الفصل السادس
إن صبر «عبده» و«سليم» له حدود، وغدت محاولات «زنوبة» — في تهدئتهما وتصبيرهما — لا فائدة منها؛ فقد صمَّما أخيرًا على عدم انتظار مبروك، وقاما إلى مائدة الأكل في تذمُّر وهياج، وصاح «عبده» في لهجة عصبية آمرًا «زنوبة» أن توقظ في الحال «حنفي» و«محسن»، وأن تغرف العشاء بلا توانٍ.
وما كادت «زنوبة» تمتثل وتخطو نحو غرفة النوم، كي توقظ النائمين، حتى فتح باب الفسحة الخارجي وظهر «مبروك» يلهث كالكلب التعِب، ويقول بين أنفاس متقطعة: آه … آه … انقطع نفَسي خلاص من المشي واللف، يا مسلمين!
فالتفت إليه «عبده» و«سليم» في دهشة، وسأله «عبده»: ما لك كده؟ … كنت فين؟
فأجاب «مبروك» بصوت المحتضر: الهدهد اليتيم.
فوضع «سليم» يده على أذنه مستفهمًا: إيه؟
فقال «مبروك» بصوت المتأوه: الهدهد اليتيم، حسبنا الله ونعم الوكيل في دي الهدهد، اليتيم … يا عالم … يا ناس!
ووقفت «زنوبة» في مكانها وقد دهاها الخوف، وأخذت تنظر خُفيةً إلى «عبده» الذي قطَّب جبينه وسأل «مبروك» في لهجة جافة: الهدهد اليتيم إيه، أنا مش فاهم حاجة منك أبدًا.
والتفت إلى «سليم» قائلًا: وانت فهمت منه يا «سي سلیم»؟
ففتل «سليم» شاربه، ووضع أصبعه على جبهته، وقال: لسه قاعد افتش في عقل بالي عن دي اللغز!
وتمالكت «زنوبة» نفسها، وجعلت تشير إلى «مبروك» خُفيةً، كي يمتنع عن الكلام؛ لكن «مبروك» لم يفطن لإشارتها على ما يظهر؛ فقد أخذ يفرك ركبتيه ويقول: آه يا ركبي! من العصر وحياة دقن النبي، وأنا داير أجرى من الحسينية، للقلعة، لزينهم، للدراسة.
ثم رفع رأسه والتفت إلى «زنوبة» وقال: كل ده علشان خاطرك وخاطر — بلا قافية — الهدهد اليتيم … سألت في البلد كلها، مالقيتش إلا هدهد واحد، ولا اعرفش بقا إن كان يتيم والا مش يتيم … ماسألتوش … هو انا يا ست «زنوبة» افهم بلغة — من غير مؤاخذة — الطير؟!
ولم يفطن أيضًا لغمزات «زنوبة» التي تدعوه خُفيةً إلى السكوت أمام الحاضرين، واستمر يقول: القصد … وانا راجع قابلت الواد «بلحة»، صبي الجزار، قال: مالكش دعوة، هات ريال وانا اجيب لك حتة دين نتفة هدهد على ذوقك، يتيم من ابوه وامه، وإن عرفت له «فاميلية» ابقى رجعه وقول مايلزمنيش.
فقهقه «سليم» ضاحكًا وقال «لمبروك» وهو يغمز «عبده» بمرفقه كي يجعله يضحك أيضًا هو الآخر: أحسن طريقة تروح تبحث عنه في ملجأ الأيتام.
ولكن «عبده» لم يضحك، ولم يشأ أن يمزح ويهذر، بل ظل في عبوسه وخشونته متسائلًا: فهموني، إيه أصل الحكاية؟
ثم التفت إلى «زنوبة» وقال لها: هدهد يتيم إيه اللي انتي طالباه؟
فلم تُجِب «زنوبة».
فألقى «عبده» عليها نظرة مخيفة وصاح: برده السحر؟ مابطلتيش أمور السحر وضياع الفلوس في الكلام الفارغ؟!
فاستعادت «زنوبة» بعض رباطة جأشها، وقالت في احتجاج: سحر إيه، ماتقولش كده، دا دوا.
