دفاع عن الشعر
دخل عليَّ صاحبي وأنا أقرأ: «إذا ألقت العبودية عصاها في أمةٍ عَميت هذه الأمة عن خيرها وشرها، وسارت في حياتها كما تسير قطعان الضَّأْن، لا تسمع إلا رنين جرس الكبش الأول، عينها في الأرض وفمها في منابت صغار الحشائش، وعصا المستعبِد فوق كتفه يَهُشُّ بها عليها كلما رأى انحرافًا عن الخطة المرسومة لها في حدود رعيها.»
فقال صاحبي: «ما هذا الكلام؟» قلت: «هذا ليس كلامًا فحسب. هذا شعر، وإن شئت فقل: هو شعر منثور!»
فتعجب صاحبي وتساءل: «ومن أي كتاب أو ديوان هذا، عافاك الله؟» قلت: «هو من كتاب «في ظلال الحرية» للدكتور محمد بديع شريف، أو من ديوان شعره المنثور؛ فقد جمع في بيانه بين الجزالة الموسيقية والعاطفة القوية ودقة التصوير، وزان كل هذا برسالة مثالية هي رسالة الحرية في وقت قلَّ المنافحون عنها بين الأدباء والشعراء بل ندروا، وجبُنَتْ حتى هذه القلة النادرة عن التعبير عن خواطرها والإفصاح عن إيمانها في الوقت الملائم الحاسم … لا تعجب إذن عندما أخص مثل هذا الكاتب الشاعر باحترامي، وإذا ما احتفيتُ بشعره.»
طَوَيتُك كما تطوي بتيلات الزهور لونها في صدرها. طويتك خوفًا وأنت لا تدري فسمعت أنفاسَها تعج! … أنا أخاف عليك من وهج الشمس … أحبك في الظلام، وعندما يئن الليل، ويمشي الفقير مشردًا في الطرقات، لا مأوى ولا منأى! … أحبك في عبق الزهور وفوح الياسمين. أخاف عليك من كهْم النهار فأفرش أمامك الورود، وتفرش أمامي الأشواك! … ثم تغيب في ثنايا الليل، فأسمع الماضي يتقلب! … أَنظر إلى كتابي أمزقه وأنثر أوراقه، فتذوب بين أناملي؟ … لا أدري من أين أتيت! … من بلاد عبقر؟ ولا أدري إلى أين ذهبت! … أسراب في سراب؟ … أعطني يا إلهي قوتي … إن مناجاتك أضوتني … سمع هزيع من الليل فافترَّ عن ألف فم … وطلعت الشمس تصرع العشاق، وذوت الأزهار تندِف عصارة السَّحَر! …»
أحس اختفاقًا يزحف من قلبي إلى عيني! أحس تَلَبُّدًا ينسلُّ من دمي إلى صدري! أُحِسُّ صُخورًا تُجْبَلُ من عظامي تنحدر إلى أذني! أحس روحي ترهقني، تتمطى، تُحطِّمني! فيا رياح اغمريني! ويا يد الإله خلصيني! يا طبيعة اسحقيني! علَّني أعطي للزهور عطرًا، للأرض خِصْبًا، للفراشات لونًا! أحس في نحري اختفاقًا! خلصيني يا يد الإله! اصْلُبي قلبي غفرانًا لقلوب البشر!»
فإن هذا الشعر يعتمد على طاقته فحسب، لا على صنعة أو بَهْرَج أو موسيقى، وهو برهان على صدقية ما نادينا به من قديم عن كفاية اللغة العربية لخدمة الشعر المتجرد مثل كفايتها لخدمة الشعر المتدثِّر بالأزياء الجذابة من موسيقى وألوان وأضواء وظلال، فالشعر شعر في أية لغة بأحاسيسه وارتعاشاته وومضاته وخيالاته، وبحقائقه الأزلية ومثالياته.
