شعر النفاق والتسلية
أمَّا أن هناك شعرًا للتسلية فأمر مفروغ منه، بل إن كثيرًا من الشعر العربي يقصد به إلى التسلية فحسب. وعلى وجه التحقيق، هذا شأن الكثير من الشعر العربي الحديث بصفة خاصة، وقد تدلى جانب منه وتدنس بالانحطاط الجنسي، وما كان هذا شأنَ الشعر العربي إبان عظمة العرب بما يعنيه هذا الوصف من تعريف صحيح.
وأما أن هناك شعرًا للنفاق، فهذا أيضًا صحيح، وهذا وصف ينطبق على الكثير من الشعر العربي الذي يطأطئ للطاغوت ويشريه النفوذ، فيمتهن الكرامة الإنسانية، ويقف ضد حقوق الشعب، ويناوئ المثل العليا.
ومن الخطأ أن تظن أن الأثر الأدبي شيء وشخصية الأديب شيء آخر، وأن أدب الصنعة والنفاق يمكن أن يعيش مستقلًّا وينسى أمر صاحبه، فتاريخ الإنسانية ضد هذه النظرية تمامًا، وهذا هو «البحتري» الشاعر المشهور تُنوسيَ الكثيرُ من شعره الذي أملاه النفاق — على الرغم من أن صناعته الفنية واحدة ممتازة في جميع شعره — ولم يعش من قريضه مردَّدًا محبوبًا إلا ما أحست الإنسانية بإخلاصه فيه، مثل سينيته المشهورة التي استهلها بقوله:
هذا أيام كان يؤمن بهذه الأنفة وعزة النفس الأبية.
أو مثل تهنئته «للمتوكل على الله» بعيد الفطر:
وأما شعره الذي أملته ذبذبته السياسية فقد صدفت الإنسانية عنه، فالنُّبل في ذاته شعر رفيع، وما يطعن هذه الصفة الجميلة لا يحترم على مر الأجيال، ويفقد كثيرًا من الروح الفنية، ولو ادعت الصنعة أنها هي الروح! هذه ظاهرة سيكولوجية ليس بوسع أي ناقد تجاهلها؛ لأن شواهد التاريخ تمنعه من تجاهلها، وقد يكتب كاتب اسمه «فرح أنطون»، أو ينظم شاعر اسمه «نسيب عريضة»، أو يؤرخ محقق اسمه «عبد الرحمن الرافعي»، أو ينتقد أديب اسمه «مصطفى عبد اللطيف السحرتي»، أو يلحن موسيقار اسمه «سيد درويش»، أو تغني مغردة اسمها «أسمهان» أو يرسم مصور اسمه «وانلي»؛ فتحترم الإنسانية الواعية جهودهم؛ لأنها تجد خلف آثارهم شخصيات قوية صادقة الإخلاص، رفيعة المبادئ، متشعبة برسالة سامية، تطل على هذه الإنسانية وتحبها، في حين يُصْدَفُ — على مر الزمن — عن آثار أنجبتها الأنانية والغرور وشر الخصال عامة، واتسمت في جملتها بالنفاق حتى استحال نورُها إلى ظلمة.
وما استساغت الإنسانية أثرًا مجهول الأصل، إلا وتوهمت لصاحبه خصالًا جميلة، حتى في الأديان الوضعية الجديدة نرى حوارييها يَجهدون لإظهار أربابها في صورة نورانية من النبل كيما يُقْبَل عليها بانشراح، على اعتبار أن التراجم والآثار شيء واحد.
إن أمريكا مهد السريالية في الشعر بل في الفنون الحديثة أيضًا كما أنها مهد الشعر الحر، ومع ذلك لا ترتفع منها أصوات الغرور ضد الألوان الأخرى في الشعر الرفيع، والفكرة السائدة أن هناك شعرًا سهلًا ينظم على السجية، ولا عمق فيه كشعر «البحتري» أو ابن نباته في العربية، وهذا حبيب بطبيعة الحال إلى الدهماء والسطحيِّ الثقافة، وأن هناك شعرًا بعيد الغور كشعر «أبي تمام» أو «ابن الرومي» يستمرئه الخاصة؛ لما يوحيه من فكر وتأملات إلى جانب مثاليته الرفيعة، والناقد المستقل يشعر بأن ثروة الأدب تشمل جميع «الضروب».
أما بين أبناء العربية فلا يزال النقدُ عاثرًا أعرجَ؛ ذلك لأن الأغلبية الساحقة من النقاد ليس لديهم من أدوات النقد الأدبي السليم كثير ولا قليل، فإن آفاقهم ضيقة ومعارفهم سطحية، بل لقد انتقلت العَدْوَى من احتراف الصحافة إلى احتراف النقد الأدبي، بعد أن كانت الأولى تجتذب إليها كلَّ مَنْ هَبَّ ودَبَّ قبل أن أصبحت من الدراسات الجامعية المحترمة، وقبل أن نُظِّمَتْ لها نقاباتُها وحُرِّمَ الانخراط فيها على غير المثقفين المتخصصين، وليس كذلك حال النقد الأدبي المسكين الذي ما يزال تحت رحمة الانتهازيين السطحيين وأنصاف المتعلمين الذين يبيحون لأنفسهم إصدار الأحكام الجريئة ولا أحكام النفي والإعدام والحجر والحرمان في بلاد السوفييت!
إن الشعر شعور، ومردُّ الشعور إلى العقليْن: الواعي، واللاواعي، وهذان كثيرًا ما يتلاقيان، وعندما يتلاقيان كثيرًا ما يغرَّد الشعر بأنفس روائعه: كقصيدة «المتنبي» في إصابته بحمى الملاريا، وكَمرثية «المعري»: «غير مجد في ملتي واعتقادي»، والشعر الذي يمليه العقل الواعي وحده ليس شعرًا إذا دار حول نظرياتٍ وقواعدَ وقوانينَ وطلَّق العاطفة، وهذا ما نجده في نظم الفقهاء، والشعر الذي يمليه العقل الباطن وحده — وقلما يكون ذلك — هو شعر خالص يعتمد على الخيال والتهويل، مثل قصيدة «ظِلِّي»، ديوان «الشفق الباكي»:
أما الشعر الذي يزاوج بين العقل الواعي واللاواعي «الباطن» فهو في رأينا أسمى الشعر متى جمع إلى الخيال والتأمل والعاطفة فكرة أو مثالية سامية، وشواهد هذا الشعر قليلة في أية لغة؛ لأنه من النادر وجود الذهن العلمي الأدبي العاطفي في وقت واحد.
صحيح أن الشعر الجميل في أية لغةٍ جميل في غيرها متى لم يكن معتمدًا على الرنين الموسيقي فحسبُ استهواءً للأسماع، وسترًا لضعف الطاقة الشعرية ذاتها، والحديث عن القلب كمنبع للشعور والعاطفة إنما هو حديث مجازي؛ إذ مَرَدُّ العاطفة — التي هي عنصر هام في الشعر — إلى العقلين الواعي واللاواعي معًا: عقلَي النضوج والطفولة، والفكر والأحلام، والحقيقة والخيال، وليست العاطفة إلا تجاوبًا بينهما وتجاوبًا مع المؤثرات الخارجية في آن واحد، وليس صحيحًا ما يقال إن أشكال العاطفة والفنون المنبثقة عنها ستبقى كما كانت منذ الأزل، فالزمن والمحيط يؤثِّران على تلك الأشكال وعلى الفنون الناشئة عنها باستمرار وفي تطور متواصل، على الرغم من أحكام الغريزة، كما أن التناول الفنيَّ لأي موضوع ليس محدودًا بل جِدُّ منوَّعٍ لفظًا وصورة.
وكما خسرت الثقافة العامة طويلًا بتحكم السطحيين والجاهلين، كذلك خسر وما يزال الأدب عامة والشعر خاصة — إن لم نقل الفنون أيضًا — في العالم العربي بتحكم السطحيين والجاهلين الذين تملي عليهم هوائيَّتُهم الأحكامَ الشاذةَ الفاسدة.
إن الفن الخالد — والشعر فرعٌ منه — هو التعبير الأصيل الخلاق عن الحق والجمال، وقَصْرُ هذا التعبير على نماذجَ معينةٍ بالذات شَطَطٌ في شَطَطٍ، هذا ما عرفه الغرب فأفلح، وقد عكس إيمانه هذا في متاحفه المنوَّعة المتباينة، وأما في الشرق فما يزال حب التحكم سائدًا، ولا بد من أن يخضع الشعر لأشكال معينة ولموضوعات معينة، وإلا فلن يُعَدَّ شعرًا! وهذا تعسُّفٌ عجيبٌ ليس بعده تعسف.
لقد كان النزاع قديمًا حول الشعر بين المحافظين والمجددين؛ أما الآن فهو غالبًا ما بين المجددين وحدهم، وقد دخل في رَوْعِ بعضهم وفي رَوْعِ من جاراهم من المهللين أنهم كلما شطوا وتهوروا كانوا أعظم تحليقًا بشاعريتهم، وأن كل من عداهم أدعياء ومتطفلون، وإن عجزوا هم عن الإتيان بمثالٍ واحدٍ غيرَ ما ألفوه، وأكثر ما يصفقون له تلك الفقرات العصبية الجامحة الغامضة، التي كلما ازدادت غموضًا وتدانت في طفولتها عُدَّتْ نهايةَ الإعجاز!
وصفوة القول: إن شعر النفاق والتسلية قد جنى على الأدب العربي كما جنى على الذوق النقدي جناية السطحية والجهل والأهواء عليها، وهذه حالة مرضية يجب علاجها على ضوء الآداب العالمية؛ برًّا بمواهبنا وبتراثنا المجيد.