نزار القباني
«نِزار القبَّاني» ليس شاعرًا من شعراء الشباب الموهوبين في سوريا فحسب، بل أصبح يعد من أقطاب الغزل الفني الحسي في العالم العربي ولما يبلغْ نهاية العقد الثالث من عمره. وليس هذا بعجيب، فهو من أسرة اشتهرت بالأدب والفن كما اشتهرت بالوطنية، وحسبنا أن نشير إلى جده الفنان «أبي خليل القباني» أول من حمل لواء التمثيل المسرحي من بلاد الشام إلى وادي النيل، ومن هناك انعكست أضواء المسرح على سائر الأقطار العربية، كما نشير إلى والده «توفيق القباني» الوطني الغيور الذي اعتقل عدة مراتٍ ونفي إلى قلعة «تَدْمُر» إبان الاحتلال الفرنسي، وكانت دار القباني في «دمشق» مركزًا مهوبًا من مراكز الكتلة الوطنية!
وهكذا ورث نزار الملكة الفنية، كما أن نشأته في ذلك الوسط الوطني العريق أضافت إلى تعلقه بالشعر والأدب والموسيقى والتصوير منذ صباه؛ تعلُّقَه بوطنه وخدمته في المجال السياسي، وقد هيأه لذلك نيله درجة «أستاذ في الحقوق» من الجامعة السورية بدمشق فتدرج في خدمة وزارة الخارجية السورية.
وعلى الرغم من هذه الظروف المواتية، وعلى الرغم من شاعريته المبكرة التي دفعته إلى نظم ملحمةٍ شعرية سماها «دنيا الحروب» خلال دراسته الثانوية، وقد نالت تقريظًا في وقتها، لم يُعْنَ «نزار» حتى الآن بترجمة وطنيته ولا إنسانيته شعرًا، وإنما اقتصر على استلهام «الأنوثة» حسيًّا ومعنويًّا في تعابيرَ منوعةٍ: بعضها مكشوف وبعضها رمزي، وقد تجلت بها جميعًا الأناقة والرشاقة والتغني الموسيقي الخفيف الخاطف.
أصدر شاعرنا ديوانه الأول «قالت لي السمراء» عام ألف وتسعمائة وخمسةٍ وأربعين، ثم مجموعته الشعرية «ساميا» عام ألف وتسعمائة وتسعٍ وأربعين، بعد ديوانه الثاني «طفولة نهد» الذي سبقها بعامٍ، وأخيرًا طالعنا بديوانه الثالث الموسوم «أنتِ لي»، وفي جميع ما اطلعنا عليه من شعره نجد الشاعرية الممتازة، بأخيلتها الوثابة ورمزيتها المبتدعة، وموسيقاها الهفهافة الساحرة، ونجد كل هذه الخصائص الرشيقة مندمجة في معاني الأنوثة اندماجًا خلابًا عجيبًا.
ومهما تكن نزعات شاعرنا في سِنِّه الحاضرة فلا ريب عندنا في أن وطنيته وإنسانيته ووطنية أسرته المأثورة الموروثة ستتجلى في شعره مستقبلًا عندما تزيده التجارب والسن نضوجًا. أما شعره الحاضر فليس مع ذلك بالجمال المجرد، فإن تغنيه بجمال المرأة — وإن تدلى أحيانًا — هو توجيه بديع إلى نبعٍ طبيعي قد يصدف عنه في البيئات المتأخرة، بحكم العزلة والحجاب، وإن تغنيه بجمال الطبيعة في ألوانها وصورها المنوعة لثروة فنية ممتازة!
إن الشعر هو كهربة جميلة لا تعمر طويلًا، تكون النفس خلالها بجميع عناصرها من عاطفة، وخيال، وذاكرة، مسربلة بالموسيقى. ومتى اكتست الهنيهة النفسية ريش النَّغَم، كان الشعر؛ فهو بتعبير موجز النفسُ الملحَّنة. لا تعرف هذه الهنيهة الشاعرة موسمًا ولا موعدًا مضروبًا فكأنها فوق المواسم والمواعيد، وأنا لا أعرف مهنةً يجهل صاحبها ماهيتها أكثر من هذه المهنة التي تغزل النار، والذي أقرره أن الشعر يصنع نفسه بنفسه وينسج ثوبه بيديه وراء ستائر النفس، حتى إذا تمت له أسباب الوجود واكتسى رداء النغم، ارتجف أحرفًا تلهث على الورق.
الشعر يحيط بالوجود كله، وينطلق في كل الاتجاهات فترسم ريشته المليحَ والقبيحَ، وتتبادل المترف والمبتذل، والرفيع والوضيع. ويخطئ الذين يظنون أنه خط صاعد، دائمًا؛ لأن الدعوة إلى الفضيلة ليست مهمة الفن بل مهمة الأديان وعلم الأخلاق، وأنا أومن بجمال القبح ولذة الألم وطهارة الإثم، وهي كلها أشياء صحيحة في نظر الفنان. تصوير مخدعِ مومسٍ وارد في منطق الفن ومعقول، وهو من أسخى موضوعات الفن وأغزرها ألوانًا. أما المومس من حيث كونها إناء من الإثم وخطأ من أخطاء المجتمع، فهذا موضوع آخر تعالجه المذاهب الاجتماعية وعلم الأخلاق.
