خليل مطران
قل بين أعلام الأدب والشعر والفن من نَتَهَيَّبُ الحديثَ عنهم تَهَيُّبَنَا الحديثَ عن المعلم الأول «خليل مطران»، الذي ولدت الرومانسية والرمزية الحديثة في العربية على يديه، قبل مطلع القرن العشرين، فإن المنن الضخمة التي أسداها هذا العَلَمُ الشامخ إلى الشعر العربي الجديد نظمًا أم نثرًا وشرف بها «مصر» وطنه المختار؛ فوق تقديرنا. ومن السهل الآن على بعض تلاميذه أو على نفر من تلاميذ تلاميذه أن يجحدوا كل هذا، ولكن التاريخ الأدبيَّ لن ينسى ذلك، بل إنه ليردده بإعزاز.
تألق نجم «خليل مطران» في الربع الأخير من القرن الماضي، تَأَلُّقًا لم يُعْهَدْ في شاب مثله من قبلُ، تألقًا جادت به عبقريته الموروثة وتعليمه الممتاز وحوادث زمنه المثيرة من سياسية واجتماعية واقتصادية وسواها، ومثل هذا التألق المنقطع النظير لم تقترب منه ألمعيةُ «المعري» ولا «أبي تمام» ولا «المتنبي» ولا «ابن الرومي» في صباهم على جلالة خطرهم فيما بعدُ.
و«مطران» أحد العباقرة الذين تشهد حياتهم بفضل المرأة، فإن هذا الشاعر اللبناني — الفلسطيني الأصل الذي شهد النور أول ما شاهده في يوليو سنة ألف وثمانمائة واثنتين وسبعين للميلاد بمدينة «بعلبك»، وقد زادها خلودًا أدبيًّا بإحدى قصائده الرائعة — إن هذا الشاعر الفذ ليدين وراثيًّا بحاسته الشعرية إلى جدته لأمه، وبالرجاحة لأمه «مَلكة الصَّباغ»، كما يدين لوالده «عبده مطران» و«لآل مطران» بالسخط على الظلم وبمحاربة الجبابرة، وكثيرًا ما سمعت شاعرنا يذكر أمه بحنان وإجلالٍ بالغيْن ويُنوِّهُ بفضلها البارز في تكييف شخصيته، وبهذا يشهد أيضًا الأديب المصري الأستاذ «وديع فلسطين» الذي لازم شاعرنا ملازمة شبه دائمة في أواخر عمره.
لقد تشرَّبَ «مَطرانُ» حُبَّ الحرية منذُ صغره، وتمكن منه هذا الحب إلى نهاية أجله، في صبيحة الأول من يوليو سنة ألف وتسعمائة وتسع وأربعين بالقاهرة.
ولئن تَطَبَّعَ مَطران بعادة المراجعة والمعاودة «وبالتقية أحيانًا»؛ وفاقًا لتعاليم أمه الرزينة الصالحة، وتبعًا لسلوكها الحكيم فإن صاحب «مقتل يُزَرْ جُمْهِرَ» و«نيرون» لم يتبدَّل مثقال ذرة — رغم وطأة الأحداث والعلل، وآخرها النقرس الذي قضى به نحبه — ولم يتحول عن روح الثورة على الطغيان وإلهام الشعوب العربية أسمى معاني الديمقراطية.
طلع «مَطرانُ» على الشعر العربي، وخير ما ظهر فيه حينئذ «التجديد الكلاسيكي» الذي أنجبه «محمود سامي البارودي» و«شكيب أرسلان»، فأشرق بفنون من الشعر الأصيل نَبَّهَتْهُ إليها روحُه الإنسانية ومطالعاته العالية الجمة، وإن تكن تلك المطالعات باللغة الفرنسية، ولازمه طولَ عمره حبُّ الاطلاع الواسع هذا؛ فانتظم المعرفة بآداب كثيرة؛ من غربية وشرقية، بله الأدب العربي الصميم القديم والمعاصر، وهكذا مَجَّ للأدب الجديد من ألوان الرحيق الشهي، ما أثر في جميع رواد الشعر الحديث على اختلاف مشاربهم، سواء اعترفوا بذلك أم لم يعترفوا، وسواء أشَعَرَ وَعْيُهُمْ بذلك أم لم يشعر.
