شاعرة من مصر
حينما دعتني صديقتي الأديبة الفاضلة السيدة «مارجريت عبد الأحد» إلى الاشتراك في نقد ديوان «الأغنية الخالدة» «لصفية أبو شادي»، تذكرت على الفور نقدي جدها «محمد أبو شادي» «بك» منذ أربعين سنة في جريدة «المؤيد» الإسلامية، التي كان يرأس هو تحريرَها حينذاك، بين شواغله الوطنية والمهنية المتعددة، وكما كان ذلك النقد صريحًا، تُمليه حماسة الشباب سيكون هذا النقد نظيره في الصراحة تمليه حماستي للأدب الرفيع الذي أتحيَّز له وحده. وكما كان الجد عزيزًا لدي، فكذلك حفيدته، وإنها لعليمة بذلك.
إن ما أعرفه عن هذا الديوان هو أنه كان يدعى قبل طبعه «أوتار قلبي»، ولكن «رابطة الأدب الحديث» بالقاهرة، التي تولت رعاية نشره، آثرت التسمية التي اختارها له الأستاذ العلامة «محمد عبد المنعم خفاجي» أحد أقطابها، ولولا حماسته الأدبية لما رأى هذا الديوان النور؛ لأن صاحبته — وهي في العقد الثالث من عمرها — مجردة عن غرور الشباب، وقانعة بالتعبير عن عواطفها فحسب، وهذا الزهد الكامل في النشر يكاد لا يصدق، وها هو ذا ديوانها العاطفي بالإنجليزية لم يَرَ النورَ بعدُ!
وإذا استثنينا الشاعرة المصرية المطبوعة السيدة «جميلة العلايلي»، فلا ريب أن صفية أول شاعرة رائدة صريحة أنجبتها «مصر» وطنها الأول الشديد تعلُّقُها به، وهي مولعة بالشعر المنثور وُلوعها بالحرية؛ فكأنما ابتعادها عن النظم هو سلوك نفساني يمثل هذا الولوع ويتمشى مع صراحتها المتناهية المنسجمة مع شخصيتها القوية، التي يعرفها زملاؤها في جامعة الإسكندرية سابقًا وجامعة «جورج وشنطن» حالًا، ومع أنها تخصصت في علم النفس وتزداد تخصصًا فيه، إلا أنها أكثر تعلقًا بالثقافة الأدبية بمعناها الأشملِ.
وما يجب أن يعنينا من أمرها هو مبلغ الأصالة في سلوكها وفي آثارها، فأما سلوكها فقد أشرت إليه في صراحتها المثالية حتى في أحلك الظروف التي حاقت بمصر، وأما آثارها التي يعتبر هذا الديوان باكورتها فتتميز بأصالة واضحة، وهذا غنم للأدب الحديث؛ إذ لا فائدة لنا من التكرار ولا من نهب الآثار السابقة أو المعاصرة، فإن التكرار أو المحاكاة أو السرقة لا نتيجة لها إلا الهبوط بأدبنا، حينما يضاف إليه كل جديد يزيده رفعة. ولصفية أن تكون هانئة الضمير لإسهامها في رفعة الشعر المنثور، بأصالتها وصراحتها الفطرية التي تكاد تقارب السذاجة.
وشاعرتنا لا تعرف أن تسجل سوى تجاريبها الخاصة، وعواطفها الخاصة، وتأملاتها الخاصة؛ وهذا أساس شاعريتها. وعبثًا حاولنا أن نطالبَها بالتعبير عن وطنيتها المتأججة وإنسانيتها الشاملة وخيالها الخصب في ألوان أخرى من الشعر؛ إذ كانت تدفع هذا الطلب بقولها: «إن نفسها وحدها صاحبة الحق في اختيار أساليب التعبير عن ذاتها وعن زمانه ومكانه، ولها وحدها أن يكون تعبيرها في أسلوب شعري أو في سواه حسب ذوقها.» وصفية شاعرة رومانسية رمزية محبة للطبيعة التي تقدسها في الأزهار والجداول والطيور، بل وفي ملكوت الله بأسره، فإذا فاتتها الطبيعة التمستها في الموسيقى، التي شُغِفَتْ بها منذ صغرها، ومن العجيب أنها لم تتأثر بأي شاعر أو شاعرة، لا من أسرتها ولا من غير أسرتها، وإن قرأت لكثيرات وكثيرين وأحبت في الإنجليزية خاصة «كيتس» و«شيلي» و«وردزورث» كما أحبت في الفرنسية «ألفريد دي موسيه» و«لامارتين» و«فيرلين».
أما عن نماذج شعرها المثالية: ففي طليعتها: «مملكة في السماء» و«حديث الشجر» و«الزورق الصغير» و«الأغنية الخالدة»، وجميعها وثابة الخيال، عليها تألق الشغف بالشعر ذاته؛ كأنما هو استجابة لقصيدة وجهها إليها زميلها الشاعر محمد مصطفى بدوي في عيد ميلادها سنة ١٩٤٢، وقد جاء في أحد أبياتها بعد تنويهه بأدبها واختياره الشعر هديةً لها:
وقد عَشِقَت الشعر بجميع جوارحها، وإن كانت مقلة في تدوينه بالنسبة لقدرتها البيانية الشفوية. أما المسحة الدينية أو التصوفية فملحوظة في جميع شعرها، وهي دليل إيمانها العميق.
وبعد، فهذا الديوان وجداني شخصي في أغلب مظاهره، وكنت أتمنى لو كانت صاحبته التي أعرف وطنيتها وإنسانيتها قد عنيت برسم عواطفها العامة تلك شِعْرًا من هذا الطراز الجذاب، أو خدمت به الحركة النسائية التي تتحمس لها أي تحمس، ولكن وحي الشعر يأبى أن يسلك معها هذه المسالك، وهي لا تعرف التصنع الذي يلجأ إليه كثيرون، وتجد الغنى كل الغنى في الصدق وحده، ولا تَعتبر المحدودة من آفاقه ضيقة ولو حسبناها نحن كذلك.