من الشعر الغنائي العراقي
يلاحظ النقاد المستعربون أنه بينما لا تتجاوز منزلة الشعر في الأقطار الأوربية والأمريكية المستوى الفني الاسطيقي الذي يقترن بالصقل والتهذيب والترفيه في عصرنا الحاضر — شأنه شأن الفنون الأخرى — نجده لا يزال في الشرق ذا نفوذ متغلغل بتأثيره الاجتماعي والسياسي، وقد سبق كما لازم النهضات الوطنية والفكرية والاجتماعية.
ومن أحدث الأمثلة على ذلك شعر «محمد حافظ إبراهيم» وأثره في النهضة الوطنية المصرية!
ومن تحصيل الحاصل أن يقال إن الشعر هو التعبير الكلامي الموسيقي عن الحياة بطريقة فنية أخَّاذة، وفي الحياة أشياء كثيرة تبدو للناقد السطحي تافهة أو عابرة، ولكنها ليست كذلك للشاعر إذا ما تأثر بها فِعلًا، فعبر عن عاطفته نحوها بحرارة وتَعَمُّق، فليس كلُّ معنى يخطر بالبال جديرًا بالحفاوة أو حَرِيًّا بالإهمال؛ بل الحكم في ذلك يرجع إلى مبلغ تأثر الشاعر بذلك الخاطر، وإلى درجة قدرته على التعبير الفني عنه بأصالة وطلاقة.
كذلك مِنْ تحصيل الحاصل أن ننبه إلى أن الروح الإقليمية في الشعر إذا جاءت فطرية فلا غبار عليها، وقد تكون من حسناته بالنسبة إلى خلق ألوان مُنَوَّعَةٍ منه، ولكنها قد تصبح من عيوبه إذا ما أدت إلى حصر آفاقه، أو أدت إلى خلق عصبيات، لا تمتُّ إلى روح الأدب السليم بصلة.
ومن تحصيل الحاصل أيضًا أن نقرر أن أسمى الشعر الذي يرتفع إلى مقام الخلود، ليس ما يحوم عاجزًا حول العابر المألوف، بل هو ما يحلق بموضوعه — ولو كان في ظاهره تافهًا — تحليقًا ينتظم الحقائق الأزلية في عَرْض فني ساحرٍ، لا تَذْهَبُ برونقه العصور ولا تطغى بضوضائها على حلاوة موسيقاه، وافتنان أخيلته، ووثيق اتصاله بالإنسانية جمعاء، لا بوسط أو بإقليم معين.
ولا يعني هذا بأي حال إصغارَ الشعر الليريكي العاطفي المحض؛ إذ له منزلته الفنية الخاصة، وقد يصعد بنفسه إلى طبقة أرقى من المستوى الشخصي؛ كما نرى في عاطفيات «ناجي» و«الصيرفي».
وأخيرًا نرى من البداهة بمكان أن نقول إن مبلغ الإنتاج الشعري لا علاقة له بالأصالة ولا بالطاقة الشعرية، وإنما الأمر يتعلق بالمواهب وحدها؛ فرُبَّ شاعرٍ مقلٍّ يكون مُسِفًّا، ورب شاعر مكثر يكون مُجيدًا، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ومن الشعراء المكثرين اللامعين قديمًا «مهيار الديلمي»، وحديثًا «عبد الرحمن شكري»، فضَرْبُ المثل بحوليات «زهير» لا يساند فكرة سليمة، وما كانت «حوليات زهير» على أي حال بالمعجزات، ولو أنها نالت الحفاوة بها في زمنها.
نذكر هذا التمهيد توطئةً للحديث عن بعض النماذج من الشعر الغنائي العراقي، مقتصرين في هذه المناسبة على الشاعر الليريكي «عبد القادر رشيد الناصري»؛ فهذا شاعر مكثر، مجيد، عذب الموسيقى، يسبق نضوجه سنه.
ولئن انتسب إلى مدينة الناصرية، وجرى في عروقه الدم الكردي، فإنه من أولئك الشعراء الذين ينتسبون في الواقع إلى كل قطر، وإلى الإنسانية جمعاء، وله قصائد كثيرة شائقة تضمنتها مجلات شتى ومجاميع شعره، وكلها تنبض بحرارة عاطفية وبعذوبة غنائية فريدة لا نجدها في الشعر العراقي التقليدي، أو الكلاسيكي؛ كشعر «الرصافي».
•••
•••
•••
وشاعرنا يطل الآن على شرفة الثلاثين من عمره. ويخيل إلينا، وهو ما يزال في الدور الاستيعابي للجمال الفني الذي يعاصره، أنه سينتقل يومًا إلى الدور الابتداعي القوي، غير مكتف بهذه السلاسة المأنوسة والمعاني السائرة المعشوقة التي تذكرنا بلطائف «علي محمود طه» التي تغنى بها الفنانون، ولكن لم يسجد لها الشعراء الأصيلون ولا النقاد الحصيفون.
بيد أن قصيدة «شهرزاد مدريد» ذات إطار أصيل من التجربة والسرد والمقارنة، فلها إذن طرافتها الخاصة الشائقة، ويعجبنا منها التسلسل القصصي المطبوع وليونة تعابيرها، وعذوبة جَرْسِها؛ بحيث إنها في أخيلتها وموسيقاها تنافس أغنية «الجندول» «لعلي محمود طه».
وبعد، فهذا مثالٌ لما تنجبه العربية القياسية والتبادل الثقافي والفني بين الأمم العربية من تجانس الشعر الغنائي الفصيح أسلوبًا وأخيلةً وصُوَرًا، إلى درجة انتفاء الصبغة الإقليمية في كثير من الأحايين وتجلي روح العصر عليها جميعًا، وإن وجدت نماذج قليلة لشعراء يتميزون بابتكارهم؛ وكأنما لا يعيشون في القرن الذي يحيون فيه، فهم جِدُّ غرباء عنه، وقد تعوزهم خصال وعناصر تحببهم إلى أهل زمانهم، فيلبثون في غربتهم هذه إلى أن يتبدل قراؤهم كما حدث «لمحمود حسن إسماعيل»، أو إلى أن يذهب الموت بما حولهم من حزازات وأحقاد كما حدث «لابن الرومي».