صورة من الشعر القديم
في طليعة الشخصيات الشامخة في الشعر العربي شخصية «الشريف الرضي»، وإنها لبرهان آخر على أن الأدب الأصيل الصادق العظيم، لا يمكن فصله عن الشخصية العظيمة اللامعة فهما شيء واحد، يترجم عن كِيانه بتعابيرَ شتى ما بين أعمالٍ وأفكارٍ وعواطفَ.
كان «الشريف الرضي» في سلوكه مثالًا لعزة النفس وشرفها، وكان جد حريصٍ على العدل، واشتهر كذلك برجاحة عقله وبتأملاته في فلسفة الأخلاق، وبنظراته الاجتماعية الدقيقة، كما نبغ في الشعر منذ طفولته وجاء هذا الشعر صادقًا مطبوعًا، كامل التصوير لنفسيته؛ كأنه لوحات فنية عظيمة، ثم جاء نثره البليغ الجزل آية في الفخامة، حتى نُسب إليه تأليفًا — لا جمعًا فحسب — كتاب «نهج البلاغة» المحتوي كلام «علي بن أبي طالب» أو معظمه، وتميزت له تصانيف جليلة في مجازات القرآن ومعانيه، تمت عن تضلعه في علوم اللغة، وفوق هذا وذاك كانت له — كما جاء في «عمدة الطالب» — «هيبة وجلالة، وفيه ورع وعفة وتقشف، ومراعاة للأهل والعشيرة … كان أحد علماء عصره، قرأ على أجلَّاء أفاضل»؛ كما كان معلِّمًا جليلًا أحبه طلبته وأعزوه، والتفوا حوله في مدرسته التي أسماها «دار العلم»، وكان يتبرع لهم بعلمه وبحاجاتهم. كل هذه الشمائل الأدبية والخلقية التي انصهرت في سبيكة واحدة هي التي ترتكز عليها شهرة «الشريف الرضي»!
يصف «الثعالبي» «الشريف الرضي» بأنه «أشعر الطالبِيِّين؛ مَنْ مضى منهم ومن غَبر، على كثرة شعرائهم المفلقين»، ثم لا يتردد في أن يذكر: «ولو قلت: إنه أشعر قريش، لم أبعد عن الصدق.» كما يذكر: «ولست أدري في شعراء العصر أحسن تصرفًا في المراثي منه.»
وكما كان مترسلًا في النثر يصح أن يعد نظمه من الطراز ذاته، حتى إنه ليقارن بنظم «البحتري» في الصياغة المطبوعة السمحة، ولكن شعر «الشريف الرضي» يمتاز بتعبيره الفخم النبيل عن نفسٍ نبيلةٍ، وبالترفع عن كل ما يَشين، وأبت نفسه الشامخة إلا أن يخاطب الخليفة القادر بالله، بقوله:
قد يشتهر شاعر بقصيدةٍ واحدةٍ سكب فيها عصارة قلبه، فليس من الضروري إذن أن يكون الشاعر المجيد مكثرًا، كما أنه ليس من الواقع أن كل شاعر مقلٍّ مجيد، ولكن بين فحول الشعراء مَنْ جمع بين الإكثار والإجادة في آنٍ واحد؛ لأن ذلك طابع عبقريته، وهؤلاء قلة نذكر منهم في العربية على سبيل المثال «مهيار الديلمي» و«ابن الرومي» و«ابن حمديس» و«الشريف الرضي».
وإذ نحن بصدد «الشريف الرضي»، فلنا أن نقول إنه برع في جميع فنون الشعر العربي التي كانت معروفةً في زمنه، ولو كان أدب الملاحم الإغريقية وسواها معروفًا عند العرب حينئذ لكان «للشريف الرضي» — لا ريب — جولات موفقة فيها، ولكن غلته تقاليد بيئة المحافظة وجهلها بالشعر الإغريقي أو صدوفها عنه؛ لتوهمها إياه خطرًا على التوحيد.