وواضح أن شاعرنا متأثر في كل هذا بفلسفة «كروتشي» الفنية بحسية «بودلير».
وبين ملاحظاته في تصديره الرائع قوله: «مهمة القصيدة كمهمة الفراشة، هذه تضع على فم الزهر دفعة واحدة جميع ما جنته من عطر ورحيق متنقلة بين الجبل والحقل والسياج، وتلك — أي القصيدة — تفرغ في قلب القارئ شحنة من الطاقة الروحية تحتوي على جميع أجزاء النفس وتنتظم الحياة كلها.»
ولكنه يعود فيناقض نفسه قائلًا إن الشعر «زينة وتحفة باذخة فحسب، كآنية الورد التي تستريح على منضدتي لست أرجو منها أكثر من صحبة الأناقة وصداقة العطر»! وشاعرنا حر في مذهبه وإن لم يَثْبُتْ عليه تعريفًا، ونرجو أن يتحول عنه عمليًّا في مستقبله؛ لأن من الخسارة للإنسانية أن تُقْصَرَ هذه الموهبةُ الفنية على ثغور وأثداء وما إليها.
إننا لنتفق مع شاعرنا في الكثير من ملاحظاته، ولا نبيح مطالبة أي شاعر بغير ما يُطبع عليه، ولكننا نُهدي أعظم تحية وأوفر إجلال — كما فعلت الإنسانية على كر الأجيال — إلى الشاعر الذي تذوب عناصره الفنية الأصيلة الصادقة دون تصنعٍ في مثاليته الإنسانية السامية.
وهو جد محسن حين يقول: «أريد أن يكون الفن ملكًا لكل الناس، كالهواء وكالماء وكغناء العصافير. يجب ألا يحرم منها أحد. إذن يجب أن نعمم الفن؛ أن نجعله بعيد الشمول، ومتى كان لنا ذلك استطعنا أن نجذب الجماهير المتهالكة على الشوك والطين والمادة الفارغة إلى عالمٍ أسواره النجوم وأرضه مفروشة بالبريق … متى جذبنا الجماهير إلى قمتنا نبذوا أنانيتهم، وتخلوا عن شهوة الدم، وخلعوا أثواب رذائلهم؛ وهكذا يغمر السلام الأرض وينبعث الريحان مكان الشوك. إنني أحلم بالمدينة الشاعرة؛ لتكون إلى جانب مدينة الفارابي الفاضلة، وحينئذ فقط يكتشف الإنسان نفسه ويعرف الله.»
وكل هذا حلم جميل، ولكنه أبعد ما يكون عن التسامي بالإنسانية، والمدينةُ «الشاعرة» التي يتغنى شاعرنا بها نثرًا لا وجود لها في شعره، وإنما فيه رمزية شائقة وأخيلة رائعة وأوصاف باهرة وموسيقى خلابة، ولكنها في مجموعها لا تسوق أحدًا إلى القمة التي يشير إليها وقد تسوقه إلى الهاوية!
أجل، إن المثالية الحميدة التي يمجدها في تصديره المشار إليه قد نجدها في شعر «تاجور» الإنساني، ولكننا لا نجدها في شعر «نزار القباني» الحسي، ومن أهون نماذجه قوله:
يقول شاعرنا: «… وفي سبيل هذه الفلسفة، فلسفة الغناء العفوي، حاولت فيما كتبت أن أرد قلبي إلى طفولته، وأتخير ألفاظًا مبسطة، مهموسة الرنين، وأختار من أوزان الشعر ألطفها على الأذن، وإن القارئ ليحس أن الكلام الذي أهمس له به يعرفه ويردده كأنه هو الذي يغني، فإذا أحس القارئ بأن قلبي صار مكان قلبه، وانتفض بين أضلعه هو، وأنه يعرفه قبل أن يعرفني، وأنني صرت فَمًا له وحنجرة، فلقد أدركت غايتي وحققت حلمي الأبيض، وهو أن أجعل الشعر يقوم في كل منزل إلى جانب الخبز والماء.»
وعلى الرغم من اعترافنا بأن الأناقة الفنية في شعر نزار ممتازة امتياز طاقته الشعرية وأصالته، فإننا نعجز عن تصور شيوع شعره في كل بيت ما دامت صلته بالحياة التي نحياها، بله التي نتسامى إليها، محدودة. وإذ نراه ينتقد الشعر الاجتماعي وشعر الرثاء ونحوهما؛ نرى من المفيد أن نختم هذا الحديث على سبيل المقابلة ودعمًا لوجهة نظرنا بمقتطفات من قصيدة «جبل النار» لشاعرٍ سوري آخر أنيق هو «عمر أبو ريشة»، التي نظمها رثاءً للوطني الفلسطيني «سعيد العاص» الذي استشهد سنة ألف وتسعمائة وست وثلاثين:
ثم يصف البطل بقوله:
•••
مثل هذا الشعر الإنساني القومي الذي يهز النفوس العربية هو الذي يمكن أن يعيش في كل بيت عربي، وليس نظيره بعزيز على شاعرنا الموهوب «نزار القباني» دون أن يتخلى عن خصائص شاعريته الأساسية؛ إذ كل ما عليه أن يتسامى بالشهوة في شعره؛ كما تسامى بعض شعراء الغزل، وأن يجعل منه قربانًا لمثلٍ أعلى.