ولكن الناقد الأدبي المستقل المطلع على «المجلة المصرية» وعلى كتابه «مرآة الأيام» وعلى شعره المنظم والمنثور المتعدد النماذج؛ لا يمكنه إلا الإقرار بفضل هذا المعلم المرشد الملهم، الذي خلق آفاقًا جديدة من التأمل والأحاسيس والتصوف، حتى استحق أن يُدْعَى «شاعرَ العربيةِ الابتداعيَّ الأولَ».
وما كان الشعر العربي في أي وقت فقيرًا في «المذهب الواقعي» ولا في الحكم التجريبية والأمثال الفلسفية، فلم يجئ «مطران» ولا أحد بعده ببدعة في هذا الباب، اللهم إلا في أسلوب التناول الفني الطلق، وإنما جاء «مطران» وتلاميذه بما هو أعظم؛ جاء «مطران» بمذهب الحرية الفنية الصحيحة، التي تحترم شخصية الفنان واستقلال الفن عن الصناعة والبهارج والأناقة الزخرفية، وكلِّ ما يفرض العبودية على الفن والفنان من ألفاظ وقيود اتباعية، لا يحتمها الجمال المطبوع وأصالة الفن.
دَعَمَ «مطران» وحدة القصيدة وشخصية الفنان، وعزز رسالته كما تدعم الديمقراطيةُ حقوقَ الإنسان، وفتح له باب الحياة على مصراعيه كما أفسح له آفاق الخيال، وأبرز له كل شيء في هذا الوجود — صغيرًا كان أم كبيرًا — كموضوع شعري خليق بعنايته وأهل للتناول الفني إذا ما استطاع الشاعر أن يتجاوب معه، وحبب إليه الموضوعات الإنسانية بدل الاقتصار على العواطف الذاتية فحسب، وأقنع شعراء مدرسته بأن على كل منهم رسالة مثالية لا بد له من أدائها، وليست وظيفة الشاعر أن يكون نَظَّامًا لُغويًّا، أو بين «المرتلين الانتهازيين»، بل عليه أن يكون بين زعماء الفكر، ورسل الوجدان، ودعاة الإصلاح، وأعلام الإيمان؛ لجيلهم ولما بعد جيلهم، وأن يجمع بين كل القيم التي تؤهل للزعامة الروحية والعقلية، والتي تزاوج ما بين أحلام الفنان، وحكمة الفيلسوف الواقعي بهذه التعاليم وما إليها. أنجب «مطران» وتلاميذه إنجابًا ممتازًا شرَّف العربية كما أغنى الأدب الإنساني الصادق، ولئن كانت لمطران مناسبات شتى لقصائده العامة تبعًا للأوضاع الاجتماعية والسياسية في مصر والشرق العربي، إلا أن جميع هذا الشعر زاخر بكل العناصر الرفيعة، التي يتميز بها شعره كيفما كان عنوانه وموضوعه ومناسبته.
وعاطفة الحب التي ألهبت فؤاد «مطران» في صباه، ثم ألقته في لجة الحزن العميق بقية حياته، هي دعامة الزاوية في بنيان شعره الوجداني، وهي التي أسبغت الحنان على إخوانياته العديدة، من ذكريات وتقدير ورثاء، التي حفل بها ديوانه الرائع.
وإن نماذج الخيال الشعري المدهش في قصائده لأعظم من أن تحصر، ومن أقدمها قصيدته «فنجان قهوة» التي قال الأستاذ «عيسى خليل صباغ» عن خياله فيها: إنه تجاوز فيها غاية ما يبلغه قارئ البخت في فنجان القهوة!