علينا بعد هذا أن نأتي ببعض الشواهد الدالة على فخامة شعره وعبقريته، وإننا بالفعل لنجد أنفسنا في حيرةٍ حول ما نختار منها وما نترك. ولأمرٍ ما — ولعله طابع الوفاء المؤثِّر — تجتذبنا مراثيه، وإنها لفي الذروة من حرارة العاطفة، ومن ذا الذي يمكن أن ينسى مرثيته «لأبي إسحق الصابي» التي يقول فيها:
ومنها:
ولا تَقِلُّ روعةً عن هذه القصيدة مراثيه الأخرى؛ مثال ذلك رثاؤه لوالدته الذي يقول في مستهله:
ومنه:
ومثله رثاؤه المؤثر لوالده الذي يقول فيه:
ومثله رثاؤه البليغ «للصاحب بن عباد»، وفيه يقول:
ومثله رثاؤه الوفي للخليفة «الطائع بالله»، وقد توفي في مجلسه وهو مخلوع، وكان في خلافته شديد الميل إليه؛ وفي هذا الرثاء يقول:
وأقرب إلى الرثاء تفجعه لخلع ذلك الخليفة في قصيدتين من عيون شعره!
فإذا انتقلنا من الرثاء وجدنا أبوابًا أخرى عديدة تستهوينا دواعيها وفرائدها؛ سواء في الشعر الوصفي التصويري، أو في الزهد، أو في النسيب، أو في الإخوانيات، أو في الفخر، أو في شكوى الزمان، أو في غير ذلك من أبواب الشعر الكلاسيكية، دع عنك حجازياته المشهورة.
ومن أوصافه الرائعة: وصف «إيوان كسرى»، ووصف «بيوت النار بيوم الشعانين»، و«وصف الليل»، و«وصف الحيرة»، و«وصف الأسد»، و«وصف القلم». وديوانه الضخم الواقع في نيفٍ وتسعمائة صفحةٍ من القطع المتوسط، والحاوي آلافَ الأبيات السِّرِّيَّةِ؛ هو ثروة كلاسيكية للأدب العربي لا تقدَّر بثمن؛ وإذ كنا نزور حديثًا مجموعة لوحات «رامبرانت» في متحف «المتروبوليتان» للفن بنيويورك، اتفق أن كان بصحبتنا ديوان «الشريف الرضي»، فكان إحساسنا قويًّا بالشبه بين ما بيدنا وبين ما رأينا، ومهما يكن التطور في الأذواق والأساليب في الشعر أو التصوير أو في غيرهما من الفنون الجميلة؛ فما تزال للشعر الكلاسيكي عظمته، وما تزال لشعر «الشريف الرضي» عظمة خاصة.
ولم يقل ناقد منصف إن خصوبة فنه أو سرعة إنتاجه انتقصته بأي حال؛ فإنتاج «المعري» الهائل لم يكن مظهر إفلاسه، كذلك لم تكن آثار «شيكسبير» العديدة ولا آثار «هومير»، كذلك لم تكن سرعة «روسِّيني» مثلًا الذي وضع «حلاق إشبيلية» في أقلَّ من ثلاثة أسابيع، أو سرعة خاطر «أبي نواس» المتألق في شعره الصافي.
ولكن الناس عادة عبيد الحسد، قلما يعرفون قيمة الرجل العبقري إلا بعد وفاته، وهم على خير تقدير عبيد المألوف، وخصوم المتميز:
وهذا كان حال «الشريف الرضي» على ما أوضحه فقيد الأدب الدكتور «زكي مبارك» في كتابه الممتاز «عبقرية الشريف الرضي».
ولسوء حظ الأدب لم يعمَّر «الشريف الرضي» أكثر من سبع وأربعين سنة هجرية؛ فقد ولد في «بغداد» سنة ٣٥٩ﻫ، وتوفي «بالكرخ» سنة ٤٠٦ﻫ؛ حيث دفن بداره أولًا؛ ثم نقل إلى مشهد «الحسين» «بكربلا»، فدفن عند أبيه. ومع ذلك أعطى الأدب العربي في هذا العمر المحدود كنزًا عظيمًا من الشعر والحكمة والنقد الاجتماعي والمثاليات الأخلاقية العليا.
