الربيع المحتضر
للشاعر العراقي صالح جواد الطعمة
حينما نرجع بالذاكرة إلى خمسة وأربعين عامًا أو تزيد، ونحن نقرأ مع الأستاذ «محمد
كرد
علي» قصائد «الرصافي» و«الزهاوي»، التي كانا يوافيان بها مجلته «المقتبس» نماذجَ للتجديد
الجريء في ذلك العهد، ثم نقابل بين تلك النماذج وحفيداتها التي يَطْلُعُ علينا بها شعراء
الشباب في هذا العهد من بلاد الرافدين، تتملكنا الغِبطة — ولا نقول العجب — للتطور التقدمي
البديع في الشعر العراقي.
وعهد بيننا وبين أنفسنا — كما أنه من حق الأدب والأدباء علينا — أن نتناول بالدرس
نماذجَ
ذلك الشعر جميعه، الذي تسعدنا الظروف بالحصول عليه، ولئن حال المجال دُونَ التوسُّعِ،
فلن
يحول استقلالُنا دون التقدير النزيه، والإنصاف، بل إنه لكفيل بهما.
أمامنا اليوم ديوان «الربيع المحتضِر» للشاعر العراقي «صالح جواد الطعمة»، وإنه ليسترعي
انتباهَنا من بدايته بظاهرتين: أولاهما ثقة الشاعر الشاب برسالته فنًّا وموضوعًا، وهذه
تتجلى في انطلاقه، ومزجه الأوزان، ومعالجته موضوعات فكرية، ووجدانية رفيعة. وثانيتهما:
طاقته الشعرية المتأرجحة تأرجحًا بينًا، فهو يعلو حينما
يتناول موضوعات الحرية والكرامة البشرية، مجاريًا ومنافسًا الشعراء الأحرار من بني قومه
وغيرهم، وهو يهبط حينما يُضْطَرُّ إلى شعر المناسبات المألوف، وحينئذ لا نسمع منه إلا
نظمًا
هو أقرب الأشياء إلى الخطب السياسية، ولكنه في هذا وذاك على السواء متأثر بالحركة التحررية
العصرية في التعبير، وعلى الأخص بطابعها العراقي الجديد الجميل.
خذ مثلًا قصيدته الأولى الممتازة «ضلال الفنان»:
أيها المُطْرقُ الكئيبُ إلى اللوحةِ تلهو بالريشة الحمراءِ!
تَبعثُ الفَجرَ والينابيعَ والزَّهر وسحرَ الظلالِ والأشذاءِ
وتُشيعُ الحياةَ في المَيتِ الرُّوحِ، وتحنو عليه بالأنداءِ
فتلوحُ الرسومُ مشرقَة الألوان تزهو بذائبِ الأضواءِ
مِنْ سَنَى مُقلتيكَ — يا ضيعةَ العُمْرِ! وتمتصُّ منك زَهْوَ الدِّماءِ!
يا لَهَذَا الضلالِ! كم تُحْرِقُ الرُّوحَ وتُذْوِي للفَنِّ زهْرَ شبابكْ!
أترَى غيرَ سُخرياتٍ من الناس وغيرَ الإنكارِ من أصحابِكْ؟
فلمنْ تَهجرُ الحياةَ وسَلواها وتَبقى تلتاعُ في مِحْرابكْ؟
وقد ختمها بقوله:
ليس يَهْنيكَ غيرُ أن تُترعَ الكاسَ لصادٍ تُلهيه خفقةُ آلِ!
وتُسلِّي المجروحَ بالنَّغم الآسي وتُوحِي للناسِ بالآمالِ
لستَ كالناسِ تَرْتَجي لك إِكْرامًا وتغريكَ خِدْعةُ الإجلالِ
فابْقَ في الهيكل المعطَّر بالفَنِّ تُشيعُ الحياةَ في لوحاتِكْ
وتُغنِّي للأرضِ، للملأ المُضْنَى فيَلْقَى السُّلوانَ في أُغنياتِكْ
أنتَ كالزَّهْرِ، أنتَ تأرجُ بالعطرِ وحُلوُ الرَّحيقِ في زهراتِكْ
ينْتشي الناسُ من شذاه، فتذوي وتَدُوسُ الأقدامُ زَهْرَ حياتكْ
حسبُكَ المجدُ أن تكونَ لهم زهْرًا وتُوحِي السُّرورَ من مَأساتِك!
