إبراهيم ناجي
إذا ما ذُكرت ليالي القاهرة الأدبية اتجهت الخواطر إلى الشاعر المصري الموهوب، الدكتور
«إبراهيم ناجي» الذي أحياها بشعره الجميل في ديوانه الشائق الذي يحمل هذا الاسم، وقد
احتفى
به الأدباء في أقطار العروبة جمعاء!
وما من أديب عربيٍ زار مصر إلا وتمنى لقاء هذا الأديب اللامع الجم المرَح، النادر
الطراز
في ذكائه وألمعيته وظرفه المتناهي، وفي ثقافته المنوَّعة التي شَمِلَتْ — بين ما جمعته
—
الطب وعلم النفس وعلم الاجتماع والنقد الأدبي والقَصص.
كان القدر قاسيًا في الخامس والعشرين من آذار «مارس» سنة ١٩٥٣م، حينما اختطف الموت
«ناجي»
فجأة بالسكتة القلبية في عيادته بين مرضاه، فذهبت بذهابه شخصية أدبية فذة، وانطفأت شاعرية
أصيلة عزيزة المثال؛ إذ كان في طليعة الشعراء العاطفيين الغنائيين المجددين، وكان وكيلًا
ثانيًا «لجمعية أبوللو» الشعرية بمصر، إبَّانَ رئاسة «خليل مطران» لها، بعد وفاة رئيسها
الأول «أحمد شوقي»، وكان «ناجي» شاعرًا مطبوعًا يحترم النغم، ولكنه لا يحترم التَّعَمُّلَ،
فأثمر وأنتج شعرًا شهيًّا من الطراز الأول، يتميز بجمال الطبع ويتعالى على القيود
والصنعة.
وفي مقدمة المجلات التي اهتمت بأدب «ناجي» مجلة «الحديث» الحلبية الشهيرة، وفي عددها
الصادر بتاريخ كانون الثاني سنة ١٩٥٣ «وهو العدد الأول من سنتها السابعة والعشرين» نُخَبٌ
بديعة من «رباعيات ناجي» نذكر منها قوله:
أرْثِي لِخَطِّ الأُفْقِ وهو الذي
يَرْمُقُني بالمقلةِ السَّاخِرَهْ
وتَهْرُبُ الأنْجُمُ هَذي وذِي
ويَجْثُمُ الليْلُ على «القاهرة»!
•••
ويَزْحَفُ الكونُ على خاطري
كأنَّه في مُقلةِ الساهِرِ
مَدٌّ من الحزن بلا آخر
يعب عب الأبَدِ الزَّاخرِ
وكأنما يحس بدنو أجله حين قال:
الآن قدْ مَزَّقَ عني القِناعْ
مَوْتُ الأَباطيلِ وزَحْفُ السَّنَاءْ
وبدَّدَ الوهمَ وفَضَّ الخلاءْ
بَرْدُ المنايا وشُحوبُ الفناءْ!
هذا الشاعر النابغة الذي ندخر له دراسة بين شعراء العرب المعاصرين، لا تملك الآن إلا
رثاءه بهذه الدمعة الحارة:
اسْأَلُوا الشَّاحِبَ القَمَرْ
واسأَلوا الدَّامعَ الزَّهَرْ
واسْألوا النَّجمَ حائرًا
واسألوا الشَّمْسَ في حَذَرْ
واسْألوا النُّورَ باهتًا
خائفًا ما لَهُ مَقَرّْ
واسْألوا النَّهْرَ واجمًا
كلُّ مَوْجٍ له عَثَرْ
واسْألوا الحُبَّ بعدَ ما
فاتَهُ القوسُ والوَتَرْ
واسْألوا الحُسْنَ خاشِعًا
بعد ما تاهَ أو أَمَرْ
اسْألوهمْ عن الذي
أَرْعَشَ الرُّوحَ والحَجَرْ
كيف قد غالَهُ الرَّدَى
فجأةً غادرًا وفَرّْ؟
أَتُرى كُلُّ ذَنْبِهِ
أنَّه شاعرٌ شَعَرْ؟
أنَّه شَعَّ أُنْسَهُ
في مَجَالِسِ السَّمَرْ؟
أنَّه نَغَّمَ الأَسَى
أنَّه طاردَ الضَّجَرْ؟
أنَّه أَبْدَعَ المُنَى
مِثْلَمَا أَبْدَعَ الصُّوَرْ؟
أنَّه دَاعَبَ الهَوَى
والهَوَى كلُّهُ خَطَرْ؟
أنَّه أَنْقَذَ الوَرَى
مِنْ شُرورٍ ومِنْ شَرَرْ؟
أنَّه أَسْكَرَ النُّهَى
وهو مِنْ هَمِّهِ سَكَرْ؟
أنَّه أَنْضَرَ الرُّبَى
حينما صَوَّحَ الشَّجَرْ؟
أنَّه أَنْتَجَ الجَنَى
في دُنَى النَّحلِ والبَشَرْ؟
أنَّه صَاغَ شِعْرَهُ
مِنْ دُمُوعٍ ومِنْ فِكَرْ؟
أنَّهُ زَفَّ مُطْرِبًا
ما تَسَامَى وما نَدَرْ؟
أنَّهُ كانَ طِبُّهُ
فَوْقَ طِبٍّ ومُخْتَبَرْ؟
أنَّهُ عاشَ دائمًا
ضاحكًا يَهْزِمُ الكَدَرْ؟
أنَّهُ كان شُعْلَةً
مِنْ ذَكاءٍ، وكم بَهَرْ؟
لم تَفُتْه أَصَالَةٌ
إنْ يكنْ فَاتَهُ الوَطَرْ؟
•••
يا صَديقي، وكم زَهَا
مِنْ وفائي! وكم فَخَرْ!
نَعْيُكَ المُرُّ وَقْعُهُ
وَقْعُ طَوْدٍ إذا انْفَجَرْ
أيُّ ثَأْرٍ لعاشِقٍ
فاتَه الحُبُّ إنْ ثَأَرْ؟
ليس سُخْطِي ولَوْعَتي
ليس دَمْعِي الذي انهمَرْ
ليس زُهدِي بحاضري
بعدَ فُقدانِ ما عَبَرْ
ليس سُخْرِي بِعَالَمٍ
في غَبَاوَاتهِ انْتَصَرْ
ليس هذا وغيرُه
مِنْ حُطامي الذي انْتَثَرْ
مِنْ فؤادِي الذي هَوَى
في جَحِيمٍ مِن الغِيَرْ
مِنْ تَباريحِ ثَوْرَتِي
حينما خاطري اسْتَعَرْ
بالذي يُرجِعُ المُنَى
وَاثِباتٍ مِن الحُفَرْ
ليتني — إيهِ صاحبي!
لم يُطِلْ غرْبَتي الحَذَرْ
ليتني كنتُ سابقًا
ليتكَ الخالدُ الأَبَرّْ
راثيًا أنتَ، لا أَنَا،
حَظُّنَا في يَدِ القَدَرْ
نحنُ في عالَمٍ بِهِ
أَسْعَدُ النَّاسِ مَنْ غَفَرْ
كلُّنا دُونَ ذَرَّةٍ
مِنْ هَبَاءٍ وَمِنْ مَطَرْ
لم نُخَيَّرْ، وإنما
نَدَّعي الخُبْرَ والخَبَرْ
ليس لي غَيْرُ خَمْرَةٍ
مِنْ جِراحٍ ومِنْ عِبَرْ!