رابندرانات تاجور١
ما استمتعت مرة بقراءة «خطبة الجبل» للسيد المسيح عليه السلام، وهي في رأيي لب تعاليمه النورانية؛ إلا تخيلت صورة جميلة لطلعته، وصوته، ونفسيته الحلوة؛ وكأني سعدت برؤيتها عيانًا سنة ألف وتسعمائة وست وعشرين، حينما كلفت رسميًّا بصحبة الشاعر العالمي «رابندرانات تاجور» في أثناء زيارته بمدينة «بورسعيد»، التي اجتذبت إليها من قبل شعراء مهتدين، على رأسهم شاعر النيل «محمد حافظ إبراهيم»، فإن نفسيته الحلوة وصوته الحنون، ووجهه المشرق، انطبعت في ذهني وفي قلبي انطباعًا قويًّا حبيبًا، لا يمكنني أن أنساه ما حييت، وقد نشرت مجلة «الزهراء» منذ ربع قرن آثار ذلك الانطباع، كما نُشِرَتْ في الجزء الأول من كتابي «مسرح الأدب».
ومنذ عشر سنوات انطفأ ذلك الكوكب الوهاج، بعد أن ملأت أشعته الكون وطافت وما تزال تطوف بأرجائه، فهي غير مشهودة في شخصه، ولكنها محسوسة في جميع آثاره القائمة على الحب والسلام والجمال.
والآن حينما تتحدى القوة الغاشمة حرية الناس باسم الحرية ذاتها، وحينما يتشح الذئب بثوب الحمل، لا تجوز أن تفوتنا ذكرى ذلك الإنسان العظيم، الذي قال: «حيثما كان الذهن عديم الخوف، والرأس مرفوعًا، والمعرفة عامة، وحيثما كانت الكلمات تأتي من عمق الحقيقة … ففي هذه السماء دع بلادي تستيقظ!» والذي قال أيضًا: «إن التحرر من قيود الهجوع هو الحرية التي أطلبها لك يا وطني؛ التحرر من فوضى القدر، الذي تخضع أشرعته عاجزة لأجنحة عمياء … التحرر من رحمة الإقامة في عالم للدمى … فحيثما كان الذهن حرًّا، والرأس مرتفعًا في سماء الحرية، دع بلادي تستيقظ!»
وكما كان «بوذان» «والمسيح» «ومحمد» بين الأنبياء والرسل، ماهدين للإخاء البشري؛ جاء «تاجور»؛ كما جاء «غاندي» «وولز» برسالة قرينة لروح أولئك الأنبياء والرسل الكرام!
- أولها: محاولة التوحيد بين الثقافات الشرقية.
- وثانيها: درس الثقافات الغربية، وعلى الأخص ما كان منها ذا صلةٍ بالثقافات الشرقية.
- وثالثها: تحقيق الانسجام العلمي والثقافي بين الشرق والغرب، والعمل على خلق الوحدة الفكرية الروحية بين الناس. فهي بصورتها هذه أرقى من «الأكاديمية» التي أنشأها «أفلاطون» في حديقة «أكاديموس»، ومن «مدرسة المشائين» التي أنشأها «أرسطو».
كان «تاجور» المتصوف المؤمن بوحدة الوجود يؤمن ضمنًا بوحدة البشرية، وقد أجاد نقل مبادئه ورسالته الروحانية إلى اللغة الإنجليزية نثرًا ونظمًا، مستمدًّا من أجمل ما أوحت به البرهمية، وشاعريته الصوفية ونزعته القصصية الفائقة التي لا تهمل شيئًا من صور الحياة مهما تكن ساذجة، ووطنيته النقية المنسجمة مع إيمانه بالتعاون العالمي الكامل.
وما تزال مدرسته التي دشنت في سنة ألف وتسعمائة وواحد، باسم «مهبط الأمان»، كعبة يحج إليها عشاق هذا الشاعر المتصوف الفيلسوف في قرية «بلبور»، فيستوحون منها كما يستوحون من مؤلفاته العديدة كل معاني الجمال والسلام والرفق والإخاء، وهي القيم الوحيدة الباقية لنا من هذا الوجود وتجاريبه.
وإن ننس لا نَنْسَ اهتمام «تاجور» بالعرب وآدابهم وبالثقافة الإسلامية، وكيف عُنِي بالدعوة إلى إنشاء كرسيٍّ لها في جامعته، فلم يجد مجيبًا من بين أغنيائنا. ولا ننس أنه كشاعرٍ تمنى حياة أقوى للشعر العربي المعاصر، حيثما اطلع على مترجمات شهيرة منه. ولئن جاملَ بتلبية زيارات، فصراحته في مذهبه الفني، لم تكن تعرف المجاملة إطلاقًا، وكذلك تقديره للحرية الإنسانية، وأظهرُ تقديرِه للشعراء الشيوخ العرب اتجه إلى «خليل مطران»، بعد أن وقف على مترجمات من شعره الرومانطيقي الإنساني، التي زخر بها الجزء الأول من ديوان «الخليل»، وهو وحده الذي كان مطبوعًا في ذلك الحين، ولئن رحل «تاجور» الآدمي عنا، فما تزال جامعته الحرة الإنسانية التعاليم قائمة، وما تزال ترحب بكل ما يستطاع إهداؤه إليها من آثار الأدب العربي قديمه وحديثه، وبتدريس الأدب العربي فيها.
إننا في الواقع اعتمدنا على الطبيعة للتغلب عليها بوسائلها ذاتها في الماديات، وقد كسبت الإنسانية من وراء ذلك، فلماذا لا نبلغ نظيرة هذه المرتبة في الروحيات.
لماذا لا نكبح جماح الشهوات ما دمنا نعلم أن الاسترسال في الشهوات يسيء إلى الإنسانية؟
في العالم قانون أدبي يطبق على الجماعات كما يطبق على الأفراد، وليس لكم أن تهاجموا هذا القانون بصفتكم شعوبًا، وأن تجنوا ثمراته بصفتكم أفرادًا!