«وخليل مطران» الشاب الذي رمى أعوانُ «عبد الحميد» سريرَه بالرصاص، والذي راح يتنقل من قُطر إلى قطر؛ فرارًا من وجه الظلم، والذي احتضنته «مصر» وتبنته عمرًا طويلًا، هو «خليل مطران» الكهل والشيخ الذي نظم الروائع منافحة عن الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية، فغدى بها الشعور الوطني جيلًا بعد جيل!
«وخليل مطران» الأديب اللغوي، تلميذ اليازجيَّيْنِ «الشيخ ناصف والشيخ إبراهيم» وتلميذ ألمعيته، هو الذي خلق العديد من الصيغ والتراكيب البيانية الحرة التي صدمت التقاليد أولًا، ولكن سرعان ما مَكَّنَتْ للعربية وأدبائها من حرية التصرف البياني الجميل؛ وفاقًا لحاجات العصر. «وخليل مطران»، مترجم «شيكسبير»، ونصير الفن، ومدير «الأوبرا» بالقاهرة، والأديب الكريم النفس؛ هو أفضل مثل يضرب إلى جانب «المعري» «وأبي تمام» في البر بالأدباء، مريدين وتلاميذ، بل وخصومًا على السواء في روح فريدة من المحبة والإيثار والإنصاف والتشجيع لمستحقيه.
«وخليل مطران» الاقتصادي المجرب الواعي هو ذلك المعلم الفاضل الحكيم، الذي خدم مصرَ خدماتٍ جليلةً في النقابة الزراعية العامة، وأسدى إليها من آثاره الأدبية الاقتصادية ما لا يزال موضع الإعجاب؛ فكرًا وأسلوبًا وغاية.
هذه لمحات قليلة من شخصية هذا الشاعر الشامخ المتعدد الجوانب، نعرضها في ذكرى وفاته، ومثله لا يعيش في شعره فحسب، بل في أشعار الكثيرين من تلاميذه كذلك في أنحاء العالم العربي، في النهضة الشعرية المطردة الصعود كيفما كانت سِماتُها وألوانها، وخير ترحُّمٍ عليه دراسة آثاره الفخمة واستيحاؤها.
ولا يفوتنا أن نذكر في ختام هذا الحديث المجمَل أن «مَطْرَانَ» الصحفي النزيه الذي خدم القلم والقومية العربية والروح الوطنية؛ لأجدرُ الأدباء بإحياء ذكراه السنوية من محطات الإذاعة العربية، فالإذاعة اللاسلكية بنْتُ الصحافة، ومن محطات الإذاعة هذه يجدر أن يجلجل صوت الأحرار بقول «مطران» الرائد في العهد البائد.
وبقوله:
وبقوله في مقتل بَزُرْجُمْهِرَ على لسان ابنته السافرة، التي تساءل رسول كسرى متعجبًا عن سبب سفورها:
كان ذلك منذ نصف قرن، ولكنَّ «مطران» بقي هو هو شاعر الحرية الجريء، الذي قال في ملحمته «نيرون» بعد ذلك بسنين:
قد يمجَّد «مطران» لابتداعه في جميع ضروب الشعر — وليس أهونَها القصص — ولإيحائه بما تركه لغيره، لا عن عجز بل عن سماحة، كالشعر التمثيلي، وقد يمجَّد — كما مُجِّدَ فعلًا لريادته الممتازة في فنون الأدب، ولكن تبقى الصفة الأهم لمطران والنعت الأكرم، فإن شاعر الحرية الفنان الملهم أَولى الشعراء الأحرار في العالم العربي جميعه بأسمى التقدير، من دُوَله وشعوبه دون أيِّ تَحَفُّظٍ، وليس التقدير الصحيح إلا بنشر جميع آثاره، وتعميم درسها وتشرب مبادئها الإنسانية السامية التي تنظر إلى الإنسان الرفيع والفن الرفيع نظرة واحدة.