ويقول لنا المؤرخون إنه نشأ في حجر والده ودرس العلم في طفولته، فبرع في الفقه والأدب واللغة والنحو، وبدأ يقرض الشعر في سن العاشرة، وألَّف وعلَّم، وضرب المثل للشعراء والأدباء في الترفع بآثارهم، وفي ابتداع مثاليات لهم، متنزهًا عن العبث والمجون، كما تنزه عن قبول صلةٍ أو جائزةٍ من أحدٍ، وكان آية الصدق والحزم والأمانة في عمله، وكل هذا نراه متجليًا في مرآة أدبه. كان يقيم في مدينة «سُرَّ مَنْ رَأَى» معظم حياته العملية، وبعد ما تولى نقابة الأشراف الطالبيين أخذ يتولى أيضًا النظر في المظالم والحج بالناس كما كان يفعل والده، إلى أن انصرف عنه الخليفة «القادر بالله». وآثار كل هذه الحياة الشريفة نحسها في ديوانه بلغة الفكر والعاطفة والفن، يحسها ويفْتَن من يُعنى بنشدانها؛ لأنها أرفع من مستوى الدهماء، على حد قوله:
يصف الدكتور «زكي مبارك» الشريف الرضي بأنه «الجندي المجهول»؛ وذلك لأن جلَّ شعره غيرُ مدروس، ويكاد لا يردد إلا شعره السياسي؛ لأن شاعرنا كان ضالعًا — فيما يقال — مع الفاطميين ضد العباسيين، ومن أجل ذلك اشتهرت قصيدته اليائية التي يُعرض فيها بحكومة الخليفة «القادر بالله»؛ كما اشتهرت قافيته التي يقول فيها:
ولولا ذلك الاعتبار السياسي لما تحدث عنهما أحد. كذلك لولا الثورة على كتاب «نهج البلاغة» والشك في صحة نسبته إلى «الإمام علي»؛ لما تردد اسم «الشريف الرضي» مرة أخرى؛ ذلك لأن شعره الخالد العظيم هو شعر فكرٍ ومثالية وعاطفة في آن واحد، فهو شعر من النسق العالي الفذ؛ وذلك لأنه لم يتكسَّبْ بشعره، ولم ينزل به إلى مصاف الدهماء وإلى منزلة المجون والعبث والتسلية الجوفاء؛ وذلك لأنه شعر المثقفين الواعين، وليس شعر الجهلاء وأنصاف الجهلاء السطحيين، وقد أدت النهضة الفكرية العربية أخيرًا إلى الحفاوة الكاملة بشعر «الشريف الرضي»، فأعزَّته جميعَه، ولم تهمل منه شيئًا، كما أهملت نظمًا كثيرًا للشعراء الوصوليين المذبذبين المتصنعين، ولو كانوا من المشهورين.
وخير ما نختم به هذا الحديثَ العامَّ عن أدب «الشريف الرضي» هذه اللآلئ من شعره، نقدمها دون تعمُّد الاختيار، وإنها لمرآة لشاعريته ولحكمته ولعاطفته مجتمعةً.
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
•••
وقد تساءل الدكتور «زكي مبارك»: ليت شعري متى يجيء العهد الذهبي الذي تسمو فيه الآراء بفضل ما فيها من قوة الصدق، لا بفضل من يحرسها من الجنود؟! وقد تساءل الشاعر «الناعوري» في «الثقافة»: لماذا هذا يروج وذاك لا يروج؟ والجواب عن ذلك أدلى به الدكتور «زكي مبارك» في فاتحة كتابه القيم ص٤٥، ولعلنا الآن على عتبات العصر الذهبي الذي كان يحلم به، رحمه الله ورحم «الشريف الرضي» رحمة واسعة، ورحم «الإمام عليًّا» الذي قال: «السبب الذي أدرك به العاجز بغيته، هو الذي أعجز القادرَ عن طِلْبَتِهِ.»