الفصل السابع
ذهب «محسن» إلى المدرسة في اليوم التالي ووجهه يطفح هناء، والانشراح يكاد يثب من صدره، وخُيل إليه وهو في الترام في طريقه إلى المدرسة، أن الله لم يخلق صباحًا أجمل من ذلك الصباح، ومر الترام بميدان «لازوغلي»، وبتلك الأشجار الوارفة حول التمثال، وصوت العصافير وحركتها بين الأغصان، وصوت الحدأة والصقر يرفرف كلٌّ بجناحيه في الفضاء، عجبًا، كل ذلك يراه اليوم ويسمعه ويسترعي اهتمامه، وهو الذي مر بذلك المكان مئات المرات قبل اليوم فلم يرَ شيئًا، أترى الدنيا قد تغيرت منذ ذلك الصباح، أم أنه هو الذي تغير وأصبحت له عيون أخرى؟
ودخل «محسن» فناء مدرسته، وهو يريد أن يكلم كل إنسان يقابله ولو كان فراشًا، غير أنه دهش؛ إذ وجد المكان خاليًا، أتراه أتى مبكرًا جدًّا ذلك اليوم؟ نعم، فساعة الحائط بحجرة الضابط دقت السابعة في تلك اللحظة.
وجعل «محسن» يسير ذهابًا وإيابًا في أرجاء المكان وهو يحلم بأشياء جميلة، وأحيانًا يضغط الفرح على قلبه فإذا هو يجري قافزًا إلى السلم الكبير في مرح غريب، ثم ينزل منه واثبًا إلى الأرض ويتجه إلى «المرشح» كأنما يريد الشرب، ولكنه لا يشرب؛ بل يتجه إلى قاعة أخرى، ومنها إلى ثالثة ورابعة.
لا شك لو رآه أحد من عارفيه في تلك اللحظة لدهش ولأنكر أنه «محسن».
وأخيرًا سكن جأشه قليلًا، لكنه أخذ يستبطئ زملاءه وعلى الأخص صديقه الحميم «عباس».
كان «محسن» بالنسبة إلى من في سنه رزينًا عاقلًا، لا يميل كأغلب أقرانه إلى الألعاب الصبيانية. فقلما كان يُرى جاريًا قافزًا، كل ملاهيه وألعابه فكرية لا مادية، ألذ أوقاته ما كان يقضيها في المناظرة ومطارحة الشعر مع «عباس» ومن يتفق معهما في طبيعتهما الروحية؛ لذلك كان مظهره أكبر من عمره، وكانت له هيبة المسن بين تلاميذ الفصل الدائبي الهذر والضجيج، كذلك عرف أساتذته ذلك فيه، فعاملوه معاملة ممتازة، وقد تنبئوا له بحظ باهر في نتيجة الكفاءة ذلك العام.
كان «محسن» لا يحب كثرة المخالطة، ميالًا للوحدة في المدرسة. لعله كان يحتقر ذلك الصنف النزق من الشباب … إن أغلب التلاميذ كانت تحترمه، وتحب الإصغاء إليه وهو يتكلم، وكثيرًا ما كان التلاميذ يلتفون حوله وحول «عباس»، كلما لمحوهما بجوار الجدران يتناظران تحت السلم الكبير حيث اللقاء المعتاد بينهما في فسحة الظهر، إلا أن «محسن» نفسه ما كان يصاحب أحدًا خلاف «عباس»؛ لأنه يجد فيه طبيعة تماثل طبيعته، ثم شيئًا أهم: إيمانه بمحسن وإخلاصه له، واعترافه الصامت بما «لمحسن» عليه من تأثير في أفكاره وذهنه.
جعل «محسن» ينتظر قدوم عباس برغبة متوثبة لا يدري سببها، أتراه يود الإفضاء إليه بشيء، وهل يستحق هذا؟ وهل يصح؟ نعم «عباس» صديقه الحميم، لكن هل هو خليق بفهم هذه الأشياء؟ وبصرف النظر عن هذا أيضًا، هل يملك «محسن» حق إفشاء أمر لا يخصه وحده؟
ولكنه يريد الكلام هذا الصباح، يريد أن يخفف من وقر ما يحس به.