فقال «عبده» في غضب ممزوج بلهجة تهكم باردة: دوا؟!
فردَّت «زنوبة» بقوة: آي والنبي … دوا بصحيح، وصفه الحكيم.
فقهقه «سليم» ضاحكًا وقال: اضبط … دخلنا في الجد، أي حكيم بقا يا شاطرة يوصف هدهد؟! بدِّي أعرف اسمه إيه الحكيم ده … أظن كتب لك على التذكرة هدهد؟ أستغفر الله: هدهد يتيم! أيوه لازم يكون يتيم؛ إلا لو كان والدته أو والده ما زال على قيد الحياة يفسد مفعول الدوا؟
وعندئذٍ صاح «عبده» ﺑ «زنوبة»: مستحيل فلوس تبقى في إيدك بعد النهارده، مستحيل … خلاص كفاية، مانقدرش نطيق الحاجات دي، أكل زي الزفت، وفلوس ضايعة في السحر فلوسنا ضایعة، ميزانيتنا رايحة كلها في السحر للعرسان.
فانفجرت «زنوبة» صارخة، وقد أغاظها هذا الكلام: قطع لسان اللي يقول عليَّ كده … أنا أسحر للعرسان، فشر.
طيب والست الطاهرة إن ما سكتم عن الكلام ده مانا سائلة عنكم أبدًا … فلوسكم تاخدوها على الصرمة القديمة، وابقوا انتم دبروا واصرفوا واطبخوا وشوفوا شغل البيت … والنبي ما احط إيدي في حاجة … لما اتفرج حاتعملوا إيه من غيري، دنا لولاي لكانت بقت هلاهيلكم بين رجليكم!
فاشتد غضب «عبده» وهياجه العصبي، وصاح بصوت هائل: بتقولي إيه، فاهمه حضرتك إنك تهددينا؟ طيب أقسم بالله العظيم ما انتي طابخة ولا غارفة، هاتي الفلوس اللي عندك حالًا، ردي لنا باقي مصروف الشهر اللي عندك حالًا … مش عايزين إدارتك … خلاص. إحنا نعرف شئونَّا، هاتي الفلوس.
فقالت «زنوبة» من بين أسنانها: حاضر، على عيني، والنبي بركة من الله، راحة دماغ، حد يكره راحته، حاضر، دلوقت أسلم لكم اللي باقي لكم عندي.
وفي الحال اتجهت إلى حجرتها ودخلتها.
وعندئذٍ التفت «عبده» إلى «سليم» في قوة، وقال: تغور … أحسن لنا ألف مرة … مش موافق؟
فأجاب «سليم» في لهجة هذر، وهو يفتل شاربيه: موافق جدًّا، أكْلنا بالحق كان بطَّال جدًّا، وحكومتنا العزيزة بسلامتها مفرقة الميزانية في شئونها الخصوصية، والكلام الفارغ.
فأضاف «عبده» بسرعة، وهو حافظ لوجهه الجدِّي: دا شيء يجنن ويغيظ، سايبانا جعانين نشتهي اللقمة، مش لاقيين حتة لحمة.
فقال «سليم» مكملًا: وان غلطت يوم واشترت وزة، لازم نقعد ناكل فيها شهرين.
وكان «مبروك» في تلك الأثناء متكئًا بذراعه على طرف المائدة، يشاهد في صمت ما يجري أمامه؛ كما يشاهد فرد من عامة الشعب رواية عالية الأسلوب.
وحانت من «عبده» التفاتة إليه، فسأله في الحال: وانت يا «مبروك» ساكت ليه؟ مش موافق؟
فصحا «مبروك» من جموده، وفرك عينيه، وأجاب: والله مانا عارف … داهية تلعن أبو الهدهد اليتيم، كل ده من تحت راس شوشته … لكن بقا مفيش لزوم تزعلوا ست «زنوبة».
فصاح به «عبده»: ماتبقاش مغفل انت كمان، عايزين منك كلمة ورد غطاها: تحب تاكل كويس والا وحش؟ … آدي المسألة.
فأجاب «مبروك» على الفور: لا وحياة سيدي «زينهم»، أحب آكل كويس.
فابتسم «سليم» وقال بسرعة: طبعًا.
