عبد الرحمن شكري
كاد يمسك بتلابيبي صاحبي متلبسًا بجريمة الإعجاب بشعر لبناني عامي، وأنا أقرأ «ليوسف أسعد غانم» نشيده «مات الليل»:
ولمح على مِنضدتي ديوان «الخليل»، وديوان «عبد الرحمن شكري»، فهز رأسه إشفاقًا علي، وقال: عجبًا! عجبًا! ما الذي يجمع اللبناني بالمصري، والعامي بالفصيح؟! قلت: يجمع بين أولئك الأدب والفن والإنسانية، ألا ترى روعة الفن في شعر هؤلاء الثلاثة؟! ألا ترى الأصالة والتحرر والابتداع؟! أما «مطران» فبعد أن تشرَّبَ كلًّا من الأدبين العربي والأوروبي أسمَعَتْ قيثارته العرب في العقد الأخير من القرن الماضي ألحانًا لا عهد لهم بها من قبل، وقد دار ابتكاره حول التناول الفني للطبيعة البشرية في صورها المتعددة، ومن بينها نفسه في حالاتها المختلفة، مراعيًا وحدة القصيد، غير متهيب تطويع اللغة للمعاني والأخيلة الشعرية، مرقرقًا شعره الأصيل بالرومانطيقية الفرنسية اللطيفة، وخالقًا بجرأته ومواهبه الفذة مدرسة متحررة تمتْ رويدًا رويدًا، وأثر في أدباء كثيرين من الشبان والمراهقين في ذلك الحين؛ «كأحمد شوقي» و«مصطفى نجيب» و«إسماعيل صبري»، واستمر تأثيره بصور شتى جيلًا بعد جيل، كما تفرعتْ على تعاليمه مدارس شعرية متحررة منوعة؛ منها مدرسة «شكري» التي انتسب إليها «المازني» و«العقاد»، ولكن البون شاسع بين الأستاذ وتلاميذه، وإنْ آثر التواريَ بعد أن أصدر سبعة من دواوينه العامرة القوية الحيوية، ولكن التاريخَ الأدبي الأمين لا يهتم لهذا التواري، وإنما يُعْنَى بتسجيل الحقائق كما هي، ولا يبني استنتاجه إلا على المنطق السليم، دون أي تحيز أو تعصب، ودون أن يخدعه أي بهرج زائف يجمعه الاشتغال بالسياسة والصحافة، وقد زهد فيهما «شكري» بدرجة إقباله على الثقافةِ العالمية، دراسةِ علم النفس التطبيقي؛ كما تشهد بذلك مقالاته المسلسلة الشائعة في مجلة «المقتطف».
لا نعرف لشاعرنا الرائد ما يمكن أن يُنْعَتَ بالشعر التقليدي، إلا ما نظمه غناء؛ لأن روحه المتحررة كانت ناضجة بارزة حتى في ديوانه الأول، ومن ذلك الشعر الغزلي «الليريكي» قصيدته التي يقول فيها:
وقصيدته التي مطلعها:
وقصيدته «مناجاة الحبيب» التي استهلها بقوله:
ولكنه حتى في هذا الديوان الأول ذاته الصادر سنة ألفٍ وتسعمائة وتسع، يَطْلُعُ علينا بفرائدَ ابتداعيةٍ شائقةٍ، ويحمل عَلَمَ الشعر المرسل، وما عدا «عبد القادر المازني» لا نعرف أحدًا من تلاميذ «شكري» احتفظ في الغالب برقته الوجدانية العذبة؛ وقلده الآخرون في تفكيره ونظراته، وفي الجامد من أساليبه، بل بالغ بعضهم في ذلك حتى تحجر الشعر على يديه، وشاء هذا البعضُ الإغرابَ، فسَفَّ في موضوعاته، ولم يرتفع بشيء من الخيال أو العاطفة أو المعاني أو الموسيقى اللفظية المعبِّرة.
وبماذا تتميَّز مدرسة شكري الذي قال فيه «حافظ إبراهيم» منذ أكثر من أربعين سنة:
والذي قال في شعره تلميذه عباس محمود العقاد: «إن شعر «شكري» لا ينحدر انحدار السيل في شدةٍ وصخبٍ وانصبابٍ، ولكنه ينبسطُ انبساطَ البحر في عُمق وسَعةٍ وسكون»، أو على الأصح بماذا يتميز «شكري» منذ اندثرت مدرسته في جو من التحاسد والتكالب على الشهرة؟ لقد عُنِيَ «شكري» بالجانب الفكري التأملي، وبتجديد ما خلَّفه أمثال «المعري» و«ابن الرومي» و«ملتون» و«بوب»، وبالمزاوجة بين هذه التأملات الفكرية النفسية، والتأثرات الوجدانية، والانطباعات الصوفية والعاطفية والطبيعية، وقد شجعته وألهمته وَثَبَاتُ «مطران الرومانطيقية» قبل عهده بعقدين، ولكن «شكري» عَبَّ من الأدب الإنجليزي، بدل أن يَعُبَّ من الأدب الفرنسي الذي استهوى «مطران» في صباه قبل أن تستهويه الآداب الأخرى.
أما شاعريته فتحتضن الحياة جميعها، وتصور الوجود بأسره؛ لأنه شاعر عبقري لا يقف دون التعبير عن شعوره حِيَال الكون كله!
هذا شاعر سابق لزمنه، وزعيم مدرسة ماتت لما ابتعدت عن صلته ووحيه المباشر، ولكنه بنى مفاخرَ لن تموت للشعر العربي الحديث، وتركه وما زال يترك أثره في جميع دارسيه، وقد قرأ كثيرًا ولكنه أعطى من نفسه ولم ينظم مطالعاته، فهو نجم أصيل خالد كيفما كانت ألوان ضيائه.