أحمد محرم
يُعَدُّ «أحمد محرم» مدرسة في ذاته، وإن يكن في طليعة الأعلام الذين اقترنوا معًا
في زمرة
«الكلاسيكيين المعلمين» للجيل الماضي في مصرَ خاصةً، وفي مقدمة أولئك الأقطاب في مصر
«حافظ»
و«شوقي».
وكان «خليل مطران» شاعر العربية الابتداعي الأول في العصر الحديث، ينعت «أحمد محرم»
بشاعر
العربية الفحل وأديبها الكبير،
١ ويجري في عروق شاعرنا الدم المصري والتركي معًا، وقد ولد «بالقاهرة» ونشأ من
البداية نشأة عربية أزهرية صرفة بفضل ميوله الشخصية، وبفضل عناية والده بتلك الميول،
وبرز
في الشعر منذ صباه، حتى إنه نال شهادة الامتياز بين «شعراء النيل» من لجنة التحكيم، التي
تولت أمر النظر في القصائد المقترحة على كبار الشعراء في عيد جلوس الخديوي، سنة ألفٍ
وتسعمائةٍ وعشر، ونال عدة جوائز في مسابقات شعريةٍ ونثرية أخرى، اقترحتها الصحف والمجلات
في
فنون شتى من الأدب وموضوعات مختلفة من سياسة الممالك وتربية الأمم، وما تصدى كاتب ولا
أديب
لتعيين طبقات الشعراء إلا عرف له مكانه وَوَضَعَه في الصف الأول.
٢
ولا يستطيع مَن يتناول «أحمد محرم» الشاعر أن ينسى «أحمد محرم» السياسي؛ كذلك كان
شأن
«حافظ إبراهيم». ولئن عُدَّ «محرم» مستقلًّا عن الأحزاب السياسية، إلا أنه كان في الواقع
ضالعًا عمليًّا مع الحزب الوطني، كما نرى في شعره بل في جميع آثاره الأدبية، وصار الحديث
عنه بمنزلة حديث أيضًا عن شاعرَي الحزب الوطني الآخرَين «أحمد نسيم» و«أحمد الكاشف»،
اللذين
يُعتبران مشتقين من ألمعيته، كما يعتبر «العقاد» و«المازني» مشتقين من ألمعية «عبد الرحمن
شكري».
يقول «ولي الدين يكن»:
٣ «أحمد محرم» في شعره نسيج وحدِه، وهو أقرب الشعراء المعاصرين ديباجة من شعراء
العرب، وما زال يعاني ذلك في أول أمره معاناةً حتى ملكه اليوم، وصار مَلكةً في طبعه،
وليس
في طبع الشعراء طبع أدل من طبعه وطبع «حافظ إبراهيم» على جودة الألفاظ، وكما أن «خليل
مطران» فاق النظراء بل فاق كثيرًا من القدماء في معانيه؛ فكذلك «أحمد محرم» و«حافظ» فاقا
النظراء بل فاقا كثيرًا من القدماء في ألفاظهما وتراكيبهما، وأقرب وصف في هذا الباب أن
يقال: إن خليلًا أبلغ شعراء زماننا، وإن «محرمًا» و«حافظًا» أفصحهم.
بيد أن الشعر ليس مسألة فصاحة ألفاظ؛ ومهما يكن الجرس الموسيقي رائعًا في شعر «محرم»،
ومهما تكن فصاحته ناصعة وديباجته مشرقة؛ فليس شيء من هذا بالذي يكفي وحده؛ ليخلق له منزلة
فنية، وإنما الذي خلق له تلك المنزلة قبل كل اعتبار آخر حرارةُ عاطفته، وحرارة إيمانه
القومي وتذوقه الجمال، وتحليق خياله وذكاؤه الخارق الذي يجعل تأملاته عميقة نافذة. استمعْ
إلى أبياته القديمة في «الأمس واليوم والغد».
وَدِدتُ لوَ انَّ اللهَ أَخَّرَ مَدَّتِي
إلى أن يَبيدَ الدَّهْرُ والحَدَثَانُ
أبانَ كِتابُ الأَمْسِ واليَوْمِ ما بهِ
وعندَ غدٍ ممَّا جَهِلْتُ بيانُ
فيا مَلْعَبَ الدُّنيا أَنُخْلِي مَكانَنا
وما آن مِنْ دَوْرِ الخِتامِ أوانُ
أخذنا مَكانَ السَّابقينَ، وإنَّنا
وإيَّاهُ للمستأخِرينَ مَكانُ
فيا ليتَ لي مِنْ جانبِ القَبْرِ مَنْفَذًا
إليكَ، وإنْ أَغْنَى هُنالكَ شَانُ
أَتُطْبَقُ لي عَيْنٌ وفيكَ مُحَدِّقٌ
ويُخْفَتُ لي صَوْتٌ وفيكَ لسانُ؟
على أنَّها الدُّنيا تَدورُ صُرُوفُها
على النَّاس حتى يَنتهي الدَّوَرَان
يُجدِّدُ قَوْمٌ ظُلْمَ قَوْمٍ ويَحْتَذِي
مِثَالَ زمانٍ في الصغَارِ زَمَانُ
وما تَنْقَضِي — ما دَبَّ في الأرضِ ناطقٌ —
رواية «كان الأوَّلون وكانوا»!
فهذه تأملات شاعر مطبوع فلسفي النظرات، متمكن من لغته وموسيقاها الكلاسيكية أيَّ تمكن،
وهو القائل في قصيدته «داعي المروءة»:
ثوَيْتُ مِن الدُّنيا ببيداءَ قَفْرَةٍ
أَقَامَ الصَّدَى فيها مَعِي وثَوَى المَحْلُ
أُعيذُكَ مِنْ قَوْمٍ إذا ما دَعَوْتَهمْ
إلى الخَيْرِ قالوا شاعرٌ مَسَّهُ الخَبْلُ!
وإننا لنجد في ديوانه المطبوع بجزئيه — وقد صدر الثاني في سنة ألف وتسعمائة وعشرين
—
نفائسَ كثيرةً، وفيما لم يُجمع من شعره نفائسَ أكثر؛ كما نجد له الباهر من الشعر الإيبيقيِّ
في «الإلياذة الإسلامية»، ومن النثر الفني الرائع في دراساته الأدبية النقدية، ومن شعره
القديم المأثور في السخط على الحاكمين بأمرهم قوله:
٤
إنَّ الذي هَزَّ الممالكَ بَأْسُه
أَمْسَتْ تَهُزُّ فُؤادَه الأشجانُ
ثارتْ عليه شُعوبُه وهُمومُه
فتألَّبَ الطُّوفانُ والبركانُ
عَبَدُوهُ فوقَ سَرِيرِهِ مِنْ هَيْبَةٍ
حتى هَوَى، فإذا بِهِ إنسانُ
تَرْضَى الشعوبُ إلى مَدًى، فإذا أَبَتْ
رِضِي الأبيُّ وطاوعَ الغَضْبَانُ
والحُكْمُ إنْ وزَنَ الشُّعوبَ بواحدٍ
غَبَنَ الشُّعوبَ وخانَه الميزانُ
في عِصْمةِ الشُّورَى وتَحْتَ ظِلالِها
تُحْمى الممالكُ كلُّها وتُصانُ
المجدُ أجمعُ والجَلالُ لِأُمَّةٍ
صَدَقَتْ عزيمتُها وعزَّ الشانُ
جَمَحَ الأباءُ بها وأذعَنَ غَيْرُها
فَالعَيْشُ ذُلٌّ والحياةُ هَوانُ
ومن شعره الإنساني الحر المناصر للسلم «حائيَّته المشهورة» التي يقول فيها
٥ قدحًا في الحروب والطغاة:
رَثَت المَذَابحُ لِلدِّماءِ مُرَاقَةً
مِلْءَ البِطَاحِ وما رَثَى الذَّبَّاحُ
يَنْهَلُّ صَيِّبُها فيَثْني عطْفَهُ
مَرِحًا، ويَزْخَرُ سَيْلُها فيُرَاحُ
فاضتْ حواليْه فضُرِّجَ عَرْشُه
منها وخُضِّبَ تاجُه الوضَّاحُ
مَلِكٌ ولا غيرُ الجماجمِ حولَه
سُورٌ، ولا غيرُ الرقابِ سِلَاحُ
بَغَت الملوكُ على الشُّعوبِ وغَرَّها
ممن تَسُوسُ تَجاوُزٌ وسَمَاحُ
الظلْمُ مَفْسَدَةُ النفوسِ وما لَهَا
غيرُ الترفُّقِ في الأمور صَلاحُ
فِيمَ التناحُرُ والخلائقُ إخوةٌ
والعيشُ حَقٌّ للجميعِ مُبَاحُ
والدَّهْرُ سَمْحٌ والحياةُ خصيبةٌ
والرِّزقُ جَمٌّ والبِلادُ فِسَاحُ؟
أنَظلُّ في الدُّنيا يُفَرِّقُ بيننا
بُغْضٌ ويَجمعُنا وَغًى وكِفاحُ؟
ما بالُنا نَشْقَى لِتَنْعَمَ عُصْبَةٌ
مَلَكَتْ، فلا رِفقٌ ولا إسْجَاحُ؟
وفيها يقول عن الحرب وويلاتها:
الحرْبُ هادِمَةُ الشُّعُوبِ، وَإنَّها
لِلشَّرِّ بينَ العالمينَ لِقَاحُ
تخبو وتَقتدحُ الحُقُودُ رمادَها
كالنارِ هاجَ كمينَها المِقداحُ
صَدْعٌ، وإنْ طالَ المَدَى، متفاقِمٌ
ودَمٌ، وإنْ جَفَّ الثَّرى، نَضَّاحُ
وليس من السهل الاختيار من هذه القصيدة العامرة الطويلة النفس، ولكن لا نود أن يفوتنا
منها الوقوف عند هذه الأبيات الإنسانية:
عَالجتُ أدواءَ الشُّعوبِ وسُسْتُها
فإذا الدَّواء تَوَدُّدٌ وصِفَاحُ
وبلوتُ أسبابَ الحياةِ وقِسْتُها
فإذا التعاونُ قُوَّةٌ ونجاحُ
مَنْ للممالكِ والشُّعوب بِمَوْئلٍ
تَأْوِي النفوسُ إليهِ والأرواحُ؟
ومَتَى يَرُدُّ الحائرينَ إلى الهُدَى
نَهْجٌ أَسَدُّ وكوكبٌ لمَّاحُ؟
دَجَت العُصُورُ فما يَبِينُ لأهلِها
نورُ الحياةِ وما يَحينُ صَباحُ
وشاعرنا المعلم الحكيم المربي لأمته المدافع عن بيضة الإسلام حيث تَمَثَّلَتْ زمنًا
في
الدولة العثمانية، والذائد في الوقت ذاته عن القومية المصرية، والمتصرف في فنون البلاغة
تصرفًا أجَله أمثال «الرافعي» و«عبد المطلب» و«الجارم»، بل تأثروا به كما تأثر به جيل
لاحق
من أمثال «أحمد رامي» و«علي محمود طه» و«عزيز أباظة»؛ هو هو عينه «الشاعر المستقل
الرومانطيقي» المفصح عن شخصيته النبيلة في جميع شعره، شأن الشاعر الحر المطبوع، وقد نوه
الشاعر الجهير «حسن كامل الصيرفي»
٦ بعبقرية شاعرنا فقال:
إني لأقرأ البيت من شعر «محرم» فأحس كأن صدى أنغامٍ عذبةٍ تطوف على خاطري في حلمٍ
جميلٍ، وإلى جانب هذه الموسيقى التي يتساءل عنها في قصيدته «وجودي» والتي يحس
تأثيرها في أنفس قرائه فيقول:
أَمِنْ أدَبي تَبيتُ الطَّيْرُ تبكي؟
فما أدَبي؟ أَشَدْوٌ أم رَنينُ؟
تتجلى تلك الديباجة العالية، وتلك الجزالة السامية التي يقدرها فيه أدباؤنا، ولن
أكون إلا محقًّا حين أقول إنه كان يمتاز على المرحوم «حافظ إبراهيم» في الرنين
العذب الذي صحب شعره الناضج ولازمه، إلا أن مرض الشرق الذي يُظْمِئُ الفنانَ
الموهوب، والالتفات الدائم إلى صوت أو صوتين دون أن يُلتفت إلى بقية الأوتار
الجميلة التي تؤلف أنشودة الخلود؛ حَالَا دون التقدير الكافي لشاعرية «أحمد محرم»،
ولولا هذا المرض ما سمعنا محرم يشكو حين يحس الحيرة في وجوده، فيقول:
ظَمِئْتُ، وفي فمي الأَدَب المُصَفَّى
وضِعتُ وفي يدي الكنْزُ الثَّمينُ
ظَلَمْتُ أبي ونفسي، إنَّ مِثْلي
لَغَالٍ في النَّوابِغِ لا يَهونُ
كريمٌ تَدْفَعُ الأخلاقُ عنه
ويَمْنَعُ رُكْنَهُ الأدَبُ الحصينُ
أَقُولُ فَيُفْزِعُ الشُّعَرَاءَ صَوْتي
وما أنا في بَنِي وَطَنِي ظنينُ
لرَبِّي ما عَمِلْتُ، وعندَ قَوْمي
دُيُوني، حِينَ تُلْتَمَسُ الدُّيُونُ!
نعم، عند قومك هذا الدَّيْنُ، وسيوفَّى دينُك، وستظل كما تقول:
أشُدُّ على الفُنونِ يَدِي، وإنِّي
لفي زَمَنٍ جهالتهُ فُنونُ!
وإني لأرى أمامي مشهدًا لم تضعف ريشة «محرم» في رسمه، ولم ينقصها لون حين صوَّر
الحائر، فقال:
وُجُودِي، ما عَرَفْتكَ غيرَ مَعْنًى
تَغَلغَلَ في الخَفَاءِ، فما يَبِينُ
غَرِيقٌ في الظَّلامِ، ولا مَنَاصٌ
ولا جِسْرٌ يُلَاذُ به أمينُ
أُقِيمَ عليهِ سُورٌ مِنْ عُبابٍ
تَضِلُّ على جوانبهِ السَّفِينُ
أطِلُّ، ويَضْرِبُ التيَّارُ وَجْهِي
فأين أنا؟ أحُرٌّ أم سجينُ؟
وأضل أنا أيضًا في عالم الإعجاب حين أقرأ له من قصيدته «مِنْ هُمومي»:
بين عينيَّ وما حَوْلَهما
صُحُفٌ مَنشورةٌ للقارئينْ
يَعطِفُ السَّطْرُ على السَّطر كما
يَعطفُ الباكي على الباكي الحزينْ!
هذا ما كتبه شاعر وجداني رمزي كبير عن الأستاذ «أحمد محرم»، في سنة ألف وتسعمائة وثلاث
وثلاثين، وما سر إعجابه به إلا ما انتظمه شعره من عناصر الجمال المعنوي واللفظي، وصدق
التعبير، والأصالة وإشراق الشخصية، وتميُّز ذلك الشعر بالمواءمة العجيبة، ما بين الأسلوب
المدرسي الخالص الناصع، والمعاني الوجدانية والصور الرومانطيقية الممثلة لروح العصر،
في حين
أن شاعرنا في ثقافته عربي قُحٌّ.
تقرأ هذا في مثل قصيدته «قوة وضعف»
٧ التي يقول فيها:
قُوَّتي ضَعْفٌ، وضَعْفِي قُوَّةٌ
فاخْشَعِي يا نَفْسُ أو طيري هَبَاءَ
يَسْقُطُ الصَّخْرُ ويَمضِي صُعُدا
ساقِط التُّرْبِ، فَيَحْتلُّ السَّماءَ!
وفي مثل قصيدته «تحية أبوللو»
٨ التي يقول فيها:
سَكَبُوا الشِّعْرَ على أَلْسِنَةٍ
ذابَ مَعْنَى الحُسْنِ فيها فانْسَكَبْ!
ويقول:
كُنْتِ مَعْنَى، والأَماني لُجَّةٌ
ما طَفَا في خاطرٍ إلَّا رَسَبْ
تَعْجَزُ القدْرَةُ أن تَلْفظَهُ
فهو سِرٌّ حائرٌ في كلِّ قَلْبْ
نَبَّهَتْهُ هِمَّةٌ نافذةٌ
حين أغْفَى، فَتَلَوَّى واضطرَبْ
وأهابَتْ، فاسْتَوَى مستوفِزًا
فاستحثَّتْهُ، فأوْفَى واشرأب
ورآها تَتَلَظَّى، فارْتَمَى
لُجَّةً تَطْغَى، ونارًا تَلْتَهِبْ!
وفي مثل قصيدته الشهيرة «ليتني»
٩ المعدودة من عيون الشعر العصري وفيها يقول:
ليتني الدَّهْرُ الذي جَرَّبْتُهُ
فَعَذَرْتُ الناسَ مِمَّنْ جَرَّبا
حاكمٌ أعمى الهَوَى لو كنتُه
لجعلتُ الحكمَ أهْدَى مَذْهَبَا
مُظْلِمُ الأعماقِ ما مِنْ كوكبٍ
جالَ في أثنائِهِ إلَّا خَبَا
إن «أحمد محرم» بنظمه ونثره، عاطفة وتصويرًا ونقدًا، لَثروةٌ غالية للأدب العربي الحديث
جديرة بأن تُدْرَسَ من جميع جوانبها، وبأن يُنَوَّهَ بنفائسها تَنْويهًا أجَل في أقطار
الضاد جميعها، ولعل «وزارة التربية والتعليم العربية» تقوم مشكورة بإخراج ديوانه الكامل
وإلياذته الإسلامية، كما صنعت من قبل بنشرها ديوان «حافظ إبراهيم»، فإن مآثر «أحمد محرم»
الأدبية والقومية لا تقل شأنًا عن مآثر «حافظ»، وإنها لفخر أكيد للعروبة ولأبناء الضاد
جميعًا.