وهدأ مرة أخرى. لكنه لمح عددًا من التلاميذ يدخلون الفناء، فأسرع إليهم مسلِّمًا ومحدِّثًا بلهجة مرحة، يباسطهم ويضاحكهم، والكلام يزدحم في فمه؛ مما دهشوا له منه، وجعلوا ينظرون بعضهم إلى بعض، وهو الذي يُعرف بعزلته عنهم، وبأنهم هم الذين يسعون إليه، يخرجونه من سكوته، أخيرًا ظهر «عباس»، فلم يكد يراه «محسن» حتى ترك من كان معهم، وانطلق نحوه وجذبه من ذراعه، وانتحى به ناحية أخرى، غير جدار السلم الكبير، حتى لا يحسبها الآخرون مناظرة أو مطارحة، فإذا هم يهرعون يشاهدون.
أخذ «محسن» يسأله عن سبب إبطائه وتأخيره، في لهجة اهتمام دهش لها «عباس»، ولكنه أجاب بكل بساطة، إنه في ميعاده ولم يتأخر قط، ولكن «محسن» ألح وأكد معلقًا أهمية.
فأجابه «عباس» مؤكدًا هو الآخر: أبدًا يا أخي، إنت اللي يظهر جيت بدري النهارده، ولكن «محسن» استمر يقول في صوته المتحمس غير المعتاد: أبدًا، إنت تأخرت.
فازدادت دهشة «عباس»، غير أنه اكتفى بأن أجاب: طيب … وإيه اللي جرى؟
فسكت «محسن» في الحال، ووقع في حيرة وارتباك، وذهب عنه تحمسه، ولم يجد ما يقوله ردًّا، وطال سكوته إلى أن أحس أن «عباس» ينتظر، وينظر إليه في دهشة، فتضاحك فجأة واتجه إلى صديقه يفهمه أنه أراد المزاح.
وجعل يثرثر ويضحك، محاولًا تغيير الموقف، يتكلم في كل موضوع بسرعة، وينتقل من مناسبة إلى مناسبة بغير مناسبة؛ كأنه يريد مجرد الكلام، مجرد القذف بنفسه في الثرثرة، مجرد قيء ما يثقل معدته من أشياء فارغة … حتى يخفف عن ضغط القلب … والتفت إليه «عباس» بغتة، وقد شعر بحالته العصبية من طريقة كلامه المتدفق المتحمس، فسأله قائلًا: «محسن»! … ما لك النهارده؟
فنظر إليه الفتى نظرة استطلاع وخوف، وقد احمر وجهه، ثم قال مترددًا: ولا حاجة.
وفي الحال حول مجرى الحديث إلى موضوع آخر عادي، لكن في هذه المرة اجتهد أن يتكلم بصوت هادئ معقول … صوته المعتاد، وهكذا طفق الاثنان يتحدثان لحظة في الدرس والمذاكرة وحصص اليوم إلى أن صاح «عباس» فجأة متذكرًا: الله، النهارده إنشا شفوي عربي، فاكر؟
فسأل «محسن» بلهجة آلية: أي حصة؟
وكان في تلك الأثناء قد ترك فكره يسبح إلى أفق بعيد، فأجاب «عباس» غير شاعر بلهو «محسن» عنه: الحصة السادسة، آخر النهار.
فلم يُجِب «محسن» إذ طغت السعادة على صدره مرة أخرى، فود لو يستطيع الانطلاق، أو الطيران، أو الوثوب، أو الكلام.
واستطرد «عباس» يقول، وهو يحسب صاحبه يسمع له: يا ترى الدور على مين؟ «الشيخ» بيختار الاسم من الدفتر قدامه، يا رب ما ينادي اسمى النهارده. أنا ماحضرتش موضوع.
لم يجبه «محسن» على ذلك، ولكنه فجأة قال: «عباس» … الحياة جميلة.
فنظر إليه «عباس» مبغوتًا، ولكن «محسن» استطرد غير مبالٍ به: تعرف يا «عباس» إيه هي السعادة اللي بنسمع عنها؟ إن كنت جدع صحيح تقول إيه هي السعادة؟
فردد «عباس» دهشًا: السعادة؟ … أنا عارف؟!
