أذنت هي له، وتذكَّر قول «مهيار الديلمي»: