محمد مهدي الجواهري
ليس من الميسور في كل جيل أن نظفر بشاعر مستوعب لروح قومه، أو مهتم بالمثل الإنسانية العليا اهتمامًا يستحوذ على مشاعره، فتذوب عناصر فنه في هذا الشعور، ويخرج من الآثار الفنية الرفيعة ما تتبلور فيها عواطفه وتفكيره وأمانيه وأحلامه وأخيلته، في وحدة منسجمة جذابة.
أجل، ليست مثل هذه الظاهرة ميسورة في كل جيل، وإن جاز أن ينبغ شعراء، لا شاعر فحسب، في جيل بعينه نبوغًا مجردًا يعتمد على طاقتهم الفنية لذاتها لا غير، في حين قد يتدلى أو ينحدر شعرهم، فلا تكون له أية قيمةٍ سوى قيمةِ الألق الباهر، الذي يعجب به أو يتسلى الناظرون، أو الخمرِ التي يلهو بها الشاربون!
وبين أولئك الأفذاذ الشاعر العراقي الجهير محمد مهدي الجواهري الذي حافظ للوطنية العراقية على مكانةٍ رفيعةٍ في الشعر العصري، بعد أن حُرِمَتْ علميها الشامخين «الرَّصافي» «والزَّهَّاوي»، كما أسهم بشعره القيم في الدفاع عن حقوق الإنسان وكرامته قبل أن يشغل بنفسه أو بتوافِه الوجود. وتألُّقُ نجمه في سماء العالم العربي يتفق واليقظة الشاملة، بل اليقظة القومية عامة في أقطار العروبة؛ كما أن صدور ديوانه بجزأيه يتفق وظهور نفحات شعرية أخرى رائعة، من بلاد الرافدَين، بله ظهور آثار المجمع العلمي العراقي، التي تنم عن نضوج فكري عظيم. يضم الجزآن من هذا الديوان ستًّا وخمسين قصيدة، من عيون الشعر العالي، وقد أهداه الجواهري «إلى مَنِ اختاروا عامدين مُصِرِّين صامدين طريق الحرية والنور والخلاص، إلى من تحملوا متحفزين آلامهم وحرمانهم في هذا السبيل، إلى ضحايا الجور والحقد والانتقام، إلى من كانوا يقدرون، لو أرادوا أن لا يكونوا كذلك».
والديوان محلَّى في جزأيه بطائفة من الصور الفنية، وله مقدمة وجدانية مؤثرة نسجها في أسلوب قصصي، وجاءت بمنزلة ترجمة لسيرته الفكرية والعاطفية، وهي ناطقة بروح الحرية والشمم، شارحة لتطوره الذهني والنفساني.
يميل شاعرنا إلى النظم المطول، ولكنه لا يُسِفُّ، وفي الثلاثين والأربعمائة صفحة التي تحتوي على مئات الأبيات من شعره الحي نجد شواهدَ لا حصر لها، على الشاعرية المتوقدة، وعلى المثالية الرفيعة، وعلى الديباجة الجزلة الفريدة في صياغتها الكلاسيكية الفخمة، حينما هي في الوقت ذاته تعلن أنها خادمة وحيه، وليست بالمسيطرة التي يحتمي وراءها النظامون السطحيون، لو أن لهم بلوغَ شَأْوها، ومع ذلك فما يزال للجواهري شعر كثير لم يدوَّن بعدُ.
ويستوقف انتباهنا رثاؤه لشاعر النيل «محمد حافظ إبراهيم»، فالشبه في الروح الوطنية الإصلاحية بين الشاعرين عظيم، وقد عاش كلاهما لشعره وفي شعره، واحتمل ألوان الحرمان في سبيل إخلاصه، وإن كان لكل منهما ظروفه وبيئته التي كيفت إلى درجة محسوسة أسلوبه وتفكيره وتفاعله معها، وقد كان «حافظ» يميل إلى النصوع البياني مع شيء من الجزالة وإلى التبسط غالبًا، وهو الذي ينسجم والذوق المصري في زمنه.
أما الجواهري فديباجته متناهية في الجزالة القوية التي تلائم الذوق العراقي من ناحيةٍ، وتنسجم وشخصيته الثائرة من ناحية أخرى، وكلا الشاعرين ذو طاقة شعرية محترمة، ولكن طاقة «الجواهري» أعظم من طاقة «حافظ» وتفكيره أوسع، وكلاهما موسيقيُّ الطبع، ولكن موسيقى «حافظ» أسلس، وكلاهما راق في انفعالاته؛ لأننا لا نعد من الانفعالات الهابطة الأوصاف القصصية التي نجدها في مثل ملحمة «أفروديت»، «للجواهري».
وكلا الشاعرين يحترم المذهب الواقعي، ولكننا نجد المذهب الفني ذا سلطان أعظم على «الجواهري»، ونجد «الابتداعية» بل والرمزية تبتسمان في أسلوبه الكلاسيكي لمن يتجاهلهما في شعره، وكلا الشاعرين ينظم غالبًا في مناسبات خاصةٍ أو عامةٍ، ولكنه ارتفع غالبًا فوق حدود المناسبات.
وحينما يؤرخ لزعامة الشعر الإصلاحية في أقطار العروبة، ستكون للشاعر الحر، الصادق الوطنية والإنسانية «محمد مهدي الجواهري» مكانةٌ خالدة من الإكبار، فوق كل إعزاز لقيه من الأقطار العربية التي حل فيها!
ومنذ يستهل «الجواهري» ديوانه بقصيدته البديعة «حنين» الجامعة بين «الرمزية» و«الابتداعية» لا يترك القارئ من خميلةٍ إلا إلى خميلةٍ. استمعْ إلى هذا الوصف الرائع:
وهذه القوة الوصفية؛ كالمقدرة اللغوية البيانية إلى جانب العاطفة الجياشة، مِن ألزم خصائص شعره، ولكن لننظر في أيسر شعره الذي يريد أن يخاطب به الجمهور ولو بأسلوب غير مباشر، وهذا مثال منه، في نصرة العدل والمساواة والحرية:
وفي الديوان من الشعر الوجداني الجميل نماذجُ جَمَّةٌ، وكذلك من شعر الطبيعة كقصائده «دجلة في الخريف»، و«يافا الجميلة» و«الأصيل على دجلة»، وفيه من استيحاء التراث العربي ومن الأماني القومية نفائس ستحيا على الزمن. «والجواهري» في أصالة فنه وفي تفانيه بمبادئه الشاملة الرفيعة هو من أولئك القلائل الجديرين بأن يُدْرَسُوا دراسة جامعة في كتاب بل كتب، وممن لا يجوز أن تحدد نسبتهم بقطرٍ معين، ولو كان مسقط رأسهم.