فقال له «محسن» بقوة: ماتعرفش إمتى تكون سعيد؟
ففكر «عباس» لحظة ثم قال: يوم ما أنجح في الكفاءة.
فظهر على وجه «محسن» شيء من خيبة الأمل والغيظ والازدراء. وقال من بين أسنانه لصديقه «عباس»: إنت مغفل.
وهنا دق جرس الدخول إلى الفصول، فانطلقا إلى الطابور وبنفس «محسن» رغبة في أن يتحدث في هذا الموضوع نهارًا بأكمله، أما «عباس» فقد عجب لرد «محسن» الأخير، وود لو يعلم منه لماذا هو مغفل.
وأخذ التلاميذ مقاعدهم في الفصل. وكان عباس، يجلس في تختة خلف تختة «محسن»، فلم يطق صبرًا على الانتظار، وأخذ يهمس سائلًا: «محسن» لماذا هو مغفل؟ ولكن «محسن» أشار إليه بالسكوت، واعتدل في جلسته يستقبل الدروس في بِشر ونشاط زائدين على المعتاد، وبسرعة بديهة في الإجابة عن الأسئلة، وفي فهم الغامض منها، وبتحمس وقوة عجب لها المدرس وسُرَّ بها.
•••
جاءت فسحة الظهر، واجتمع «محسن» و«عباس»، بجوار الجدار تحت السلم الكبير، وأراد «محسن» أن يلقي شعرًا في الغزل، وأحضر معه خصوصًا «ديوان مهيار» الذي يحبه، ولكن طلبة الفصل منذ الحصة الرابعة، اشتغل فكرهم بمسألة اختيار القسم الذي سيلتحقون به بعد الكفاءة. وقد أثار تلك المسألة، مبكرًا عن ميعادها عادة، مدرس الرياضة اليوم في حصة الجبر؛ لذلك ما كاد التلاميذ يرون «محسن» و«عباس» في موقف المناظرة والمطارحة، حتى طرحوا على «محسن» السؤال الآتي: إنت رايح تختار أي قسم: الأدبي أو العلمي؟
فما تردد «محسن» في أن قال: الأدبي طبعًا.
ولكن «عباس» تردد قليلًا: أنا أحب القسم الأدبي، لكن والدي عايزني أكون حكيم.
فجذبه «محسن» بقوة نحوه وقال: اسمع كلام نفسك انت وميلك.
ثم أخذ يتكلم قائلًا: إنه لم يختر طريقه اليوم فقط، بل إنه منذ الطفولة يشعر إلامَ يتجه ميله الغريزي … ثم تناول ذراع «عباس»، وضغط عليه بشدة قائلًا: «عباس»، إنت لازم تدخل أدبي زيي، لازم أدخلك أدبي زيي.
وهنا اعترض أحد الحاضرين من التلاميذ قائلًا: وإيه مستقبل القسم الأدبي؟
فالتفت «محسن» إليه وقال: قصدك من جهة المال والثروة، أنا مايهمنيش المال والثروة.
فسأله آخر مستطلعًا: أمال إيه اللي يهمك؟
فأشار «محسن» إلى نفسه، وإلى «عباس» وقال في تفاخر الشباب وغلوائه: بكرة احنا اللي نكون لسان الأمة الناطق.
ونظر إلى «عباس» كأنما يزيده تشجيعًا وتأكيدًا، وأراد أن يستمر، ولكن خطرت له عبارة برقت لها أساريره، عبارة تعتبر لمثله ولمن في سنه ومعلوماته وحيًا، فاندفع قائلًا: «عباس»، وظيفتنا بكرة حاتكون التعبير عما في قلب الأمة كلها، فاهم؟ يا سلام، لو تعرفوا قيمة القدرة على التعبير عما في النفس، التعبير عما في القلوب؟
وفكر قليلًا، ثم قال وقد لمعت عيناه بفكرة أخرى: فاكرين الحكمة اللي في كتاب المحفوظات «المرء بأصغريه قلبه ولسانه»؟ الأمة كذلك لها قلب يهدي، ولسان يدير القوى المادية اللي فيها. المال وحده مش حاجة.
وأخذ يفيض في الكلام بتدفق وتحمس حول هذا المعنى.
•••
دق الجرس ودخل التلاميذ حصص بعد الظهر. وجاءت الحصة السادسة، وقد اشتد شوق «محسن» إلى الخروج؛ كما اشتدت عاطفته اتقادًا، وظهر «الشيخ علي» بلحيته الكثة وهيئته الوقورة فقام له التلاميذ احترامًا ثم جلسوا بجلوسه. وأخذ يجيل بصره في الحاضرين، ثم فتح دفتره، وعندئذٍ جعل الطلبة الصغار يتبادلون النظرات فيمن سينادي اسمه، ليلقي على السبورة ارتجالًا موضوعًا إنشائيًّا يختاره بنفسه، وارتجف بعضهم من كارهي الحصة، وتعلقت أنفاسهم والمدرس يُصعد نظره ويهبطه في عمود الأسماء أمامه، كلٌّ يخشى أن يسمع اسمه.
وأخيرًا نطق المدرس فإذا الاسم: «محسن»، وإذا هو ينظر إلى «محسن» ويأمره قائلًا: يا «محسن» اصعد إلى السبورة.
فاطمأن التلاميذ وسُرُّوا بهذا الاختيار. ولم يتردد «محسن»، بل نهض في الحال، وذهب إلى السبورة، وعندئذٍ قال له المدرس آمرًا: يا «محسن» انتخب موضوعًا، ثم تكلم فيه.
فوقف الفتى حائرًا مترددًا، إنه لم يحضِّر موضوعًا ما وليس في ذهنه الساعة شيء. وطال وقوفه وتردده، فقال المدرس بلهجته المتئدة: اكتب رأس الموضوع على السبورة، ثم قسِّمه إلى نقط كالمعتاد.
فقال «محسن» في نفسه: «وانا عارف إيه الموضوع»؟ وفجأة خطر له خاطر احمرَّ وجهه له، وطرده من فكره في الحال، لكنه لم يلبث أن عاد إليه، ولا يدري أي شجاعة في تلك اللحظة، وأي قوة كانت تدفعه إليه، ولعل شعوره القوي الساعة أقنعه أنه لا يستطيع الكلام الآن بإسهاب أو لذة، إلا في هذا الموضوع، وتناول في الحال الطباشير، وكتب بحركة اندفاع عنيفة: رأس الموضوع: «الحب».
ما كادت تظهر هذه الكلمة على السبورة، حتى هاج الفصل وماج، ودهش المدرس من انقلاب الفصل أمامه، ولم يدرِ بعدُ سببه، فدقَّ بقلمه فوق منضدته طالبًا السكوت وهو يصيح بهم: خبر ايه؟
ورأى أنظارهم متجهة نحو السبورة، فالتفت إليها هو الآخر، ورأى كلمة «الحب» فلم يتمالك أن صرخ مستنكرًا: الله الله! ما شاء الله … امشِ انجر اقعد محلك، بلاش قلة حيا ومسخرة.
وبُهت «محسن» قليلًا لأنه لم يعتد هذه المعاملة من مدرسيه، فوقف مرتبكًا حائرًا، ولكنه لم يفقد تلك الثقة والقوة التي دفعته إلى كتابة تلك الكلمة الجريئة، أمام طلبة مساكين اعتادوا أن يسمعوا كلمة العلم والمذاكرة والتحصيل والمثابرة، ولكنهم لم يسمعوا كلمة «الحب» ولا «الشعور» ولا «القلب»، وإن سمعوها فمحرَّف معناها إلى المقصد الدنيء، كأنما الحياة ليس فيها غير شيئين لا ثالث لهما: العلم، والفساد. فالعلم عندهم مرادف للمذاكرة والنجاح في الامتحان، والفساد مرادف للحب والقلب، وكل ما خرج عن مواد الامتحان هذه هي الفضيلة والرذيلة كما تلقن لهؤلاء الصغار.