وإذا قدرنا ألوان هذا الشعر المتجرد أو المرسل أو الحر أو الرمزي أو السريالي ونحوها، فليس معنى ذلك أننا نبخس الضروب الأخرى من الشعر حقها، أو ندعو إلى إغفالها، كما يدعو إلى ذلك بعض الأدباء الذين لا يقدِّرون أن ثروة أية لغة هي بمجموع آدابها، وأن الخير كل الخير في تنوع ضروبها، لا في حصرها. ومذهب الحصر مضاد للحرية، في حين أن الحرية هي صديقة الآداب والفنون، بل والمعارف عامة، فالإملاء على الشعراء والتحكم فيهم هو أولًا قتل لمواهبهم، ثم قتل للشعر وممكناته، ثم إفقار للغة وآدابها، هذا ما آمنتْ به «أمريكا» في ثقافتها، بل في جميع مرافق حياتها، فوثبتْ إلى الأمام وَثَبَاتٍ جبارةً، وتسلمتْ زعامة العالم الحر.
وهذا ما يجب على العالم العربي أن يحتذيه حتى تصير حرية الشعور والفكر والنظر فيه النبراس الوهاج للتقدم المنشود، وعلى ذلك فنحن إذا مجدنا هذا الضرب أو ذاك من الشعر فلسنا بغافلين عن مزايا الضروب الأخرى، ولا يمكن بأي حال أن ندعو إلى الحد من الحرية أو أن نحارب الإبداع، وإنما نحارب الضحل والفقر والرجعية والعجز التي تتظاهر بعكس حقيقتها وتجني على الأصالة والعبقرية ونحن لا نتحكم في ميول أي شاعر، وحسبنا أن يكون مخلصًا يهدي إلينا عصارة قلبه ونفثات روحه، ولا يكون مجرد صانع يلعب بالألفاظ والمعاني ويعبث بها وبالناس، فتتناثر هذه الرغوة البراقة وتتزايل على مر الأجيال، كما حدث لشعر كثير لم تسانده العاطفة الصادقة والإيمان الصحيح.
وإذا كنا نؤمن بهذا المذهب الفني الشامل، الذي ينتظم في الواقع مذاهب فرعية، فليس في مذهبنا طبعًا أن نُغْفِلَ «الشعر الكلاسيكي» القديم أو المجدَّد، ولا ما عداه، من فن أصيل، قد ينتقده من لا يعرفه، أو من لا يستطيع أن يجول في مجاله؛ لأن له ذوقًا خاصًّا يلزمه ضُروبًا أخرى، واتجاهات مختلفة، وصِيَغًا معيَّنة.
وإنه لجميل أن يشمل عالمُ الشعر عظائمَ ودقائقَ كثيرةً، ولكن من الشذوذ العجيب أن يستثنى منها الإنسانُ ذاته، في حين أنه ما من أدب رفيع في الشرق أو في الغرب إلا وكان سناده الإنسان ذاته، وما من أدب خالد اعتمد على الأخيلة المزوقة، أو الجامحة فحسب، أو عدَّ الحياة مقصورة على أنانية الأديب ودائرته الضيقة!
لنا أن نحتفي بكل لون من ألوان التفكير والتعبير البشري، وعلينا أن نناهض «الدكتاتورية الأدبية» والفنية؛ لأنها في النهاية بمنزلة سم للأدب والفن؛ كما كانت نظيرتها في القرون المظلمة سُمًّا قاضيًا على العلم.
ندافع عن هذه النماذج وعن مثيلات أخرى عديدة ذات قيم إنسانية، كما ندافع عن حق الشعور الإنساني إطلاقًا في التعبير عن ذاته في أية صورة شاءها تعبيرًا فنيًّا هو ما ندعوه «الشعر»، ونناهض كلَّ تَزَمُّتٍ أو تحكم قُضِيَ عليه في العالم الجديد، لا في الشعر والآداب والفنون والعلوم فحسب، بل في الأديان أيضًا، وبذلك أتيحت لأمريكا نهضة لم يعرف لها نظير في تاريخ البشرية، تضافرت الفنون والآداب والعلوم والأديان جميعًا على خَلْقها، وتألقت في سماء الحضارة إلهامًا لبقية العالم.
فلما أنهيت حديثي حسبت صاحبي نائمًا؛ إذ كان مغمضًا عينيه طول الوقت الذي اندفعتُ فيه كالجواد الجامح، ولكنه فتح عينيه المشرقتين، وابتسم ابتسامة المؤمن ثم ردد: «آمين!»