الشاعر عزيز عبد السلام
«إيه يا «عزيز»! … إن للميت نفسًا لا يبلغها الإحصاء ولا ينالها الحصر ولا يحدها المكان؛ فهي كثيرة على أنها واحدة، وهي تنزل في قلوب كثيرة في وقت واحد وعلى اختلاف الأوقات والأطوار والشئون. إني لأتحدث إليك، وإن قومًا غيري كثيرين ليتحدثون إليك ويسمعون منك في هذه الساعة، وإن شيخًا وقورًا كريمًا قد أقام في قرية من قرى الريف؛ ليتحدث إليك ويسمع منك في ساعات النهار كلها، وفي ساعات الليل كلها، لا يمنعه من ذلك أن يمس طائف النوم جفنه أو يلم به الزائرون، أو أن يقيم عنده الضيف فيطيل المقام، إنه ليأنس بك يا بُنَيَّ أنسًا حُلْوًا يملؤه الحب وتملؤه الوحشة، ويملأ نفسه هو أسى ولوعة وجزعًا.
إنك لتفهم عني هذا الحديث يا بني، فأنت شاعر تفهم كيف يكون الأنسُ مُوحِشًا، وكيف تكون الوحشة مؤنسة … معذرة يا بني! … إن الشعراء حين يستأثر الموت بأجسامهم، معرَّضون لكثير من المحن؛ شأنهم في ذلك شأن الكتَّاب والفلاسفة؛ حياتهم ليست ملكًا لهم، وإنما هي ملك للناس جميعًا، فشعرهم مهما يكن موضوعه خليق أن ينشر ويذاع؛ لأن للناس جميعًا حقًّا فيه.»
هذه نتف من مقدمة الكاتب المصري الحر الأستاذ الدكتور «طه حسين» لديوان «عزيز»، وهو مجموعة قصائد الشاعر المصري الشهيد الدكتور «عزيز فهمي»، وواضح من هذه المقدمة أن الدكتور «طه» كتبها بروح العطف الذي تفيض به براعة الأستاذ على تلميذه النجيب، وبإحساس الوطني الحر نحو مريد عامل حر، افتقده الأدب كما افتقده الوطن!
أما إذا نظرنا إلى خطر هذا الديوان من نواحي قيمه الفنية والإنسانية والفكرية، فإننا لا نجده كبيرًا، وقد نحمِّل الدكتور «طه» مسئولية تقليد الشاعر الفقيد للقدامى، مذ شغله بالانغماس في القراءة لهم؛ «ليستقيم له مذهبهم ومنهاجهم» بدل أن يحثه على الاطلاع فحسب، ثم إرسال نفسه على سجيتها، وهي النصيحة الوحيدة التي تحترم مواهب الشعراء الأصليين، وتؤدي إلى إنصافها في نهاية الأمر، ومثل هذا الخطأ التوجيهي وقع فيه من قبل «مصطفى صادق الرافعي» و«أحمد حسن الزيات» و«محمد صادق عنبر»، ولكن صدوره عن الدكتور «طه» أمر عجيب!
واعتقادنا أن هذا التوجيه الشائع في مصر قد أدى إلى تدهور الشعر المصري، بالنسبة إلى الشعر اللبناني أو العراقي أو الفلسطيني، بله الشعر المهجري.
وإنه ليحزننا أن نجد كثيرًا من الشعر المصري أصبح مجرد عرض جميل الصياغة لخواطر ومعان سبق إليها وترددت تكرارًا، في حين ينكر الابتداع.
ولا ريب أن الدكتور «طه» اجتذبته إلى التنويه بالديوان وصاحبه، وطنيةُ شاعرنا الفقيد، والأواصر المختلفة التي تربطه به، ولكن كم كنا نود لو أن الدكتور «طه» عُنِيَ مثلًا بالشاعر الوطني المصري الشاب «كمال عبد الرحيم» صاحب ديوان «إصرار»، الذي أبت وطنيته إلا أن ينشره في أحرج الظروف التي تتطلب الشجاعة وحسن القدوة، فتعرض ديوانه للمصادرة، ولكنه نال احترامنا كشاعر حرٍّ، حينما جَبُنَ سواه أو شُغِلَ بالانتهازية أو بممالأة الحاكمين بأمرهم، وليس بنافع أن يتقلب أولئك الآن، وأن يتلوَّنوا تلوُّنَ الحرباء.
فالشعراء الجديرون بهذه التسمية في أية أمةٍ من الأمم هم أولئك الذين يستلهمون الشعب، ويستلهمون الإنسانية، ويستلهمون مثالية رفيعة في آن واحد، ثم يصنعون من كل هذا سبيكة نورانية خالدة، وأما الشعر المتصنع — كيفما تبرَّجَ — فلن يعيشَ ولن يُحترمَ على مر الأجيال، وأما الشعر الأناني وإن ارتفع بخياله أو اختال بأبراده فلن ينال الإعزاز الشامل، الذي يناله مثل هذا الشعر من ديوان «إصرار»:
فإذا ما قَدَّمَ صاحبُ «المعذبون في الأرض» لديوان «عزيز» وجب علينا، بحكم تداعي الخواطر، ألا نُغْفِلَ هذه النظرة إلى الشعر الوطني الحر الذي فاض عن إيمان قوي وشاعرية حية في أحلك الظروف، ولم يرهب صاحبُه عُقْبَى الصدق والصراحة في أداء رسالته، بل دفع عن طيب خاطر ثمن ذلك من سجن ومصادرة، ولكننا لا نهتم بهذا الشعر لمثاليته فحسب، بل لطاقته الشعرية وروحه التجديدية أيضًا، فكلها تؤلف في نظرنا وحدة فنية جميلة خليقة بالإعزاز.
فما الذي نجده في ديوان «عزيز» من كل هذا، وقد عُنِيَ به الدكتور «طه» حينما لم يُعْنَ أقلَّ عنايةٍ بدواوينَ أخرى، وبكتب أدبية أخرى، أجلَّ قدرًا؛ سواء في طاقتها الشعرية أو في رفعتها، وحسبنا أن نذكر على سبيل المثال ديوان «الجواهري» لشاعر العراق «محمد مهدي الجواهري» و«الفكر العربي الحديث» «لرئيف خوري» الأديب اللبناني الإنساني!
ومع ذلك لا نقلِّب ديوان «عزيز» إلا وفي عيننا دمعة، وفي فؤادنا حرقة؛ إذ نجد الوطنية والإخلاص، تحاولان النهوض بشاعريته المحدودة، وبطبعه التقليدي، فتتحفاننا بما نحترمه ونحبه، وإن لم يكن أخَّاذًا بفنه، ولعل من أحسن شعره الوجداني المطبوع قصيدته «يا قارئ الكف» التي يقول فيها:
ومهما يكن من شيء فهذا ديوان يقرؤه الدارس باحترام؛ لأنه خواطر إنسان شريف، سواء أتألَّقتْ فيها العاطفة والخيال فاستحالت شعرًا فنيًّا، أم بقيت على سذاجتها الغنائية بهجة للأسماع فحسب.