ورأى: «الشيخ علي» وقوف «محسن» وارتباكه وتأدبه برغم ذلك، وذكر سمعته الطيبة وأخلاقه المعروفة عنه، منذ مجيئه السنة الماضية إلى تلك المدرسة، فتلطف المدرس قليلًا؛ لكنه قال في لهجة لا تخلو من العتب القارص: جرى لك إيه النهارده؟! اتجننت؟
فلم يُجِب «محسن»، ومرت برأسه فكرة ثائرة ضد هذا «الشيخ» الذي لا يفهم أكثر مما يفهم أي واحد من أولئك التلاميذ، وخُيل إلى «محسن» أنه يرى ويحس أشياء عظيمة … عظيمة جدًّا، لن يراها واحد «كالشيخ علي».
نظر «الشيخ علي» في دفتره، لينتقي طالبًا آخر غير «محسن»، ولكن الفصل بالإجماع تشجع وقال في تحمس غير معتاد: عايزين الموضوع ده! عايزين الموضوع ده! تكلم يا «محسن»، قل يا «محسن».
ونظر «محسن»، إلى الفصل، فأدرك أن هذه الكلمة قد أثارت حب استطلاع كبيرًا عند هؤلاء الجهلاء الصغار، وأن هؤلاء التلاميذ ليبدو عليهم التعطش لموضوع كهذا، رأى «محسن» صاحبه «عباس» على الأخص في رأس المطالبين، يلوح بيديه إلى صديقه، وعلى وجهه ابتسامة الذي كاد يفهم، وتنقشع عن عينيه سحب.
عندئذٍ تشجع «محسن» وعزم على الكلام بأي ثمن، ولكنه رأى هيئة «الشيخ الحنبلي» أنه لا حيلة معه.
وهنا خطر «لمحسن» خاطر يدل على ذكاء … فتناول في الحال الطباشيرة، وكتب تحت كلمة «الحب» هذه السطور: وينقسم الحب إلى ثلاثة أقسام: حب الله عز وجل: وهو حب الخشوع والاعتراف بالفضل، وحب الوالدين: وهو حب الدم، وحب الجمال وهو: «حب القلب».
وهلل الفصل، وفي مقدمته «عباس»، طالبين موافقة «الشيخ» على الموضوع؛ إذ هو أدبي محض، والتفت الشيخ إلى السبورة مرة أخرى بعد أن وضع منظاره، وجعل يقرأ القسم الأول، ثم الثاني بصوت فيه رنة القبول والموافقة، ولكنه ما بلغ القسم الثالث حتى عاد فحزن وتوقف، ونظر إلى «محسن» وقال: اشطب نمرة تلاتة.
فتردد «محسن» قليلًا، ولكن «الشيخ علي» لم يلن، ولم يتراخَ في هذه المرة، برغم احتجاج الفصل وتوسلاته، وأخيرًا لم يرَ «محسن» بدًّا من شطب القسم الثالث؛ غير أنه صمم في سره أن يتكلم عنه خلال كلامه عن القسمين الأولين؛ كأنما هو يقارن بين العلل والأسباب.
وهكذا رضي «الشيخ علي» بإثبات كلمة «الحب» على السبورة … وهكذا اندفع «محسن» يتكلم والفصل مُصْغٍ إليه في هدوء وانتباه، لم يسبق لهما مثيل في أي حصة طول السنة، وكان «محسن» كلما عرج على موضوع القلب تذمر «الشيخ علي» وزمجر ودمدم كالقط إذا لمح فأرًا، ولكن الفصل كان يُقبل بعيونه وأسماعه مسددًا النظر إلى «محسن» ومخارج ألفاظه في لذة وفرح عجيبين؛ كأنما هم حقيقة يستفيدون شيئًا، بل أكثر من ذلك … أكثر من ذلك بكثير؛ كأنما هم يسمعون شيئًا يحسونه كلهم دائمًا، ولكنهم ما كانوا يجرءون على التعبير عنه، أو أنهم كانوا يجهلون ما يحسون، يجهلون وجود الجمال في العالم، ويجهلون وظيفة القلب في كيانهم، ويجهلون المعنى الأسمى للحياة.
شعر «محسن» بذلك فيهم … كما شعر بأن سر انتباههم العجيب إليه، وسرورهم الهائل المنبثق من عيونهم به وبما يقول لهم، إنما مصدره شيء واحد: «أنه هو يعبر عما في قلوبهم.»