وفي هذه القصيدة فكرة لا نقول إنها جديدة، ولكنه عبر عنها بعاطفة حارة، وقد يعاب عليها
عدم التركيز وبعض الركاكة في قليل من التعابير، ولكنها في جملتها تتسم بالإخلاص والوحدة
الفنية والموسيقى المقبولة!
وعلى الرغم من سمات الكآبة والوَجْدِ — في كثير من شعره — نرى أن شاعرنا لا يعيش لنفسه،
وأن له لزفرات حارة من أجل المجتمع الإنساني، ومن أجل قوميته العربية.
ولعل يتيمة هذا الديوان قصيدته «أغنية زنجية»:
على الأفقِ طال انتظارُ العبيد إلى النور، في الأُفقِ الأَجهمِ
وأغنيةٌ من وراءِ الظَّلامِ تُغنِّي: تَقَدَّمْ ولا تُحجمِ
أمانيك كم داسَها السيِّدُ المُذِلُّ عتوًّا ولم تَأثَمِ
وكم يُترعُ الكأسَ ممَّا سَفَحْتَ! وما لكَ منه سوى العلقم
تَقَدَّمْ! لقد مَلَّنا الغُلُّ ملءَ الرضا والخضوع، ألم تسْأَمِ؟
أَعَدْلًا تُفدِّيهمو بالحياة، ومالك في الأرضِ من مَغْنَمِ؟
وظُلْمًا إذا تَتأبَّى الهوانَ لتهنا — من العُمرِ — بالأنْعُمِ!
تَقَدَّم — فديتكَ — لا يَرْهَبنكَ بَطْشُ الطُّغاةِ وسَفْكُ الدَّمِ
متى نَهِلَ المجدُ غيرَ الدِّماءِ وطابتْ حياةٌ بلا مَغْرَمِ؟
على الأُفْقِ طال انتظارُ العبيدِ؛ تقدمْ إليهم ولا تُحْجِمِ!
سنُطلِقُ في أوْجُهِ الآثمينَ زئيرًا من المَعْقلِ المظلمِ
فَتندكُّ أسوارُه البالياتُ وتنهارُ من ثورةِ النُّوَّمِ
سيكتسحُ العاصفُ المستثارُ مَغارسَ سيدك الأعظَمِ!
فَنَبْعثُها أُغْنياتِ ابتهاج ونَلْقى السِّتارَ على المأْتَمِ
فلا سيدٌ يَسْتَذلُّ قواكَ ويَرْوِي خَمائلَه مِنْ دمي!
ثم يختمها بهذه الأبيات المتجهمة، وقد تعثرت موسيقاها:
حرامٌ! متى كان يا عبدُ أن تغمرَ الأشقياءَ رُؤَى البَلْسَمِ؟
لتأسو جِراحَ الأرقاءِ مِنْ غُلِّهم كم طواهم بلا مَأثَمِ؟
وأغنيةٌ من وراء الظَّلامِ تحنُّ إلى النُّور أو لِلدَّمِ
يُردِّدُها، لا يَزالُ العبيدُ زئيرًا من المَعْقِل المُظلمِ!
فهذه القصيدة القوية الأصيلة في مجملها كان يمكن أن تشرف على الكمال لو أن شاعرنا
عُنِي
عنايةً أوفى بصقلها اللفظي والموسيقي، ولكننا نلحظ أنه أكثر إجادة في ديباجته حينما يكون
أكثر انطلاقًا، كما نرى في قصيدته «العائد» التي تعد من عيون شعره ومن بدائع الشعر الرمزي
الحديث:
لا زلت أذكر كيف عاد بي الطريق:
قَلِقَ الملامحِ، واجمَ اللحظاتِ يعبثُ بي الذُّهولْ
وبَراعمُ الأحلامِ ينثرُها على الأرضِ الذُّبولْ
وتكاد أنفاسي تضيقْ
والذكرياتُ تُطِلُّ في ذُعرٍ من الماضي تُفيقْ
ماذا أثار الذكرياتْ؟
السُّحْبُ والأغصانُ عاريةٌ أم الحقلُ المَواتْ؟
أم مشْهَدُ الأكواخِ تُهْجَرُ خوفَ عاصفةِ الشتاء؟
والدَّوحةُ الزهراءُ أوحشَها الخريفُ فلا يَرِنُّ بها عفاء!