ثم اتخذ وجهه هيئة الجد بغتة، ونبَّه «عبده» بيده مقترحًا: واجب علينا كمان نقول للباقيين.
فصادَق «عبده» على رأيه بحركة من رأسه، ونهض في الحال وسار متجهًا إلى غرفة النوم، كي يخطر «حنفي» بالانقلاب الجديد، الطريقة المثلى والمجربة لإيقاظ «حنفي» سريعًا سهلة ومعروفة لدى الجميع. أن يجذب اللحاف من فوقه دفعة واحدة، ثم يصرخ في أذنه صرخة مستطيلة؛ لذلك لجأ «عبده» مباشرة إلى تلك الطريقة بدون أن يضيع وقتًا في مقدمات لا تفيد، وتحرك «حنفي أفندي» أخيرًا، وهو يزمجر ساخطًا: يا خلق، يا هوه، أنا في جاه النبي، يعني إن نعست لي شوية حرام؟ أنا اشتغلت خمس حصص النهارده يا ناس!
فقال: «عبده» بصوت ثابت: اصحا، قوم يا «سي حنفي» اسمع الخبر المهم؛ أصبح الآن في حكم المؤكد أن الحكومة مضيعة الميزانية في شئونها الخصوصية الفارغة، فتثاءب «حنفي»، وقال وهو مغمض إحدى عينيه: وأنا ما لي، أنا ماليش في السياسة.
فقطب «عبده» وجهه، وقال في جفاء: إزاي؟ بصفتك كبير البيت.
فأقفل «حنفي» عينه الأخرى، وقال بصوت متراخٍ، وفي عدم اكتراث: وفي أي جريدة الخبر ده.
فقال «عبده» في شيء من الدهشة: في أي جريدة ازاي! لأ … لأ … دا مش في الجرايد، أنا قصدي على حكومتنا هنا في بيتنا، كلامي على «زنوبة».
فتقلب «حنفي» في فراشه، وأدار ظهره «لعبده»، وقال وهو يحاول العودة إلى النعاس: طيب بقا اعتقني لوجه الله الكريم.
ثم لفظ من أنفه غطيطًا ثقيلًا يؤذن ببدئه الفعلي للنوم، وحاول «عبده» أن يمنعه بكل قوته، فأزال عنه الغطاء مرة أخرى، وهزه من كتفه هزًّا عنيفًا، وهدده جديًّا بسكب كوب ماء بارد على دماغه إن لم يستيقظ في الحال … بالاختصار استعمل معه كل الإجراءات الشديدة التي تتبع ضده عادة في مثل هذه الأحوال، وأخيرًا لم ير «الرئيس شرف» بُدًّا من النهوض، فقام في فراشه نصف قيام، وهو يدمدم ويزمجر ويصخب ويلعن … فلما اطمأن «عبده» على نهوضه وعلى هرب النوم من عينيه، تركه واتجه إلى سرير «محسن».
ولكن ما كاد يقترب منه حتى سمع فجأة صوت شجار يرتفع في الفسحة، وعرف فيه صوت «زنوبة»، فغادر في الحال حجرة النوم وذهب إليها توًّا سائلًا في خشونة: فين الفلوس؟
فلم تُجِب «زنوبة» ولم تتحرك.
وأشار «سليم» إلى مبلغ جنيه فوق المائدة، وقال: تفضل، آدي كل اللي باقي.
فنظر «عبده» إلى الجنيه، ثم نظر إلى «زنوبة» وصاح في صوتٍ أجشَّ: مش ممكن! النهارده ١٩ في الشهر! فاضل ١٢ يوم … جنيه واحد رايح يكفي ١٢ يوم، دا كلام فارغ.
فلم تُجِب «زنوبة»، وكأنما كانت تكتم ما بها من غيظ، تحت ستار الهدوء، وأخيرًا قالت في برود: مش مصدق؟ انت حر، أهو مش باقي لكم طرفي إلا ده، إن كنت مكدبني تعال فتش.
فأشار «سليم» خُفيةً إلى «عبده» أن يقترب منه، وهمس له في أذنه محرضًا: أيوه نفتش.