•••
لا زلتُ أذكرُ يومَ عادَ بيَ الطريقْ
وأنا أَحِنُّ إليكِ، للسُّلوانِ، للقلب الرفيقْ
شَفتايَ دبَّ عليهما الصَّمْتُ الثَّقيلْ
وتنهداتُ الصدرِ تسأل عن حَنانْ
وفؤاديَ المذعورُ يَخْفِقُ، كان يَخْفُقُ كالجبانْ
لكنْ وجدتُكِ تَجهلينَ السِّرَّ، يَغْمُركِ الذُّهولْ
مذعورةً مثلي، وفي وَلَهٍ عليَّ تردِّدينْ:
ماذا دَهَاكْ؟
«لِمَ عُدْتَ واهي الصَّدْرَ، ما سِرُّ الأَنينْ؟»
وبقيتِ في إشفاقةٍ تتساءلينْ:
«لِمَ عُدْتَ؟ ماذا قد دَهاكْ؟»
•••
وشِفاهيَ الْوَلْهَى تَضِنُّ عليكِ بالسرِّ الحزينْ
لكنْ سمعتُ تنهُّدات الصَّدْرِ تَصْرَخُ في جُنونْ:
«لِمَ يَهجُرُ الكُوخَ الرُّعَاهْ؟»
وخمائلُ الرَّوْضِ المُظَلِّلِ، كيف تَقْفِرُ مِنْ حَيَاهْ؟
والطيرُ؟ ماذا يُخْرِسُ الطيرَ المغردَ في مِرَاحْ؟
فيطيرُ عن وَكَنٍ يَعزُّ عليه مبتلَّ الجَناحْ
والريحُ تنْحِبُ في جُنونْ!
كانت تَضِنُّ عليكِ بالبَوْحِ الشِّفاهْ
لكنْ سمعتِ السِّرَّ من صَدْرِي ومن أَلَقِ العيونْ
فتألَّقَتْ عيناكِ بالدَّمعِ المضاعْ
تبكينَ زهرًا لا يُروِّيهِ بكاءٌ والتياعْ
فلقد مَضَى عنه الربيعُ
والناهلُ الأشذاءِ ولَّى، لم يَعُدْ زهري يَضوعْ!
إن الشاعر «صالح جواد الطعمة» من الأدباء الشرقيين القليلين الذين يحترمون النقد الأدبي
بل وينشدونه، وممن يحترمون خاصة مقاييس النقد الأدبي الصارمة في الغرب، وهي التي تقضي
على
النفايات وعلى التقليد الأعمى، وتشجع الابتكار وتُجِلُّ المواهب الأصيلة؛ ولذلك نرجو
خيرًا
لمستقبل هذا الشاعر الوجداني الوثاب، كما نهنئه بما قد أحرزه من توفيقٍ.
وبينما يُشغل بعض الكتاب باختيار النماذج المهلهلة أو الغنائية التي كلُّ مَيزتها
— إن
كانت تلك مَيْزةً — دلالة صَدْرها على عجُزها، وسهولة تعابيرها إلى درجة الابتذال، دون
الالتفات إلى مبلغ أصالتها؛ اكتفاءً بما تجمَّعَ فيها من تعابيرَ حُلوة وأخيلة مُزَوَّقة
منهوبة، لا يسعنا إلا التنويه بما هو أبقى من تلك، أي بما هو أكثر أصالة وألمعية، وبما
هو
أجدر بالتنويه به، سواء أكان صاحبه مشهورًا أم مغمورًا، ولدينا في ديوان «الربيع المحتضر»
نموذج صالح لذلك.