ولمح ذلك «مبروك» وكان قريبًا من «سليم»، واستطاع أن يشرئب بعنقه ويسترق السمع، فعرف قول «سليم» فتنحنح وهمس هو الآخر، كأنما يخاطب نفسه: والله «سي سليم» ما حيلته غير التفتيش.
ثم أردف قائلًا بصوت عالٍ: صلوا على النبي أحسن، مفيش لزوم، وكفى الله الشر، واللي مكتوب على الجبين تراه العين ولو بعد حين … مش من غير مؤاخذة جنيه واحد؟ … الحمد لله، قسمتنا، حانعمل إيه، آدي السما وآدي الأرض.
فنظر إليه «عبده» طويلًا نظرة غريبة، ثم كأنها هبطت عليه فجأة فكرة من السماء، فوضع بسرعة يده على كتف «مبروك» وقال بصوت ثابت مفكر رصين: اسمع يا «مبروك»، الله الغني عنها، خلي معاك المصروف، إنت تكون حكومتنا من الآن فصاعدًا، فاهم … إنت … لأن معاك على الأقل مفيش خوف من التبذير، وضياع الفلوس في الهلس الفارغ.
فألقى الخادم نظرة استفهام أو استئذان سريعة على «زنوبة»، ثم قال في حيرة وارتباك: لكن … بس.
فقطب «عبده» حاجبيه وقال: إيه؟ … لكن بس إيه؟ شايف المبلغ قليل؟ قصدك يعني مستحيل نعيش بالجنيه لآخر الشهر؟ لكن ما هو ده المشكل اللي انت رايح تخرجنا منه بحسن تصرفك، دي عبقريتك، مش انت حكومتنا؟ تصرَّف، فاضل ١٢ يوم على آخر الشهر. فوِّتنا من الأيام دي على خير … اعمل معروف، أكِّلنا زي ما توكِّلنا، الغرض إن مبلغ الجنيه ده يكفي لغاية آخر الشهر ولا نحتاجلوش «زنوبة».
فلفظت «زنوبة» ضحكة تهكم وغيظ، ثم أدارت ظهرها لهم، وقالت من بين أسنانها: الله يسهل لكم، يا بختي براحة بالي … الحمد لله يا جامع، جات منكم ما جات مني.
ثم اتجهت بسرعة إلى حجرتها ودخلتها، وأقفلت وراءها الباب في ضجة وعنف، فنظر «عبده» إلى الباب المقفل وضجته التي أصمَّت الآذان وقال بغضب: في ستين داهية.
ثم التفت إلى «سليم» و«مبروك» واستطرد: مش خلاص اتفقنا.
فوافق «سليم» في تحمس: اتفقنا.
ثم ضرب على كتف «مبروك» وقال: فليحيا «مبروك»، يعيش «مبروك»، بطوننا معتمدة على الله وعليك يا «مبروك أفندي».
ولكن «عبده» تدخَّل في الحال صائحًا وقال: مش الأيام دي يا حبيبي، من هنا لآخر الشهر اعمل حسابك على الصوم والقناعة … جنيه واحد مش راح يكفي طبعًا، اسمع يا «مبروك» … اعمل المستحيل، أكلنا الأيام دي كل يوم عدس زي المراكبية، والا جبنة قريش وعيش درة، زي الفلاحين، والا فول مدمس وسلطة وطعميه زي.
فأضاف «سليم» بسرعة: زي المجاورين.
واستطرد «عبده» في جد: أيوه يا «مبروك»، اعمل زي ما تشوف … تصرف، الغرض كله الجنيه يكفي لآخر الشهر، ولا نموتش من الجوع بمبلغ زي ده، خد يا «مبروك»، امشي بالحساب والعقل والتدبير، إنت مش محتاج لوصاية.
ثم دفع إليه الجنيه.
فأخرج «مبروك» من جيب جلبابه كيسًا كبيرًا من القماش بلون العنتري الذي يلبسه؛ كأنما كان فضلة من قماش العنتري فصلها كيسًا.
وبعد أن دس فيه الجنيه وأعاده إلى جيبه قال: ببركة الست ام هاشم، ولا يكون عندكم خوف، المؤمن ما يموتش جعان … صلوا على نبينا اللي قال: «من توكل على الله كفاه.»